الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
فَحَرِيٌّ بِمَنْ أَدْرَكَ هَذِهِ الْعَشْرَ أَلَّا يُفَوِّتَ لَحْظَةً مِنْهَا فِي غَيْرِ طَاعَةٍ، وَإِنَّمَا يَسْعَى لِاغْتِنَامِهَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ، وَيُكْثِرَ فِيهَا مِنَ التَّكْبيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ لله -تَعَالَى-...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ الْعَامِلِينَ لِطَاعَتِهِ فَوَجَدُوا سَعْيَهُمْ مَشْكُورًا، وَحَقَّقَ آمَالَ الآمِلِينَ بِرَحْمَتِهِ فَمَنَحَهُمْ عَطَاءً مَوْفُورًا، وَبَسَطَ بِسَاطَ كَرَمِهِ لِلتَّائِبِينَ فَأَصْبَحَ وِزْرُهُمْ مَغْفُورًا، سُبْحَانَهُ فَتَحَ الْبَابَ لِلطَّالِبِينَ، وَأَظْهَرَ غِنَاهُ لِلرَّاغِبِينَ، وَأَطْلَقَ لِلسُّؤَالِ أَلِسَنَةِ الْقَاصِدِينَ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غَافِرٍ: 60].
وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إِلَّا الله، وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَحَبيبَنَا وَشَفِيعَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَصُفِّيهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ.
مَلَأَتْ نُبُوَّتُهُ الْوُجُودَ فَأَظْهَرَا | بُحسَامِهِ الدِّينَ الصَّحِيحَ فَأَسْفَرَ |
مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلِيهِ كَانَ بَخِيلَا | صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَا |
فاللَّهُمَّ صِلٍّ وَسَلِّم وَبَارِك عَلَيْهِ، وَعَلَى آلهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَتَمَسَّكَ بِسُنَّتِهِ، وَاقْتَدَى بِهَدْيِهِ وَاتَّبَعُهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَنَحْنُ مَعَهُمْ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقَوُا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حَقَّ تُقاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ عَادَةِ الْمُؤْمِنِ الْحَرِيصِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَغْتَنِمَ كُلَّ فُرْصَةٍ تُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَتَزِيدُ مِنْ دَرَجَاتِهِ وَحَسَنَاتِهِ، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرَصِ الَّتِي يُمكِنُ أَنْ تَمُرَّ بِالْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يُيَسِّرَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ إِدْرَاكَ الْعَشْرِ الْأوَائِلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَاسْمَحُوا لِي فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ أن أَتَوَقَّفَ عَشْرَ وَقَفَاتٍ عَنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
الْوَقْفَةُ الْأُولَى: إِنْ يَسَّرَ اللهُ لَكَ إِدْرَاكَ هَذِهِ الْعَشْرِ فَاعْلَمْ أَنَّكَ أَدْرَكَتَ أيَّامًا فَاضِلَةً جِدًّا، بَلْ قِيلَ: إِنَّهَا أفْضَلُ أيَّامِ الْعَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ أيَّامٍ أفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ"، وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ -تَعَالَى- بِهَذِهِ الْأيَّامِ الْعَشْرِ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1-2]، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "اللَّيَالِي الْعَشْرُ: الْمُرَادُ بِهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ".
الْوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا يَسَّرَ اللهُ -تَعَالَى- لَكَ إِدْرَاكَ هَذِهِ الْعَشْرِ فَاشْكُرْهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى هَذِهِ النِّعمَةِ الْعَظِيمَةِ، فَكَمْ مِنْ إِخْوَانِنَا الْيَوْمَ مِمَّنْ هُمْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى مِمَّنْ يَتَمَنَّى أَنْ يُدْرِكَ هَذِهِ الْأيَّامَ، فَيَحْظَى مِنْهَا بِتَكْبيرَةٍ أَوْ تَسْبِيحَةٍ، أَوْ يَصُومَ يَوْمًا مِنْ أيَّامِهَا، أَوْ يَقُومَ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِيِهَا. وَإِنْ وَفَّقَكَ اللهُ أَيْضًا لِاغْتِنَامِ هَذِهِ الْعَشْر فَاعْلَمْ أَنَّكَ عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ... وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ نِعَمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ.
الْوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ سِرَّ تَمَيُّزِ هَذِهِ الْعَشْر وَتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بِقولِهِ: "وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهِي الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، وَلَا يتأتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا".
