القوي
كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | السيد طه أحمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وقد صح عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قَتَلَ ذميًّا، فأمره أن يدفعه إلى وَلِيِّه، فإن شاء قَتَلَه، وإن شاء عفا عنه، فدُفِعَ إليه فضرب عنقه. ولقد بلغ سلام الإسلام مع غير المسلمين بأن أمَّنهم عند العجز...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، جعل السلام هدف الإسلام وغايته في الأرض، قال الله -تعالى-: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[الْأَنْعَامِ: 127]، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[يونس 25]، وقال تعالى: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ)[هود: 48].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويُميت وهو علي شيء قدير، جعل تحية أهل الجنة السلام، فقال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)[إبراهيم: 23].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء برسالة السلام من عند الله السلام، فدعا لإفشاء السلام بين الناس جميعا، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس أفشوا السلام". فاللهم صَلِّ علي سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعـد: فيا أيها المؤمنون: إن في الإسلام تدريبًا عمليًّا للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها، فقد أراد ألا تكون مبادئه وقيمه الاجتماعية مجرد شعارات أو نداءات، بل جعلها من صلب العقيدة الإسلامية، فمن مبادئه الأساسية السلام، ولم يكن مجرد شعار أن الإسلام دين السلام، ولكنه عقيدة وسلوك وعبادة، نتعبد بها لله -تعالى-؛ فلذلك كان موضوعنا "الإسلام دين السلام" ويتناول هذه العناصـر الأساسية وهي:
1ـ مفهوم السلام. 2ـ نظرة الإسلام الشاملة للسلام. 3ـ نظرة الإسلام إلي أدعياء السلام. 4ـ أثر السلام في حياة الأمة. 5ـ الخاتمة.
إن الإسلام بمدلول معناه السلام، مشتقٌّ من صفة الله واسمه الكريم السلام، بصريح القرآن (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ)[الحشر 23]. وقيل: "السلام والسلامة: البراءة، وتسلَّم منه: تَبَرَّأ.. ومنه قوله -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63]؛ أي: تسلُّمًا وبراءةً، لا خيرَ بيننا وبينكم ولا شرَّ.. ويقولون: سلام عليكم؛ فكأنَّه علامةُ المسالمةِ، وأنه لا حرب هنالك.. وقيل: (قَالُوا سَلَامًا)؛ أي: سدادًا من القول وقَصْدًا، لا لغو فيه.. ومنه قوله -عز وجل-: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ)[القدر: 5]؛ أي: لا داء فيها، ولا يستطيع الشيطانُ أَن يصنعَ فيها شيئًا. وقد يجوز أن يكون (السلام) جمع: سلامة، والسلام: التحيَّة، ومنه قوله: (دَعْوَاهُم فِيْهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَتَحِيَّتُهُم فِيْهَا سَلَامٌ)[يونس:10]".
السلام في القرآن الكريم: ورد لفظُ: (السلام) وما اشتُقَّ منه في كتاب الله -عز وجل- في أربع وأربعين آية، منها خمس مدنية، والباقيات مكية، في حين لم يرد لفظ الحرب إلا في ستِّ آياتٍ، كلُّها مدنية. وهنا لفتة جميلة لا بد من التنبُّه إليها؛ وهي أنَّ القرآنَ الكريم يدعو إلى السلامِ في الدرجة الأولى، ويحثُّ عليه، ويرغِّب فيه، ويرفض الحرب والتنازع والفُرْقة. ومن الآيات الكريمة الدالة على هذا المفهوم:
قوله -تعالى-: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)[الأنفال:61]. أي: إنْ مالوا إلى المسالَمَة والمصالحة والمهادنة؛ فَمِلْ إلى ذلك، واقْبَلْهُ منهم، كما وقع في صلح الحديبية لَمَّا طلبَ المشركون الصلحَ ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد أجابهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك مع ما اشترطوا عليه من الشروط؛ رغبةً في السلم والمسالمة.
