البحث

عبارات مقترحة:

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

الرجولة في زمن العولمة

العربية

المؤلف سعد بن مليك العوفي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. فضل الرجولة .
  2. الرجولة عند العرب .
  3. تربية النبي -عليه السلام- أصحابه على الرجولة .
  4. الرجولة في هذا العصر .
  5. الرجل الحقيقي .

اقتباس

الرجولة خصلة نبيلة، وصفة جميلة، قد أجمع العقلاء على مدحها والدعوة إليها في قديم الزمان وحديثه، إنها أمر يتفق عليه الجميع؛ مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، عاقلهم وسفيههم، بل إنك ترى كثيرًا من الحمقى والسفهاء يبرّرون حماقتهم بأنها مقتضى الرجولة، ومع هذا كله فالمسافة بين واقع الناس وبين الرجولة ليست بالمسافة القريبة، فالبون بين الواقع والدعوى شاسع، وواقع الناس يكذب ادعاءهم ..

 

 

 

 

عباد الله: الرجولة خصلة نبيلة، وصفة جميلة، قد أجمع العقلاء على مدحها والدعوة إليها في قديم الزمان وحديثه، إنها أمر يتفق عليه الجميع؛ مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، عاقلهم وسفيههم، بل إنك ترى كثيرًا من الحمقى والسفهاء يبرّرون حماقتهم بأنها مقتضى الرجولة، ومع هذا كله فالمسافة بين واقع الناس وبين الرجولة ليست بالمسافة القريبة، فالبون بين الواقع والدعوى شاسع، وواقع الناس يكذب ادعاءهم.

كانت الرجولة في عصر العرب الأوائل إرثًا، كانت مفخرة وممدحة، فقد كان لديهم سمو في الأخلاق ونبل في المعدن، ولذا بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم، وأخبر أنه بعث في خير الناس، فقد خلق الله الخلق عربًا وعجمًا، وجعل الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- من العرب وهم خيرهم.

بعث نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- ليتمّم مكارم الأخلاق، ليعمق الأخلاق الكريمة في النفوس ويستأصل الأخلاق المرذولة منها، أتى بالدين السمح والأخلاق النبيلة، وكان في ذلك كله قدوة حية ماثلة أمام الأعين، تتجسد فيه معاني الرجولة الحقة في أجلى معانيها وأبهى صورها، حتى إن أصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- كانوا بحقّ مثالاً لتلك الرجولة، فأبو بكر يصدّقه وقد كذبه الناس، وعمر يسلم فيعلن إسلامه ويقارع به صناديد قريش، وعلي يفديه بجسده فينام مكانه إذ هاجر إلى المدينة رجال صدق، (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)، فإن أردنا تتبع مقاماتهم في الرجولة -رضوان الله عليهم- فإنه يطول بنا المقام.

وتراثنا الإسلامي يحفل بنماذج من الرجال المؤمنين الذين صمدوا أمام عواصف الباطل برباطة جأش وقوة نفس، فوقفوا على قمة الرفعة شامخين بإيمانهم، معتزين بدينهم وشرفهم، يعيشون بأجسادهم بين الناس وقلوبهم وأرواحهم معلقة بخالقها، فهذا فتح بن شحرف يحكي عنه أحدهم فيقول: صحبت فتح بن شحرف ثلاثين سنة فلم أره يرفع رأسه إلى السماء، ثم رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه ونظر إلى السماء ثم قال: "قد طال شوقي إليك فعجِّل قدومي عليك".

