الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله الحميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان حريصًا على أن يَجعل في المسلم رقيبًا من داخله يزْجُره في خلواتِه، ويضبطه في حركاته وسكناتِه وجميع تصرُّفاته، كما كان للشابِّ أن يكفَّ عن الزِّنا لو كانت معالجتُه بالشدَّة التي ابتدأه بِها مَن كان حوْل النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، لكنَّ الشابَّ أتاه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما من شيء أحب إليْه من الزِّنا، ثمَّ انصرف بعد موعِظة النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما من شيءٍ أبْغَض إليْه من الزِّنا...
الحمد لله الذي لا يَخفى عليه شيء في الأرض ولا في السَّماء، يعْلم خائنة الأعيُن وما تخفي الصُّدور، الحكيم الَّذي أعزَّ مَن خاف مقام ربِّه ونَهى النَّفس عن الهوى والفجور، وأشْهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، جعل الإحسان للطَّائعين، والذُّلَّ والعقاب للعاصين، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، دعا إلى الخير والصَّلاح، وحذَّر من الشَّرِّ والفساد، وما ترك لأمَّتِه من طريق خيرٍ إلاَّ بيَّنه لها وحثَّها عليه، ولا طريق شرٍّ إلاَّ وبيَّنه لها وحذَّرها منه، حتَّى ترك أمَّته على مثل البيْضاء، ليلُها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلاَّ هالِك، فجزاه الله عن أمَّته خير الجزاءِ، صلَّى الله عليْه وعلى آله وصحْبه الذين امتثلوا أمْرَه واجتنبوا نَهيه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
أيُّها النَّاس: روى الإمام أحْمد في مسنده بسندٍ صحيح، عن أبي أمامة -رضي الله عنْه- أنَّه قال: إنَّ فتى شابًّا أتى النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: يا رسول الله: ائذنْ لي في الزِّنا، فأقبل القومُ عليْه فزجروه وقالوا: مَهْ، مه، فقال -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: "ادنه"، فدنا منه قريبًا فجلس، فقال -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: "أتحبُّه لأمِّك؟!"، قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: "ولا النَّاس يُحبُّونه لأمَّهاتِهم"، قال: "أفتحبُّه لابنتِك؟!"، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: "ولا النَّاس يُحبُّونَه لبناتِهم"، قال: "أفتحبُّه لأختك؟!"، قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: "ولا النَّاس يُحبُّونه لأخواتِهم"، قال: "أفتحبُّه لعمَّتك؟!"، قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: "ولا النَّاس يُحبُّونه لعمَّاتهم"، قال: "أفتحبُّه لخالتك؟!"، قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: "ولا النَّاس يُحبُّونه لخالاتِهم"، قال: فوضع رسولُ الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم- يدَه عليه وقال: "اللهُمَّ اغفِر ذنبَه، وطهِّر قلبَه، وحصِّنْ فرْجَه"، فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفِت إلى شيء.
ومعالجته -صلَّى الله عليه وسلَّم- لهذا الفتى تشبِه معالجته للأعرابي الَّذي بال في المسجِد، فانتهره النَّاس، فنهاهم عن ذلك وعلَّم الأعرابيَّ حُرمة المساجد بأرْفع أسلوب في التَّربية التي أدَّب الله سبحانه رسولَه -صلَّى الله عليه وسلَّم- بها؛ إذْ إنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان حريصًا على أن يَجعل في المسلم رقيبًا من داخله يزْجُره في خلواتِه، ويضبطه في حركاته وسكناتِه وجميع تصرُّفاته، كما كان للشابِّ أن يكفَّ عن الزِّنا لو كانت معالجتُه بالشدَّة التي ابتدأه بِها مَن كان حوْل النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، لكنَّ الشابَّ أتاه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما من شيء أحب إليْه من الزِّنا، ثمَّ انصرف بعد موعِظة النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما من شيءٍ أبْغَض إليْه من الزِّنا؛ ولِذا فمن الأهمِّيَّة بمكان أن تكون سريرة الإنسان وعلانيته سواءً، أن يكون اجتِناب المعاصي في خلواته كاجتِنابها في أوْساط النَّاس، أمَّا إذا كان اجتِناب المعاصي بوجود النَّاس، فإذا خلا العبدُ بارز الله بالمعاصي، فهذا هو المرض والدَّاء العُضال الَّذي حرص الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- على تَجنيب الفتَى إيَّاه، ومَن كان له واعظ من قلبِه زاده الله -عزَّ وجلَّ- عزًّا.