قوله -تعالى-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن أَلْقَى إِلَيكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)[النساء: 94]، فقد فُسِّر معنى (السلام) فيها بـ(السَّلَم)؛ أي: بالمسالمة التي هي ضد الحرب. ويدل على ذلك قوله: (أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ)، ولم يقل: (عَلَيكُم)، فدلَّ على أن المقصود به: ترك القتال؛ كما في الآية الأخرى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُم وَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقُوا إِلَيكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا)[النساء: 90]، وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُم وَيُلْقُوا إِلَيكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُم)[النساء: 91].
السلام في السُّنَّة المُطَهَّرة: ونجد أن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ هي: (السلام)، فلم يكن نَبِيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الحرب، ولا إلى المخاصَمة، والتنازُع، ولا إلى التشاجر، بل يدعو إلى السلام، ويهدي الناس إليه ويدلهم عليه. فمن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم، لا يَظْلِمُه، ولا يُسْلِمُه"(متفق عليه)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَحاسدوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيعِ بعضٍ، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلمُ أَخو المسلمِ، لا يَظلِمُه، وَلا يَخْذِلُه، ولا يَحْقِرُه، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسبِ امرئ مِنَ الشرِّ أَن يَحقِرَ أَخاهُ المسلمَ، كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دَمُه، وَمالُه، وعِرْضُه"(رواه مسلم).
وهذا كلُّه يدل على السلام والمسالَمة، والمصالَحة بين الناس. وفي حديث النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "من أَصبحَ آمنًا في سِرْبِه، معافًى في جَسدِه، عنده قوتُ يومِه؛ فكأنما حيزت له الدُّنيا"(رواه الترمذي). دلالة واضحة على الإنسان لا يكون سعيدًا في هذه الدنيا إلا بالسلام.
السلام مشتَقٌّ من الإسلام: والملاحَظ أن اسم الإسلام نفسه مشتقٌّ من صميم هذه المادة مادة السلام. والمؤمنون بهذا الدين لم يجدوا لأنفسهم اسمًا أفضل من أن يكونوا المسلمين: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس)[الحج: 78]. وحقيقة هذا الدين ولُبُّه الإسلامُ لرب العالمين: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة: 112]. وقال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ...)[المائدة: 15-16].
السلام تحية المؤمنين: تحقيقًا لتطبيق وتمكين السلام في عقيدة المسلم بمدلوله اللغوي والاصطلاحي، أمَر الله المؤمنين بأن يتخذوه تحيتهم عند لقائهم ببعضهم، وعند فراقهم، قال تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 44]. ثم قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[النور: 61]. حتى يتعوَّد المؤمنُ على عهد السلام وسلوك طريقه.
الجنة دار السلام وتحية أهل الجنة السلام: الجنة هي دار السلام ليس فيها نغص ولا حسد ولا فيها مرض ولا فيها قلق ولا فيها خوف ولا فيها منازعة ولا فيها حروب ولا فيها شيء من هذا كله، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس: 25ـ26]. وتأكيدًا لتحقيق مبدأ السلام في الأرض بين الناس، فقد كافأ اللهُ الساعينَ فيه والمطبِّقين له عمليًّا بالجنة، وجعل تحيتهم سلامًا، قال الله -تعالى-: (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ)[الأعراف: 46]. وقال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)[إبراهيم 23]، وقال تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)[النحل: 32]، وقال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد: 23-24].
الإسلام سلام للبشرية: من منطلق مبدأ السلام الذي يحتوي على أمن الناس وسعادتهم، فإنه عمم أمره بين الإنسانية قاطبة لينشروه، يقول صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس: أفْشُوا السلامَ، وأطعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"(رواه أحمد، والترمذي والحاكم، وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي). الخطاب للناس كافة، ثم فضَّلَ من سبق غيره في إقامة السلام، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ الَّذِي بَدَأَهُمْ بِالسَّلامِ"(رواه أبو داود). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لرجل أن يَهْجُرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان: فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام"(الراوي: أبو أيوب الأنصاري، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري).
