السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
صومُ ساعاتٍ فيه تكفيرٌ لجبالِ السيِّئاتِ، صومُ يومٍ واحدٍ يُكفِّرُ أكثرَ من سبعمائةِ يومٍ، وصومُ يومٍ واحدٍ يُكفِّرُ سنةً كاملةً، وما كانَ فيها من اللَّهو والعِصيانِ، ليسَ لهذا معنى إلا أنَّه -سُبحانَه- يحبُّ التَّوبةَ، ويحبُّ من عبادِه أن يُقبلوا عليه بالقليلِ، ليُقبلَ عليهم بالجزيلِ، فأيُّ فضلٍ هذا؟، وأيُّ كرمٍ هذا؟، وأيُّ عَفْوٍ هذا؟، وأيُّ رحمةٍ ومغفرةٍ هذه؟، فأينَ التَّائبونَ؟، أينَ المُستغفرونَ؟...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي خَلقَ فسوَّى، والذي قدَّرَ فهَدى، والذي أخرجَ المَرعى؛ فجعله غثاءً أَحوى، نَحمدُه -سبحانَه- فهو أَهلُ الحمدِ وأوفاهُ، ونَستغفرُه من الزَّللِ فهو الغَفَّارُ، ونسألُه العَونَ فهو المعينُ، ونسألُه الكِفايةَ فهو الكَافي، ونسألُه الشِّفاءَ فهو الشَّافي، نَستعينُ به في السَّراءِ على الضَّراءِ، وفي الضَّراءِ على السَّراءِ فهو الرَّحمنُ الرَّحيمُ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له شهادةً يُنقذُنا اللهُ -جَلَّ وعَلا- بها في الدُّنيا، وشهادةً ننجو بها في الآخرةِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وصَفيُّهُ وخليلُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ، واقتفى أثرَهم بإيمانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعدُ:
فإني أُوصي نفسي وإياكم بتقوى اللهِ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
عبادَ اللهِ: هل تعلمونَ ماذا يُريدُ اللهُ -تعالى-؟، اسمعْ إلى هذه الآيةَ: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]. اللهُ أكبرُ، خالقُنا ورازقُنا صاحبُ الفضلِ كلِّه على العالَمينَ، يُريدُنا أن نتوبَ فيتوبَ علينا أجمعينَ، حتى نرجعَ إلى الجنَّةِ التي أخرجنا منها إبليسُ اللَّعينُ، ولذلكَ أرسلَ الرُّسلَ -عليهمُ السَّلامُ-، وأنزلَ الكُتبَ بواسطةِ الملائكةِ الكِرامِ، ليدلَّنا على طريقِ الجنَّةِ فندخلَها بِسلامٍ، ولذلكَ قالَ سُبحانَه: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)[يُونُسَ: 25].
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ قالَ عمَّن أشركَ به وزعمَ أنَّ الآلهةَ ثلاثةٌ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الْمَائِدَةِ: 73]، ثُمَّ ماذا قالَ لهم؟: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْمَائِدَةِ: 74]، اللهُ أكبرُ، توَّابٌ يحبُ التَّوبةَ على الجميعِ، لا تضرُّه معصيةُ العاصينَ، مهما عَظمتْ أعمالُهم، فأينَ التَّائبونَ؟
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ ذكرَ قصَّةَ الذينَ حرَّقوا عبادَه المؤمنينَ في الأخدودِ، لا لشيءٍ إلا لأنَّهم آمنوا باللهِ العزيزِ الحميدِ، ثُمَّ خاطبَهم بقولِه: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[الْبُرُوجِ: 10]، قالَ الحسنُ البَصريُّ -رحمَه اللهُ-: "انظروا إلى هذا الكرمِ والجودِ، قَتلوا أولياءَه، وهو يدعوهم إلى التَّوبةِ والمَغفرةِ".
