الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
قال عبدُالملكِ بنُ مروانٍ -رحمه الله تعالى- لأولاده يوماً: "يا بَنِيَّ، عليكُم بالأدبِ والعلمِ، فإن كُنتُم فُقراءَ عِشْتُم، وإن كُنتُم أغنياءَ سُدْتُم، وإن كنتم سادةً فُقْتُم، واستفيدوا مِن الأدبِ ولو بكلمةٍ واحِدة، فمَنْ لَم يَكتَسِبْ بهِ مَالاً، اكتَسبَ بِهِ جَمَالاً".
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ كلَّ شيءٍ فقَدَّرَهُ تَقديرًا، وتَكَفَّل بِأرَزاقِ العِبادِ تَصريفًا وتَدبيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)[الإسراء: 30]، وأشهد أن محمدًا عَبدُهُ ورَسولُه؛ أَرسَلَهُ اللهُ للنَّاسِ هاديًا وبشيًرا ونَذيرًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أَمَّا بَعْدُ.. فَاِتَّقَوْا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حَقَّ تُقاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إجازةٌ صيفيةٌ طويلةٌ مَرَّت وانقَضَت.. فَمِنَ الطلابِ والمعلمين مَنْ أَحسَنَ استغلالَها والاستفادةَ منها.. فكانوا يتنقلونَ بين رياضِ العِلمِ وحِلَق تحفيظ القرآن الكريم.. أو حضورِ الدوراتِ المهاريةِ والعملية.. أو استفادوا من أوقاتِهِم بأيِّ وسيلةٍ كانت.. فَطَوَّروا أَنفُسَهُم واكتسبوا ما ينفعُهُم في دُنياهُم أو أُخراهُم.. بينما آخرونَ مَضَت عَليهِم في لهوٍ وضياعٍ.. وضاعت عليهم هذه الأوقات النفيسة..
روى الترمذيُّ وغيرُه وصححه الألباني عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ".
أيها الإخوة: بين يدي هذا العامِ الدراسيِّ الجديدِ أبعثُ رسالةً للآباءِ والمَربين ..
هؤلاءِ الأبناءُ والبناتُ أمانةٌ في أعناقكم.. وسَيَسأَلُكُمُ الله عنهم شئتم أم أبيتم.. روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، وهؤلاء الأبناء هم مَن سيَحمِلونَ اسمَكُم غدًا.. وبالتالي هُم مَنْ يرفعون ذِكرَكمُ بين الناسِ أو يَخفِضونَه.
قال بعضُ الحكماءِ: "الابنُ مع أبيه واحدٌ مِن ثلاثةِ رجالٍ: لاحقٌ، أو ماحقٌ، أو سابقٌ. فاللَّاحقُ: هو الذي يَلحقُ أباهُ في شرَفهِ، والماحقُ: هو الذي يَمحَقُ شَرفَ أبيهِ بِسُوءِ فِعَالِهِ، والسابقُ: هو الذي يسبِقُ أبَاهُ ويَفُوقُهُ في الشَّرفِ".
ما تزرعونَهُ اليومَ في أبنائكم تَحصُدونَهُ غدًا, فإنْ تعاهدتُموهُم بالرِّعايةِ والعِنايةِ أَثمرَ زَرعُكُم وأَينَعَ, وحَمِدْتُمُوهُ وقتَ حَصادِه, وإنْ أهمَلتُمُوهُ نَدِمتُم وقتَ الحصاد.. وَلَاتَ سَاعةَ مندَم.
ليس اليتيمُ مَن انتهى أبوَاهُ مِن | هَمِّ الحياةِ وَخَلَّفاهُ وَحِيدًا |
فأصابَ بالدنيا الحَكيمةِ منهما | وبحُسْنِ تربيةِ الزمان بَديلاً |
إنَّ اليتيمَ هو الذي تَلْقَى له | أُمّاً تخلَّتْ أو أباً مَشْغُولاً |
إن أردتَ رِفعةً لأبنائكَ فاعلم أن العِلمَ مِنْ أعظمِ ما يَرفعُهُم, (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11].
وروى مسلمٌ في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ".
قال عبدُالملكِ بنُ مروانٍ -رحمه الله تعالى- لأولاده يوماً: "يا بَنِيَّ، عليكُم بالأدبِ والعلمِ، فإن كُنتُم فُقراءَ عِشْتُم، وإن كُنتُم أغنياءَ سُدْتُم، وإن كنتم سادةً فُقْتُم، واستفيدوا مِن الأدبِ ولو بكلمةٍ واحِدة، فمَنْ لَم يَكتَسِبْ بهِ مَالاً، اكتَسبَ بِهِ جَمَالاً".
العلمُ يرفع بيتًا لا عِمادَ لهُ | والجهلُ يهدِمُ بيتَ العزِّ والشرفِ |
أيها المُربي: اِهتمَّ بالتربيةِ بالقُدوةِ .. فكُنْ قُدوةً حسنةً لأبنائك ولِمن تربيهِم.