فَحَرِيٌّ بِمَنْ أَدْرَكَ هَذِهِ الْعَشْرَ أَلَّا يُفَوِّتَ لَحْظَةً مِنْهَا فِي غَيْرِ طَاعَةٍ، وَإِنَّمَا يَسْعَى لِاغْتِنَامِهَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ، وَيُكْثِرَ فِيهَا مِنَ التَّكْبيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ لله -تَعَالَى-.
الْوَقْفَةُ الرَّابعَةُ: الْعَشْرُ مِنْ ذِي الحِجَّة هِي أيَّامٌ فَاضِلَةٌ وَقَعَتْ فِي أَشْهُرٍ فَاضِلَةٍ هِي الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36]. وَالظُّلْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فَسَّرَهُ التَّابِعِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ الْعَمَلُ بمَعَاصِي اللهِ، وَتَرْكُ طَاعَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "إِنَّ اللهَ اخْتَصَّ مِنَ الشهورِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أعْظَمَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعَظْمَ". فَلنَتَنَبَّه -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- مِنَ الْوُقُوعِ فِي الذُّنُوبِ كُلَّ وَقْتٍ وكلَّ حِينٍ، وَخُصُوصًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَأَخَصُّ مِنْهَا هَذِهِ الْعَشْرَ الْمُبَارَكَةَ؛ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيهَا أعْظَمُ.
الْوَقْفَةُ الْخَامسَةُ: مِنْ أَعْظَمِ أَعْمَالِ الْعَشْرِ الْأوَائِلِ مِنْ ذِي الحِجَّة الْإكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- فِيهَا، امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الْحَجِّ: 28]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: أيَّامُ الْعَشْر. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَرْفُوعًا: "مَا مِنْ أيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبيرِ وَالتَّحْمِيدِ"؛ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "هَذَا حَديثٌ حَسَنٌ".
فَلْنُكْثِرْ فِي هَذِهِ الْأيَّامِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، لَا تَفْتُرْ أَلْسِنَتُنَا عَنْ ذِكْرِهِ وَتَكْبيرِهِ وَتَحْمِيدِهِ، أَكْثِرُوا مِنَ التَّكْبيرِ، وَلْتَضُجَّ بِذَلِكَ الْبُيُوتُ وَالْأَسْوَاقُ وَالتَّجَمُّعَاتُ، عَظِّمُوا اللهَ، مَجِّدُوهُ فَهُوَ أهْلُ التَّمْجيدِ، أَعْلِنُوا تَوْحِيدَهُ لِلْكَوْنِ كُلِّهِ، وَامْدَحُوهُ -سُبْحَانَهُ- فَهُوَ أهْلُ الْمَدْحِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أعْظَمِ الذِّكْرِ للهِ -تَعَالَى- تِلَاوَةَ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، فَأَكْثِرُوا مِنْ قِرَاءتِهِ فِي هَذِهِ الْأيَّامِ، وَاحْرِصُوا أَلَّا تَمَضِيَ هَذِهِ الْعَشْرُ إِلَّا وَقَدْ خَتَمَ كُلُّ مِنْكُمْ خَتْمَةً أَوْ أَكْثَرَ.
الْوَقْفَةُ السَّادسَةُ: وَمِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْعَشْرِ الْعَظِيمَةِ: الصِّيَامُ، لِدُخُولِهِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عُمومًا، فَعَنْ هُنَيدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ تِسْعَ ذِي الحِجَّة، وَيَوْمَ عَاشُورَاء، وثَلَاثَةَ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ". (رَوَاهُ أَحَمْدُ، وَأَبُو دَاوُدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، قَالَ الْإمَامُ النَّوَوِيُّ -رحمه الله- عَنْ صَيامِ أيَّامِ الْعَشْر: "إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ استحبابًا شَدِيدًا".
فَاحْرِصُوا عَلَى صِيَامِ التِّسْعِ مِنْ ذِي الحِجَّة، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَاعَدَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ أيَّامًا فَاضِلَةً، وَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ أفْضَلَ أيَّامِ الْعَامِ؟
الْوَقْفَةُ السَّابعَةُ: لَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- يَحرِصُونَ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ الْأيَّامِ الْعَشْرَ، وَيُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمًا شَديدًا، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:" كَانُوا يُعَظِّمُونَ ثَلاثَ عَشَرَاتٍ: الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَالْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ ذِي الحِجَّة، وَالْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانِ".
