الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فيا أهل الإيمان والتوبة: ربكم الكريم القريب يريد أن يتوب عليكم، فتوبوا إلى الله بالندم والانكسار، والإقلاع والاستغفار، مع العزم على تصحيح الحال والمسار، كل منا بحاجة لتجديد التوبة مليًّا، توبة يستذكر فيها العبدُ ماضِيَهُ، ويضع أعماله في ميزان المحاسبة، فيُبصر حينها ذنوبًا سوَّلها الشيطانُ، وخطيئاتٍ زيَّنتها النفس الأمَّارة، فيورثه ذلك ندمًا على ما فات...
الخطبة الأولى:
عبادَ اللهِ: في زبر القرآن نور وهدايات، وتوجيهات ودلالات، تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فصلاحنا وفلاحنا، وعزنا وشرفنا هو بقدر قربنا من كلام ربنا، الذي عجبت منه الجنُّ فقالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)[الْجِنِّ: 1-2].
فأعيرونا القلوب والأسماع مع آية عظيمة، وكل آيات الله عظمى.
نقف في ظلال آية تنفهق لها الأرواح، وتلين لها القلوب، وتتقاطر معها الدموع.
مع آية كريمة نحن أحوج إلى تأمُّلها والعمل بها في هذا الزمن.
آية دالة على كرم الله ورحمته، وإحسانه ورأفته.
يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27].
يا لله... كم تتقاصر الكلمات في وصف عظمة البَرِّ الرحيم، الرؤوف الكريم.
يريد أن يتوب لأجلنا نحن، لمصلحتنا ونجاتنا، وسعادتنا وخلاصنا.
هو غنيٌّ عن كل أحد، فلن يستكثر بعددِ مَنْ تاب، وهو -تعالى- عزيز عن كل فرد فلن يستقوي بمن أناب، وإنما يريد أن يتوبوا لئلا يكونوا من أصحاب السعير، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)[يُونُسَ: 25].
إن كان قُدِّرَ أن يكون كل بني آدم خطاء، فإن ربنا الذي كتب الخطأ أراد أن نتوب ونعود ونؤوب.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، يتوب عليكم جميعكم، مؤمنكم وكافركم، مطعيكم وعاصيكم، ذَكَرِكم وأنثاكم.
تَأَمَّلْ معي... ذنب تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال منه هدا، حين زعم عَبَدَةُ الصليب أن لله ولدًا، ومع هذا فتح لهم بابَ التوبة وحضَّهم عليها ورغبهم فيها، فناداهم: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْمَائِدَةِ: 74].
وتأمل أيضًا خبرَ أصحاب الأخدود، وشناعة طغيان الذين أجرموا حين عذبوا المؤمنين، ونقموا منهم، وكل ذنبهم أنهم آمَنُوا بالله العزيز الحميد، فعذبوهم وحرقوهم، وفتنوهم وأبادوهم، وبعد هذا كله لم يُغْلِقِ اللهُ بابَ التوبة عنهم، (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[الْبُرُوجِ: 10].
بل تأمل شدةَ عداوة قريش للنبي وتصخر قلوبهم عن رحمة المؤمنين، ومع هذا بقيت توبة الله خيارًا أمامهم، فقال الله لنبيه: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)[التَّوْبَةِ: 11].
وتأمل وصفَ الله للمنافقين بأنهم هم العدو فاحذرهم، ورغم ذلك ليس بينهم وبين التوبة حجاب، (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)[النِّسَاءِ: 145-146].
وبالتوبة دعا الله أهلَ الكبائر وعُصاةَ المؤمنين، فقال سبحانه بعد أن ذكر كبيرة الشرك وقتل النفس والزنى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا)[الْفُرْقَانِ: 68-70].
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، واللهُ يا ابنَ آدم، وَعْدٌ من الله، ومن أوفى بعهده من الله، لو بلغتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السماءِ، ثم استَغْفَرتَ الله لغفرها لك ولا يبالي.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، سفَّاح جزَّار مبير، قتل مائة نفس، تأذَّت من جرائمه البلادُ والعبادُ، اسْتَغْفَرَ وتاب، فاستقبله عَفْوُ الله ورحمته، ورضوانه وجنته.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، سمَّى نفسَه بالتواب، صيغة مبالغة؛ لكثرة توبته على عباده، وتوفيقه لهم للتوبة، وقد وردت لفظة التواب، وتواب في القرآن إحدى عشرة مرة، وغالبها مقرون باسم الله الرحيم، وفي هذا إشارة أن توبته على عباده وتوفيقه لهم للتوبة هي من رحمته تعالى بهم.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، إنها إرادة دائمة متجددة، كل يوم وليلة، وساعة ولحظة، وفي الحديث: "إنَّ اللِهَ -عزَّ وجلَّ- يبْسُطُ يدَهُ باللَّيْلٍ ليَتوبَ مُسيءُ النهار، ويبسُطُ يدَه بالنَّهار ليتُوبَ مُسيء الليلِ، حتى تطْلُعَ الشمسُ من مغرِبِها" (خرجه مسلم).