السلام هدف الإسلام في الأرض: لقد أكَّد أئمةُ الإسلام أنَّ السلام هو هدف الإسلام وغايته في الأرض، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)[يونس: 25]، ويعني السلام في مضمونه العملي، على أساس من مبدأِ العدل والمساواة، والحرية للجميع، بعيدًا عن الأطماع البشرية الخبيثة. ولا يسمَّى السلامُ سلامًا إذا كان لصالح طرف دون الآخَر، فيكون ظلمًا وذُلًّا، قال الله -تعالى-: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الأنفال: 61].
ومن السلام الإعراض عن الجاهلين، قال تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63]، وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[الْقَصَصِ: 55].
ومن السلام نشر الأمن والاطمئنان، والقضاء على الخوف والقلق، في نفسية الفرد والجماعة، فقد حرَّم الإسلامُ العدوانَ والتعاون عليه، وأمرنا الله بأن نتعاون على الخير والبِرِّ فقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)[المائدة: 2]، وقدَّم الإسلامُ البراهينَ العمليةَ على أن أسلوب العدوان منبوذ مبتَذَل مرفوض، بقوله -تعالى-: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة 2]، كما أن الله مَنَعَ التعاونَ على الشر والعدوان؛ فقد حرَّم العدوانَ مطلقًا، قال تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[البقرة:190]، وشدَّد العقوبةَ على المعتدي، واعتبره تعديًّا على البشرية قاطبةً، ومَن قَتَلَ نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، وكذلك قال الله -تعالى-: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة: 32]، فالنفس الإنسانية محتَرَمة في الإسلام، فمَن أهرق دمَ نفس واحدة بدون حقّ فكأنما قَتَلَ الناسَ جميعًا. وقد أمر الإسلامُ بحُسن معاملة الأعداء، مع الحفاظ على العِزَّة والكرامة، وعدم عنادهم في عدائهم، علَّهم أن يعودوا إلى رشدهم فيكفوا عن ظلمهم وعدائهم، فقال الله -تعالى-: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34]، فحُسنُ المعامَلَةِ وسلامَةُ الصدر تحوِّل العَدُوَّ العاقلَ إلى صديق عزيز. وأمر بالعدل مع أَعدائِها، كما قال الله -عز وجل-: (وَلَا يَجْرِمُنَّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8]. وقد أمَرَنا الإسلامُ بأن نحكم الحق العادل في معاملة الناس جميعا، وهذا الصحابي الجليل ربعي بن عامر يصف رسالة الإسلام لقائد جيوش الفرس رستم: "إن الله ابتعثنا بالحق، لنُخرج مَن شاء مِن عبادةِ العبادِ إلى عبادة الله، ومِن ضِيقِ الدنيا إلى سعتها، ومِن جَور الأديان إلى عدل الإسلام".
من السلام حرية الرأي والعقيدة: أُولِعَ خصومُ الإسلام في كل عصر بتوجيه هذه التهمة؛ أن الإسلام انتشر بحد السيف، والإسلام منها براء؛ فهو لم يُكره الناسَ على الإيمان بالسيف ولم يضعه على رقابهم ليشهدوا بشهادته أو يدينوا بعقيدته، فهذه التهمة باطلة. فمبدأُ السلام لا يقوم إلَّا على المساواة في الحقوق، ولو اختلف الناسُ في العقيدة، فالحياةُ الآمنةُ الحُرَّةُ العادلةُ حقُّ الإنسانِ، ولا يَتَحَقَّقُ له العيشُ بأمنٍ وسلامٍ إلَّا إذا أَمِنَ على ما يعتقد بحرية كاملة، دون إكراه أحدٍ على ما يريد. فكانت كفالة الإسلام لحرية العقيدة لجميع الناس، أثبت ذلك القرآنُ الكريمُ قبل خمسة عشر قرنًا، قال الله -تعالى-: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 256]؛ لأن الدين فيه عقيدة تتحقق بالقناعة، والاطمئنان النفسي لما يعتقد ويؤمن، ولا تتحقق حرية المعتقد للفرد والجماعة، إلا أن تكون بمحض الاختيار والقناعة الذاتية، حتى يظهر من خلالها عدلُ الله يومَ الحساب، فيثيبُ اللهُ المصيبَ صحيحَ الإيمانِ بالجنةِ، ويعاقبُ الشَّاذَّ الكافرَ بالنارِ يومَ القيامةِ، ولا يظلمُ ربُّكَ أحَدًا. وأما في هذه الدنيا فلكل وجهة هو موليها، قال تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة: 148]، وله عقيدة سوف يُحاسَبُ عنها، وليس لنا إلا البلاغ والنصح المبين الواضح، قال تعالى: (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)[آل عمران: 20]، قال الله -تعالى- يأمر رسوله بأن يقول للكافرين صراحةً: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[الكافرون: 6].