وَكَانُوا يَهْتَمُّونَ بِإِحْيَاءِ لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا بِالْعِبَادَةِ، فَهَذَا سَعِيدُ بْن جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- كَانَ إِذَا دَخَلَتِ أيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يُقَدَرُ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُطْفِئُوا سُرُجَكُمْ لياليَ الْعَشْرِ" -تُعْجِبُهُ الْعِبَادَةُ-. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةٍ وَابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَخْرُجَانِ أيَّامَ الْعَشْرِ إِلَى السُّوقِ فَيُكَبِّرَانِ؛ فَيُكَبِّرُ النَّاسُ مَعَهُمَا، لَا يَأْتِيَانِ السُّوقَ إِلَّا لِذَلِكَ.
فَاللَّهُمُّ بَلِّغْنَا الْعَشْرَ الْأوَائِلَ مِنْ ذِي الحِجَّة، وَأَعِنَّا عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ الْعَشْرِ بِمَا يَنْفَعُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، قَدْ قُلْتُ مَا سَمِعْتُم، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إحْسَانِهِ وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الداعي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسُلَّمُ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَإِخْوَانِهِ وخِلَّانِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أثَرَهُ وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقَوُا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَمَا زِلْنَا فِي تَعْدَادِ بَعْضِ الْوَقَفَاتِ مَعَ عَشْرِ ذِي الحِجَّة:
الْوَقْفَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمُوا -وَفَّقَكُمُ اللهُ تَعَالَى- أَنَّ الْأُضْحِيَةَ مَشْرُوعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى وُجُوبِهَا، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الْكَوْثَرِ: 2]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "النَّحْرُ: النُّسُكُ، وَالذَّبْحُ يَوْمَ الْأَضْحَى".
وَضَحَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَديثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ".
فَاحْرِصُوا بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ عَلَى أَنْ يذبحَ كُلٌّ مِنْكُمْ أٌضحِيَةً، (رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ إهْرَاقِ الدَّمِ، وَإِنَّهُ لَيُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالْأرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا"، (وَرَوَى أَحَمْدُ، وَالْحَاكِمُ فِي مُستَدرَكِهِ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً لِأَنْ يُضَحِّيَ فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَحْضُرْ مُصَلَّانَا".
الْوَقْفَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا عَقَدْتَ الْعَزْمَ عَلَى أَنْ تُضَحِّيَ فَاحْرِصْ عَلَى أَلَّا تَأْخُذَ مِنْ شَعْرِكَ أَوْ ظُفرِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غِيَابِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْأَوَّلِ مِنْ ذِي الحِجَّة وَحَتَّى تَذْبَحَ أُضْحِيَتَكَ، فَقَدْ رَوَى (مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ) عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا".
وَمَنْ أَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ بَشَرَتِهِ شَيْئًا بَعْدَ دُخُولِ الْعَشْر أَثِمَ إِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا، وَأُضْحِيَتُهُ صَحِيحَةٌ وَلَا أثَرَ لِذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهَا وإِجْزَائِهَا.
الْوَقْفَةُ الْعَاشِرَةُ: احْرِصُوا فِي هَذِهِ الْأيَّامِ الْعَشْرِ أَنْ تَزْرَعُوا فِي أبْنَائِكم قِيمَةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَحُثُّوهُمْ وَتُحَفِّزُوهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: "اللهُ -سُبْحَانَهُ- يَسْأَلُ الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ".
عَلِّمُوهُمْ فَضْلَ الْعَشْرِ، وَاصْطَحِبُوهُمْ مَعَكُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَامْكُثُوا فِيهَا وَهُمْ إِلَى جِوَارِكُمْ، كَبِّرُوا وَارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالتَّكْبيرِ، ضَعُوا لَهُمُ الْحَوَافِزَ والبرامِجَ وَالْمُسَابَقَاتِ، وَكُونُوا قُدْوَةً لَهُمْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ، صُومُوا وَأَفْطِرُوا سَوِيًّا، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ مَوَاسِمَ الْخَيْرِ فُرَصٌ مَجَّانِيَّةٌ لِتَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ لَا يَسْتَغِلُّهَا إِلَّا مُوَفَّقٌ.
يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيهِ مُحَمَّدِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعَلَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَالْإكْثَارِ مِنْهَا مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأيَّامِ، فَاللهَمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحبِهِ أَجَمْعَيْن.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اللهَ يَأْمَرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وإيتاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذكُرُوا اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ يَذكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكرُ اللهُ أكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.