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ لمَّا ذكرَ تعالى أخبثَ أهلِ النَّارِ، وأسفلَهم منزلةً، قالَ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[النِّسَاءِ: 145]، ولأنَّه يحبُ التَّوبةَ قالَ: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)[النِّسَاءِ: 146]، فلا زالَ هناكَ أملٌ لمن تابَ منهم.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ يَنزلُ كلَّ ليلةٍ ليسمعَ أنينَ التَّائبينَ، ويُجيبَ دُعاءَ الدَّاعينَ، ويغفرُ لعبادِه المُستغفرينَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"، لا إلهَ إلا اللهُ .. ينزلُ سُبحانَه كلَّ ليلةٍ ليَعرُضَ علينا التَّوبةَ والمغفرةَ، فمنْ تابَ تابَ اللهُ عليه، ومن استغفرَ غفرَ اللهُ له.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ تُفتحُ أبوابُ الجنَّةِ مرتينَ في الأسبوعِ للمؤمنينَ، فيغفرُ للمُوَحِّدينَ إلا المُتخاصِمِينَ، كما قالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"، وهكذا تتكرَّرُ الفرصةُ مرتينِ أُسبوعيًّا للفوزِ بمغفرةِ ربِّ العالمينَ، ولكن إياكَ والخِصامَ مع إخوانِك المُسلمينَ.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ ختمَ الأسبوعَ بساعةٍ، لا يَسألُه عبدٌ مسلمٌ شيئًا إلا أجابَ دُعاهُ، ومن أعظمِ الدُّعاءِ هو التَّوبةُ من الذُّنوبِ، ورجاءُ المغفرةِ من علَّامِ الغُيوبِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ، لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ"، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَقُلْتُ لَهُ: فَأَخْبِرْنِي بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي"، وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَا يُصَلِّي فِيهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ"، قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هُوَ ذَاكَ". فأخبرني عن مكانِكَ في آخرِ ساعةٍ من يومِ الجُمعةِ، وعن دُعائكَ، هل تُريدُ ما يُريدُه اللهُ -تعالى- لكَ، فهو -سُبحانَه- يُريدُ أن يتوبَ عليكَ.
يا ربِّ إني قد أَتيتُك تَائبًا | فاقبلْ بعفوكَ تَوبةَ النَّدمانِ |
من لي سِواكَ يُجيرني ويُعيدُني | من عَالمِ الأهواءِ والشَّيطانِ |
سُدَّتْ بوجهي كُلُّ أبوابِ المُنى | فأتيتُ بابَك طالبَ الغُفرانِ |
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ جعلَ في السَّنةِ شهرًا، هو شهرُ التَّوبةِ وغُفرانِ الخطايا، صومُه مغفرةٌ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وقيامُه مغفرةٌ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، بل قيامُ ليلةٍ فيه من لياليهِ الأخيرةِ، مغفرةٌ لذنوبِ السَّنواتِ الكثيرةِ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، المغفرةُ فيه أسهلُ من شُربِ الماءِ؛ ولذلكَ جاءَ في الحديثِ: "رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ"، فيه يتوبُ اللهُ -تعالى- على التَّائبينَ، ويغفرُ اللهُ -تعالى- ذنوبَ المُستغفرينَ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ"، فكما كفاكَ ربُّكَ هَمَّ الصَّغائرِ، فتُبْ إليه -سُبحانَه- من الكبائرِ.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ ختمَ سُبحانَه السَّنةَ بعشرةِ أيامٍ هي خيرُ أيامِ الدُّنيا، الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَائرِ العَامِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسِلَّمَ-: "وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"، وفي هذه الأيامِ، يومُ عرفةَ قالَ فيه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ"، ثُمَّ جعلَ في بدايةِ السَّنةِ يومًا، من صامَه غُفِرَ له السَّنةُ الماضيةُ، حتى يبدأَ العامَ الجديدَ، بصفحةٍ بيضاءَ نقيَّةٍ، كما جاءَ في الحديثِ: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ".