في هذه الآية يمنح اللهُ حريةَ المعتَقَدِ دون تدخُّل أو إلزام أو جبر، غير أنه -سبحانه- صرَّحَ مُحَذِّرًا الناسَ مِنْ اختيار عقيدةِ الكفرِ بِهِ -سبحانه- بقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)[البقرة: 108]. وقال أيضًا سبحانه: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النحل: 106]. هذا حكم الله في الآخرة.
وأما في هذه الدنيا: فكلُّ فَردٍ من ذرية آدم له حق اختيار العقيدة التي يريدها، وقد سمح الإسلامُ لجميع الناس؛ بوذيين وغيرهم مهما اختلفت عقائدهم بممارسة طقوسهم التعبدية؛ ففي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نصَّ على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكْرَهون على دينهم، ولا يُضارَّ أحدٌ منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود..."(كما رواه الطبري).
واعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- السلام مع غير المسلم عبادة نتعبد بها لله -تعالى-؛ فرُوِيَ عنه: "مَن آذى ذِمِّيًا فأنا خصمه، ومن كنتُ خصمه خصمته يوم القيامة"(رواه الخطيب بإسناد حسن). وعنه أيضًا: "مَن آذى ذميًّا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله".(رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن). ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من ظلم معاهَدًا أو انتقصه حقًّا أو كلَّفَه فوق طاقته أو أخَذَ منه شيئًا بغير طِيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"(رواه أبو داود، والبيهقي). ودماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع؛ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قَتَلَ معاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا"(رواه البخاري).
وكان عمر -رضي الله عنه- يسأل الوافدينَ عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشيةَ أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: "ما نعلم إلا وفاءً"، وعليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "إنما بذلوا الجزيةَ لتكون أموالُهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا"، وما رُوِيَ: "أن عليًّا أُتِيَ برجل من المسلمين قتل رجلًا من أهل الذمة، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: إني قد عفوتُ، قال: فلعلهم هددوك وفَرَقُوكَ، قال: لا، ولكنَّ قَتْلَه لا يرد علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ. قال: أنتَ أعلمُ؛ من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا"(أخرجه الطبراني والبيهقي).
وقد صح عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قَتَلَ ذميًّا، فأمره أن يدفعه إلى وَلِيِّه، فإن شاء قَتَلَه، وإن شاء عفا عنه، فدُفِعَ إليه فضرب عنقه. ولقد بلغ سلام الإسلام مع غير المسلمين بأن أمَّنهم عند العجز والشيخوخة، وضَمِنَ لهم في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمَن يعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته"(متفق عليه، من حديث ابن عمر)، وهذا ما مضت به سُنَّة الراشدين ومَن بعدهم؛ فقد رأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًّا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًّا، ثم نخذله عند الهَرَمِ!
وفي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: "وجعلتُ لهم، أيما شيخ ضَعُفَ عن العمل، أو أصابته آفةٌ من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دِينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله". وكان هذا في عهد أبي بكر الصِّدِّيق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّدِّيق ولم ينكر عليه أحدٌ، ومثل هذا يُعَدّ إجماعًا. والفضل ما شهدت به الأعداء: شهد بذلك رجال الفكر الغربي عن كَثَبٍ:
قال ريتشارد وود: "إن القرآن قد سمح للذميين (غير المسلمين) بحرية ممارسة شعائر دينهم، وأوجب مساواتهم في الحقوق المدنية والجنائية مع سائر الأهالي، ولم يمنع من استشارتهم في مصالح الوطن".