فإذا بمصطلح الرجولة اليوم لا يرد في صحفنا، وربما مجالسنا، إلا في مقابلته مع العجز عن النكاح، فلا تراه يرد بمعانيه المتميزة القوية إلا لمامًا. إنَّ لدينا اليوم أزمة رجولة حقيقية، فبعد أن كان نقص الرجولة شيئًا كالموت أصبحت ترى النقص هو الغالب على أكثر الرجال، ففي عصر الحضارة والمدنية المعاصرة في عصر غزو الفضاء وحرب النجوم، في عصر التقنية والاتصال تحوَّل العالم إلى قرية صغيرة، فارتقى الناس في عالم المادة، وانحطوا في عالم الأخلاق والقيم، صعدوا إلى الفضاء وأقدامهم في الحضيض، تطلعوا إلى الإنجاز المادي وهمهم حول شهواتهم وأهوائهم، وورث المسلمون وأحفاد العرب الأوائل ورثوا من هؤلاء العفن والفساد، ورثوا منهم مساوئ الأخلاق، وساروا وراءهم في لهاث وسعار، فلا للمدنية والحضارة أدركوا، ولا لأخلاقهم ورجولتهم أبقوا، فاندثرت الأخلاق والشيم مع عالم المادة، وصرت بحاجة إلى أن تذكر الكثير من الرجال بسمات الرجولة، وتطالب الشباب أن يكونوا رجالاً لا صغارًا، بل حتى أن تذكر بعضهم بأن يكونوا ذكورًا لا إناثًا، فترى بعضهم يجتهد في محو معالم الرجولة حتى من وجهه، وكأنه يمحو العار عنه، فلا تفرق بينه وبين الأنثى إلا بعسر، إن اللباس وقصة الشعر وطريقة التحدّث كلّها لها تأثير على النفس، فلباس الرجولة يورث في النفس الرجولة، ولباس الميوعة يهدم النفس ويورث الضعف، ألا ترى كيف غيّر مصطفى كمال أتاتورك ذلك البائس لباس الأتراك فألبسهم القبعة الغربية؛ لا يقصد من إلباسهم إياها إلا تغيير ما تحت القبعة، إنه تغيير المبادئ والأفكار والأخلاق والقيم، تغيير الانتماء السلوكي إلى أمة اللباس وإن لم يشعر اللابس، أصبحنا نراقب بحزن عميق الكثير من أحفاد الصحابة قد نبذوا الرجولة وتنكّروا للشيم النبيلة، فما يزال الكثيرون منهم يتغرّبون بلباسهم حتى تغرّبوا بطباعهم، فلا يرى بعضهم بأسًا أن يُرى على حال سوء في خلق أو دين، وحجّة أحدهم: إنني شاب فدعني أمتّع نفسي بالشباب. وهل عامة سكان القبور إلا من الشباب؟! ثم ما هذه المتعة المقدسة؟! هل هي ممدوحة على كل حال؟! فقد أزرى الله -عز وجل- على الكفار في تمتعهم حين قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12]، أوليس في نفس الشاب توق إلى تسنّم الرجولة وتحمل المسؤوليات دون أن نهمل جانب الترويح عن النفس، فذاك حق مشروع لكل أحد.

إن الرجل بحق يشعر بذاته ويثق بنفسه ويميز بين الأخلاق الساقطة والأخلاق العلية السامقة، في حين أن ذلك العابث اللاهي يشعر بأنه ذرة مهملة لا تشعر بنفسها إن شعرت إلا عند أذية الناس بأعراضهم وأنفسهم وممتلكاتهم، ولسنا نعفي المربين من عبء إعداد الرجال، فمن الناس من يظن الشارع مدرسة للرجال فيسلم القياد لعالمه الهلامي غير المحدود، فلا عجب إن اجتمعت في الولد أنواع من الفساد، فيخرج مشوَّه القلب متآكل الوجدان، عقله خاوٍ من العلم، وجوارحه متسخة بالآثام، كما أن الدلال الزائد والحماية المتواصلة يخرجان لنا طفلاً كبيرًا يريد أن يعيش مدلّلاً حياته كلّها.

إن أمتنا -يا كرام- بحاجة ماسّة إلى الرجال الصادقين الذين هم على استعداد أن يتحمّلوا المشاق في سبيل النهوض بالأمة، كل في مجاله الذي هيأه الله له، بحاجة إلى ذلك الرجل صاحب المروءة والشهامة والنخوة، صاحب السريرة النقية والقلب الحي المتوقد، بحاجة إلى ذلك الرجل الذي يتمعر وجهه من فعل ما يشينه، نريد رجلاً يثب لمساعدة الآخرين ونفعهم وثبًا لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا، شيمته التواضع وعادته الكرم، ليس غبيًا مغفّلاً ولا منغلقًا أو غير واعٍ.

إن الرجولة -يا كرام- لقب لا يستحقه كل أحد، بل إن من المؤمنين من لا يستحقه، يقول تعالى: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23]، وللأم دور عظيم في إعداد أصحاب هذا اللقب الكريم، فأنى لأم متهالكة على الأزياء أن تخرج لنا رجلاً يعتدّ به عند الشدائد؟! ولكن الأم التي تعدّ الرجال أمٌّ تقية واعية، كما أننا نريد لبناتنا رجلاً تقيًّا لا كبشًا غنيًّا، الحمد لله على إحسانه.

عباد الله: الرجولة ثبات على الحق، ومحافظة على العبودية لله، وصمود أمام مغريات الدنيا وشهواتها، وتعالٍ على كل ما يشغل الناس ويلهيهم عن ذكر الله تعالى وطاعته والتقرب إليه، يفهم هذا من وصفه -سبحانه وتعالى- لهذا النوع من المؤمنين بالرجولة في قوله -عز وجل-: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور: 37].

الرجولة قوامة على النساء، ومن لا يملك هذه القوامة ويرضى بأن تكون المرأة قوامة عليه حاكمة له ويدعها تنحرف وتتبرج وتفعل ما تمليه عليها أهواؤها فهو لا يستحق وصف الرجولة؛ لأن الله -جل وعلا- أكد أن الذي يملك القوامة هم أصحاب الرجولة حيث قال: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ).

وبالجملة فإن الرجولة ضرورة يجب أن تتحقق في الذكور جميعهم، وأن يعد الناس عدتهم للتحلي بها، فعاقبتها جميلة، وثمرتها عاجلة وآجلة، فاملأ حياتك بالرجولة، وأعقب الذكر الحسن تبقَ وإن فنيت.

ثم صلوا وسلموا على خير البرية...

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:
 

 

 

 

لم ترد.