الذُّل في طاعة الله أقْرب من العزِّ في معصيته، ولا شكَّ أنَّ تجنُّب المعصية مع القُدْرة عليْها وانتِفاء الموانع لها بابٌ عظيم، وأنَّ من يدخل منْه رجلان، أحدُهما: مَن تمكَّن من قلبِه الإيمان بالآخِرة، وما أعدَّه الله فيها من الثَّواب لِمن أطاعه والعقابِ لِمن عصاه، فآثر أدْنى الفوْزين واختار أسهل العقوبتين، والثَّاني: رجُلٌ غلب عقلُه هواه، فعلِم ما في الفاحشة من المفاسد وما بالعدول عنْها من المصالح، فآثر الأعْلى على الأدنى، وقد جَمع الله -سبحانه- ليوسف الصدِّيق -صلواتُ الله وسلامه عليه- بين الأمرين، فاختار عقوبة الدُّنيا بالسجْن على ارتِكاب المحارم، ولمَّا استعدَّت المرأة وأبعدت الحرَس وغلَّقت الأبواب وهدَّدتْه بالسجْن إن لم يفعل، وقالت له: ادخل معي القيطون -تعني: الستر- قال: إن القيطون لا يسترني من ربِّي، ومع هذا فهو يتضرَّع إلى مولاه ويقول: (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) [يوسف: 33].
فلا يركن العبدُ إلى نفسه وصبره وعفَّته، ومن ركن إلى ذلك تخلَّت عنْه عصمة الله، وأحاط به الخذلان، وقضى عدْل الله لمن امتنع عن الفاحشة مخافةَ الله مكانةً يُغْبَط عليها يوْم القيامة؛ ففي الصَّحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنْه- عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه"، وذكر منهم: "رجلٌ دعتْه امرأةٌ ذات منصِبٍ وجَمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله ربَّ العالمين".
فلا يكون المؤمن صادقًا في إيمانه، ثابتَ العقيدة، عالمًا بأنَّ الله معه حيث كان، حتَّى يَخافه سرًّا وعلنًا وظاهرًا وباطنًا، وحتَّى يعبُدَه في نفسِه وخلوته كما يعبدُه في الملأ وحيث يراه النَّاس، فيترك الحرام وهو قادر عليْه، قد تهيَّأت له أسبابُه، والجسم صحيح والنَّفس سوَّاقة، ولا رقيب له غير الله الَّذي لا تخْفى عليه خافية، وبذلك يكسب هذه المعركة ويصدُق فيه قول الشَّاعر:
لَيْسَ الشُّجَاعُ الَّذِي يَحْمِي فَرِيسَتَهُ
وهذا السَّري بن إسماعيل -رحِمه الله تعالى- نزل مرَّة في درب بِمصر، وكانت فيه امرأة جميلة فتنت النَّاس بِجمالِها فعلمتْ به، فقالت: لأفتِننَّه، فلمَّا دخلت من باب الدَّار تكشَّفت وأظهرتْ نفسَها فقال: ما لك؟! فقالت: هل لك في فراشٍ وطي وعيش رخي، فأقبل عليْها وهو يقول:
وَكَمْ مِنْ مَعَاصٍ نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً
وراوَدَ رجُلٌ امرأةً عن نفسِها وطلب منها أن تُغْلِق الأبواب فأغلقتْها، فلمَّا دنا منها قالت: بقِي باب لم أغلقْه، قال: أي باب؟! قالت: الباب الَّذي بينك وبين الله، فلم يتعرَّض لها.
وآخر ذكر أنَّه في بعض اللَّيالي المظلِمة فإذا هو بِجاريةٍ جَميلة، فراودها عن نفسِها، فقالت: ويلك، أما كان لك زاجرٌ من عقل إن لم يكن لك ناهٍ من دين؟! فقال: إنَّه واللهِ ما يرانا إلاَّ الكواكب، فقالت: وأين مكوْكِبُها؟!
والحديث مشْهور في الصَّحيحين وغيرهِما في قصة النَّفر الثَّلاثة الَّذين آواهم المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدَّت عليهم الغار، فقالوا: إنَّه لا يُنجيكم من هذه الصَّخْرة إلاَّ أن تدْعوا الله بِصالح أعمالِكم، فذكر كلٌّ منهم قصَّة ودعا الله فانفرجت الصخرة بِمقدارٍ لا يَستطيعون الخروج معه، وذكر الثَّالثُ قصَّته مع ابنة عمَّته الَّتي أحبَّها حبًّا شديدًا، وراودَها عن نفسِها فامتنعتْ، حتَّى احتاجت في سنة من السِّنين فطلبتْ منه مالاً، فأعْطاها بشرْطِ أن تُمَكِّنه من نفسِها، فلمَّا جلس بين رِجْليها قالت له: اتَّقِ الله ولا تفضَّ الخاتم إلاَّ بحقِّه، فانصرف عن الَّذي أراده، وقال: "اللَّهُمَّ إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاءَ وجْهِك، ففرِّج عنَّا ما نحن فيه". فانفرجت الصخرة وخرجوا يَمشون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغْفِر الله لي ولكُم ولسائر المسلِمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على إحسانِه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله الدَّاعي إلى رضوانِه، صلَّى الله عليْه وعلى آله وصحبِه وإخوانِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
أيُّها النَّاس: في الحديث الصَّحيح الَّذي رواه أحمد عن النوَّاس بن سمعان -رضِي الله عنْه- عنْ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتَي الصِّراط سوران، وفي السورين أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاة، وعلى رأس الصِّراط داعٍ يقول: يا أيُّها الناس: ادخلوا الصراط ولا تعوجوا، وداعٍ يدعو فوق الصِّراط، فإذا أراد أحدُهم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحْه؛ فإنَّك إن تفتحه تلِجه، فالصِّراط: الإسلام، والستور المرخاة: حدود الله، والأبواب المفتَّحة: محارم الله، والدَّاعي إلى رأس الصِّراط: كتاب الله -عزَّ وجلَّ- والداعي فوْق الصراط: واعظُ الله في قلب كلِّ مسلم".