قالت الدكتورة زيغريد هونكه الألمانية: "هذا ما أمر به القرآن الكريم، وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخولَ في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتيون واليهود الَّذِينَ لَاقَوْا قبلَ الإسلامِ أبْشَعَ أمْثِلَةٍ للتَّعَصْبِ الدِّيني وأفظّعَها، سمح (الإسلام) لهم جميعًا دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائرِ دِينِهم بِأدْنى أذْىً...".
وكتب بطريك بيت المقدس بيده رسالتَه إلى بطريك القسطنطينية قال فيها: إن العرب (المسلمين) يمتازون بالعدل، لا يظلموننا البتةَ، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف)، وقال كولد تسيهر من كبار علماء الغرب: "روح التسامح في الإسلام قديمًا، تلك الروح اعترف بها المسيحيون".
السلام ليس معناه الاستسلام والضَّعْف، وإنما هو سلام قوة… لا استسلام ضعف؛ لقول الله -تعالى-: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]. وهناك بعض المتعنتين المتكبرين الذين يفسِّرون السلامَ تبعًا لأهوائهم وعنصريتهم ولا يرضخون للحق إذا كان صاحبه ضعيفًا، ويرفضون مبدأ السلام العادل، إذا عارض عنصريتَهم وشهواتهم، فهذا النوع ظالم لنفسه أولًا، ولغيره ثانيًا، وقد أعد الله له عذاب جهنم سعيرًا، وأمرنا الله بالإعراض عنه لكونه جاهلًا للحق الإنساني، قال تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الْفُرْقَانِ: 63]. فإننا نمنح لمثل هؤلاء الجهلة السلام ونبتعد عنهم اتقاء شرهم. أما إذا صمَّم هذا النوعُ على العدوان، ورفَضَ مبدأَ السلام العادل، وبغية خراب البلاد، وإذلال الناس، تكبرًا وتعنتًا، وتعاليًا على الحق، فهذا النوع لا يصلح معه إلا الإعداد بالقوة، وصده عن غيه وضلاله، قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الْأَنْفَالِ: 57-60].
ولقد قرر الله في محكم كتابه المجيد كراهيةَ وتحريم الاعتداء على حقوق الناس وأمنهم، وحض المؤمنين على عدم الاعتداء بقوله -تعالى-: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[البقرة: 190]، ثم قرر صدَّ المعتدين، ومعاقبتهم بالمثل، فقال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)[البقرة: 194]. وإذا قامت الحربُ ضدَّ الظالمين والمعتدين فإن الإسلام لم يُجِزْ لجنود الحق أن يستغلوا قوتهم ونصرهم في صنع الشر، وهتك حقوق الإنسان، فإن من مبادئ حضارتنا في الحرب ألَّا نقاتل إلا من يقاتلنا ويعتدي علينا، وقال الله أيضًا: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الشُّورَى: 41-42]، ثم إذا قامت الحرب كان علينا ألَّا ننسى مبادئنا، فنقسو ونُفسد ونظلم وننشر الخراب والدمار… كلا... فالحرب الإنسانية الخالصة لله يجب أن تظل إنسانية في وسائلها وعند اشتداد وطيسها، ومن هنا جاءت الوصايا التي لم يَسبق لها مثيل في التاريخ، قال الخليفة الأول أبو بكر -رضي الله عنه-: "لا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا طفلًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغُوا أنفسَهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له". ولابد من توفر القوانين والشروط التي من خلالها يتم السلام بين الناس كما بيَّنها القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة: فمِن هذه القوانين والشروط الواجب توفرها حتى يتم السلام:
المساواة بين الشعوب بعضها ببعض؛ كما في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِير)[الحجرات: 13]. فالإسلام يُقرِّر أنَّ الناسَ -بِغَضِّ النظرِ عن اختلاف معتقداتهم وألوانهم وألسنتهم- ينتمون إلى أصلٍ واحدٍ، فهُم إخوة في الإنسانية. ومنه قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّكم لآدمَ، وآدمَ من ترابٍ، لا فضلَ لعربيٍّ على أَعْجَمِيٍّ إلا بالتقوى".