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، فهو -سبحانه- يَنْزِلُ كلَّ ليلة في الثلث الأخير، ليتوب على من تاب، ويقول: "من يستغفرني فأغفر له".
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، يفرح بتوبة النادمين، وندم التائبين، أشد من فرح ذلك الرجل الذي كان على راحلته بأرضٍ فلاةٍ فَانْفَلَتتْ منه، وعليها طعامُه وشرابهُ فَأَيسَ منها"، فأتَى شَجرة فاضطَجَع في ظِلِّها قد أيسَ من راحلته فبينا هو كذلك، إذا هو بها قائمةٌ عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال من شِدَّة الفرح: "اللهم أنت عَبْدي وأنا ربكَ، أخطأ من شدة الفرح".
ليس فرح وحسب، بل يعقبها محبة منه -سبحانه- لمن تاب: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 222].
وليس حب لأهل التوبة وحسب، بل حب ومكافأة، فقد قال سبحانه في آخر سورة الفرقان: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الْفُرْقَانِ: 70].
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، يسَّر لهم دروبَ الطاعات، وأعانهم على كثير من العبادات، وصرف عنهم كثير من البلايا والمصيبات.
كم تمر بالإنسان من أهواء، وكم تلفه من شهوات، وكم تعتريه من غفلات، وربما ضلالات، ولكنها كلها تطيش وتتلاشى مع لحظة ندم، وساعة استغفار، للملك الجبار؛ لأن الله يريد أن يتوب عليكم.
شيخ كبير هرم، قد تجعد وجهه، واحدودب ظهره، وسقط حاجباه على عينيه، تجره رجلاه، نحو النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أسلمتَ؟" قال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإن الله غافِرٌ لكَ ما كنتَ كذلك، ومبدل سيئاتك حسنات". فقال: يا رسول الله، وغَدَراتي وفَجَراتي؟ فقال: "وغَدرَاتك وفَجَراتك". فَوَلّى الرجل وهو يهلل ويكبر، حتى غاب صوته وسواده.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزُّمَرِ: 53].
بارك الله لي ولكم في القرآن ...
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أهل الإيمان: ومن محبة الله لتوبة عباده أن شرع لهم مواسم فاضلة، يضاعف فيها الأجر، ويَمحي عنهم الوزرَ، وتصب فيها الحسنات في الميزان صبًّا.
خصهم بأيام فاضلات مبرورات، العمل فيها خير من الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خَرجَ يُخاطِرُ بنفسه ومَاله، فلم يرجع بشيء.
فخير ما نستقبل به هذه الأيام، هو تجديد التوبة لله، الذي يريد منا أن نتوب، وأن نُقبل عليه بالقليل، ليكافئنا بالكثير.
فيا أهل الإيمان والتوبة: ربكم الكريم القريب يريد أن يتوب عليكم، فتوبوا إلى الله بالندم والانكسار، والإقلاع والاستغفار، مع العزم على تصحيح الحال والمسار.
كل منا بحاجة لتجديد التوبة مليًّا، توبة يستذكر فيها العبدُ ماضِيَهُ، ويضع أعماله في ميزان المحاسبة، فيُبصر حينها ذنوبًا سوَّلها الشيطانُ، وخطيئاتٍ زيَّنتها النفس الأمَّارة، فيورثه ذلك ندمًا على ما فات، ومجافاة للذنب فيما هو آتٍ.
وإذا اجتمع للعبد توبة نصوحٌ، مع أعمال صالحة في أزمنة فاضلة فهذا -والله- علامة التوفيق وعنوان الفَلاح، (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ)[الْقَصَصِ: 67].
يَا رَبِّ، إِنِّي مُذنِـبٌ | يرجُـوكَ عطفَـكَ، يَا إِلهْ |
يَا رَبِّ، فـاغفِـرْ زَلَّتِي | يَا مَـنْ لَهُ، تـُحنَى الجِـباهْ |
إِنِّي أتـيتُـكَ طـائِـعـًا | يَا مَن عَفَوتَ عنِ العُصاهْ |
إِنِّي أتـيتُـكَ طـائِـعـًا | فبِعَـطفِكُم تـحلُـو الـحياهْ |
إنِّي لأَرجــو رَحـمـةً | تـُهـدى إلـيَّ مِـنَ الإلــهْ |
ما خابَ مَن طلبَ الهُدى | ما خاب مَن يرجُو رِضاهْ |
ما خابَ عبدٌ يَشتكي | أو خـابَ عبـدٌ في حِـمـاهْ |
يا رَبِّ، فاقبَلْ تَوبَتِي | واقبَـلْ صِيامِـي والصَّـلاهْ |
اللهم صلِّ على محمد ...