وهذا الواعظ -معشر الإخوة- هو الَّذي منع يوسف والرَّجل من أصحاب الغار وأمثالَهما من الوقوع في الفاحشة، مع توفر أسبابِها، وهذه الطَّائفة لعفَّتها أسباب، أقْواها إجلال الجبَّار سبحانه، ثمَّ الرَّغبة في الحور الحِسان في دار القرار؛ فإنَّ مَن صرف استِمْتاعه في هذه الدَّار إلى ما حرم الله عليه قد يَمنعه الله من الاستِمْتاع بالحور الحسان هناك؛ فإنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أخبر كما في الصَّحيحين بأن: "مَن شرب الخمر بالدُّنيا لم يشرَبْها في الآخرة، ومَن لبس الحرير في الدُّنيا لم يلبسْها في الآخرة"، فليختَرِ العبدُ لنفسِه إحدى اللَّذَّتَين.
ومن النَّاس من يدع الفاحشة خوفًا من النَّار فقط، ومنهم مَن يدَعُها خوف العار، إلى غير ذلك من الأسباب، وهذه أشهرها.
وليعلم العبدُ أنَّ مَن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، فإنَّه إذا امتنع عن الحرام رغبةً فيما عند الله عوَّض الله عنه من الحلال ما يغنيه عن الحرام؛ كما قال -جلَّ وعلا-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3]، وانظروا إلى المهاجرين لمَّا تركوا ديارهم وأوطانَهم وأموالهم لله، عوَّضهم الله أن فتح عليْهم الدُّنيا، وملَّكهم شرق الأرض وغرْبَها.
وليعلم مَن همَّ بفاحشة أنَّ الجزاء من جنسِ العمل، وكما تدين تُدان، ومَن زنى بِنساء النَّاس اليوم زُنِي بنسائه غدًا، وفي الحديث: "عفُّوا تعفَّ نساؤكم"، وقال: "وقلب القاسي معلَّق بالحرام، كلما همَّ أن يفارقه ويَخرج منه، عاد إليه"؛ ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ والآخرة هكذا؛ كما في حديث سمرة الَّذي سبق ذكره، وفيه: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- رأى الزُّناة في مثل التنُّور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، يوقَد تحتَه نارٌ فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت النَّار ارتَفعوا حتَّى كادوا أن يَخرجوا، فإذا أُخْمِدت عادوا فيها".
فتأمَّل مطابقة هذا العذاب بِحال قلوبهم بالدنيا، فإنَّهم كلَّما همُّوا بالتَّوبة والإقلاع والخروج من تنُّور الشهوات إلى فضاء التَّوبة، أركسوا فيه وعادوا بعد أن كادوا يَخرجون، وملاك الأمر كلّه الرَّغبة في الله وإرادة وجْهِه، والتقرُّب إليه بِجميع الوسائل، والشَّوق إلى الوصول إليْه وإلى لقائه، ثمَّ الرَّغبة بالجنَّة ونعيمها وما أعدَّ الله فيها لأوليائه، ثمَّ خشية النَّار وما أعدَّ الله فيها لِمَن عصاه، ولا يقدر على ذلك العبد إلاَّ بمخالفة هواه، فاتَّقِ الله أيُّها العبد.
وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ
فيا عباد الله: إنَّ الشَّرَّ قد انتشر، والباطل طغى وبغى، وليس لنا ملتجأ من الله إلاَّ إليْه، وقد جاءكم من الآيات ما فيه مدَّكر، وعبرة لكل معتبر، وهذا من لُطْفِه سبحانه؛ إذْ لم يعاجلنا بالعقوبة، وإنَّما أرسل إليْنا الآيات من القحط وقلَّة المطر والكسوف، وغيرها من الآيات التي يرسلها الله تعالى تخويفًا، فأين الرجوع إلى الله وأين التوبة؟! وهل كانت تلك الآيات تتكرَّر كثيرًا في الماضي كما هو حالكم الآن؟!
نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يصلح لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرِنا، ويُصْلِح لنا دُنيانا الَّتي فيها معاشُنا، وأن يُصْلِح لنا آخِرتنا الَّتي إليْها معادُنا.