الوفاء بالعهود، ومَنْع العدوان، وإيثار السِّلْم على الحرب إلا للضرورة. ويدل عليه قولُه -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[المائدة: 1]، وقوله -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا)[الإسراء: 34]. فالأخوة الإنسانية العامة، تُوجِبُ قيامَ العلاقةِ بين الشعوب والأمم على المودَّةِ والوفاء بالعقود والعهود، ما دام الاعتداءُ غيرَ قائم، كما في قوله -تعالى-: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذَّينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8].
إقامة العدل والإنصاف بينهم، ودفع الظلم وإقامة العدل والإنصاف بينهم، فلا يعتدي أحدٌ على حقِّ أحدٍ، ولا يظلم أحدٌ أحدًا، بل الإنصاف والعدل والمساواة، كلها من ركائز السلام وقواعده.
إن تحقيق السلام يساعِد على استقرار المجتمع بكل طوائفه، بكل أفراده مسلمين وغير مسلمين، ونأخذ الرسول -عليه الصلاة والسلام- مثالا في تحقيق السلام والأمن والطمأنينة في المدينة المنورة بعد هجرته إليها فأول شيء فَعَلَه صلى الله عليه وسلم أنه عقد ميثاق التحالف الإسلامي؛ أي عقد المؤاخاة بين المؤمنين (مهاجرين وأنصار) أولا، ثم بين المسلمين وبين اليهود في المدينة، وكانت من بين بنود السلم معهم: أن اليهود أُمَّة مع المؤمنين، لهم دينهم وللمسلمين دينهم؛ وبذلك استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبنى مجتمعا في المدينة يسوده الأمن والسلام، لقد كانت غاية الإسلام أن يجعل العهد في المدينة عهد استقرار وأمن، بعد عهد الاضطراب والخوف في مكة.
وكان الهدف الذى يرمى إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعيش الجميع في وطنهم آمنين على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، وأهليهم، وأن يكونوا أحرارا في عقائدهم وآرائهم، وأن يتعاونوا على البِرِّ والتقوى لا على الإثم والعدوان، وتحقيقُ السلامِ يُظهر مثاليةَ الإسلام، يقول الله -تعالى-: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ …)[البقرة: 256]، من منطلق هذا المبدأ يؤيد الإسلام العدل ويحرم الظلم، بل ويحث على التعاون والرحمة والمودة والمؤاخاة بين الإنسان وأخيه الإنسان. ومن خلال هذا الاحترام الإنساني والعقلي والفكري، لا يُكره الإنسان على ما يعتقده من عقيدة، أو اعتناقه فكرة من الأفكار.
اعلم أيها المسلم: أن السلام لا يتحقق إلا بالإيمان، والإيمان هو إذعان النفس لليقين بالفَرْق بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والحق والباطل والعدل والظلم، والإيمان بأن على الوجود مسيطرًا يرضى بالخير ولا يرضى بالشر، وهو الإله القادر الفرد الصمد الحي القيوم خالق الكون وبارئ النَّسَم ومالك يوم الدين في المعاد، بهذا الإيمان تقوى العزيمة وترتفع الهمة وتسمو النفس البشرية وتنعم بالأمن والطمأنينة وتتخلص من قيود الأهواء الجامحة والمطامع المسيطِرة وآفات التردد والحيرة والارتباك وبواعث القلق والاضطراب، لا سيما عند نزول الشدائد وظلمات الأحداث، سواء في ذلك الأفراد أمِ الجماعات، وإذا توافر السلام بإشراق الإيمان في ربوع النفس اطمأنَّ الإنسانُ واتَّجه إلى معالِم الخير والحق والإنتاج.