فما معنى هذا أيُّها الأحبابُ؟ صومُ ساعاتٍ فيه تكفيرٌ لجبالِ السيِّئاتِ، صومُ يومٍ واحدٍ يُكفِّرُ أكثرَ من سبعمائةِ يومٍ، وصومُ يومٍ واحدٍ يُكفِّرُ سنةً كاملةً، وما كانَ فيها من اللَّهو والعِصيانِ، ليسَ لهذا معنى إلا أنَّه -سُبحانَه- يحبُّ التَّوبةَ، ويحبُّ من عبادِه أن يُقبلوا عليه بالقليلِ، ليُقبلَ عليهم بالجزيلِ، فأيُّ فضلٍ هذا؟، وأيُّ كرمٍ هذا؟، وأيُّ عَفْوٍ هذا؟، وأيُّ رحمةٍ ومغفرةٍ هذه؟، فأينَ التَّائبونَ؟، أينَ المُستغفرونَ؟ أينَ من يُوافقُ اللهَ -تعالى- في إرادتِه، فهو -سُبحانَه- (يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27].
يا ربِّ إنَّ الصَّفحَ مِنكَ مُؤَمَّلُ | فاصفحْ وأَكرمْ إنَّكَ المُتفضِّلُ |
هَذا عُبَيْدُكَ جاءَ يَدعوكَ تَائبًا | والتَّوبُ عِندَكَ يا إلهي يُقبلُ |
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني اللهُ وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على نعمةِ الإسلامِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له الملكُ العلَّامُ، وأشهدُ أن نبيَّنا ورسولَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِه وأصحابِهِ إلى يومِ الدينِ، أما بعد:
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ يفرحُ بتوبةِ عبدِه أشدَّ الفرحِ، كما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ"، يقولُ ابنُ القيمِ -رحمَه اللهُ-: "ولم يجئ هذا الفرحُ في شيءٍ من الطَّاعاتِ سِوى التَّوبةِ".
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النِّسَاءِ: 27]، ولذلكَ جعلَ للتَّوبةِ بابًا عظيمًا جِهةَ المغربِ، كما جاءَ في الحديثِ: "أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ، لاَ يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)[الْأَنْعَامِ: 158].
فيا أيُّها الحبيبُ: ضعْ يدَك بيدٍّ بُسطتْ لكَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأقبلْ على رحمةِ العزيزِ الغفَّارِ، يَدٌ بسطَها اللهُ -تعالى- لعبادِه حتى لا يقنطوا من رحمتِه، كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إِن الله -تَعَالَى- يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها"، فأدركْ البابَ قبلَ الإغلاقِ، في يومٍ عظيمٍ يكونُ في مغربِه الإشراقُ، فلا توبةَ حينَها تُسمعُ، ولا ندمَ حينَها يَنفعُ.
اللهمَّ اغفر لنا ذنوبَنا كلَّها، دِقَها وجِلَّها، أولَها وآخرَها، ما علمنا منها وما لم نعلمْ، اللهمَّ إن ذنوبَنا قد بلغتَ عَنانَ السَّماءِ، وإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفرها لنا يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم لا تعاملنا بما نحنُ أهلُه، وعاملنا بما أنت أهلُه، أنتَ أهلُ التقوى وأهلُ المغفرةِ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الكفرَ والكافرينَ، وأعلِ رايةَ الحقِّ والدينِ، اللهم مَنْ أرادَنا والإسلامَ والمسلمينَ بعزٍّ فاجعل عِزَّ الإسلامِ على يديه، ومن أرادنا والإسلامَ والمسلمينَ بكيدٍ فكِدْهُ يا ربَّ العالمينَ، ورُدَّ كيدَه إلى نحرِه، واجعلْ تدبيرَه تدميرَه، واجعل الدائرةَ تدورُ عليه، اللهم اهدنا واهدِ بنا، وانصرنا ولا تنصرْ علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وآثرنا ولا تُؤثر علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم هيئ لهذه الأمةِ أمرَ رشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤْمَرُ فيه بالمعروفِ، ويُنهى فيه عن المنكرِ، وصلى اللهُ وسلمَ وباركَ على محمدٍ وآلِه وصحبِه وسلمَ تسليمًا.