اختار عتبةُ بنُ أَبي سفيانَ -رحمه الله تعالى- لأطفالهِ معلماً، ثم أوصاهُ فقالَ: "ليكُنْ أولَ ما تبدأُ به مِن إصلاحِ بَنِيَّ إصلاحُ نفسِكَ، فإنَّ أَعيُنَهُم مَعقودةٌ بِعَينَيكَ، فالحَسَنُ عندهُم ما استحسنتَ، والقبيحُ عندهم ما استَقبَحتَ".
مشى الطاووسُ يوماً باعوجاجٍ | فقلَّدَ شَكْلَ مَشيَتِهِ بَنُوهُ |
وينَشَأُ ناشئُ الفِتيان مِنّا | على ما كان عَوَّده أبوهُ |
أيها الآباء والمربون.. اقتربوا من أبنائكم وبَنَاتِكُم أكثر.. وخُصُّوهم بنصيحةٍ فَردِيَّةٍ حَانِيَةٍ بَينَكُم وبَينَهُم.. هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُمارِسُ هذا الأسلوبَ التربويَ الحكيم .. فعن مُعَاذٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟" قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا, وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ. قَالَ: "لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا".
وروى الترمذي وغيره وقال حسن صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا، فَقَالَ: "يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ".
أيها الآباء والمربون: رَبُّوا أبناءكم على الاعتزاز بالدِّينِ والهَويةِ, في منطقهم ومظهرهم وقناعاتهم.. فإن لِكُلِّ أُمَّةٍ هَويَّة, وإن عِزَّةَ الأُمَّةِ في تَمَسُّكِهَا بِدينِهَا وهَويتها.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ, وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيات وَالذِّكْرَ الْحَكِيمَ, قَدْ قُلْتُ مَا سَمِعْتُم، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إحْسَانِهِ وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَاِمْتِنَانِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاشريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الداعي إِلَى رِضْوَانِهِ, صَلَّى اللهُ وَسُلَّمُ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَإِخْوَانِهِ, وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاِقْتَفَى أثَرَهُ وَاِسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقَوْا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حق التقوى.. واعلموا أن أجسادَنا على النار لا تقوى..
يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحمد الله -تعالى- أن مَنَّ على هذه البلاد بخدمة الحرمين الشريفين.. فحُكامُها ولله الحمد لا يَألون جُهدًا في بذل الغالي والنفيس لتيسير حج الحجيج, وتهيئةِ كافةِ السُبُلِ والوَسَائِلِ لهم ليَنعَمُوا بأجواءٍ إيمانية تُعينُهُم على التفرغِ للطاعةِ والعبادة.
فالحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ على هذه النعمة العظيمة, وكُلُّ الشكرِ والتقديرِ لِمَن ساهمَ في نجاحِ حَجِّ هذا العامِ, سواءً من قيادةِ هذه البلاد, أو مِن رجالِ الأمنِ الذينَ يَسهَرُونَ ويَنصَبُونَ في تنظيمِ الحشودِ وحِمَايَتِهِم ورِعَايَتِهِم, أو من رِجَالِ الصِّحةِ الذين يُضمِّدونَ الجرحى ويعالجون المرضى بِكُلِّ احترافية ومهنية, أو العاملينَ في خِدمةِ الحجاجِ في أيِّ مجال كانٍ, فهنيئاً لهم هذا الشرف العظيم, وهنيئًا لنا بِهِم, وهنيئًا لهم الأجر الكبير إذا احتسبوا عندَ الله تعالى خدمتهم لوفد الله -تعالى-, قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97].
وروى ابنِ عمرَ -رضي الله عنهما- كما عند ابن حبان وصححه الألباني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغَاِزي في سبيلِ اللهِ، والحاجُّ إلى بيتِ الله، والمُعتَمِرُ، وفد الله دعاهم فأجابوه".
فاللهم اِجْزِ كلَّ مَن سَعَى في خدمةِ الحُجاج, اللهم تقبل منا ومنهم ومِنَ الحجيج, واجعل أعمالنا وأعمالهم خالصة لوجهك الكريم.
يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ –تَعَالَى- قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّلَاَةِ عَلَى نَبِيهِ مُحَمٍّدِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعَلَ لِلصَّلَاَةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَالْإكْثَارَ مِنْهَا مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأيَّامِ, فَاللهَمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحبِهِ أَجَمْعَيْن.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اللهَ يَأْمَرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وإيتاءِ ذِي الْقُرْبَى, وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ وَالْبَغِيِّ, يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ, فَاِذكُرُوا اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ يَذكُركُمْ, وَاُشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ, وَلَذِكرُ اللهُ أكْبَرُ, وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.