الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
تمر بالمسلم أزماتٌ، وتضيق عليه الدنيا بأسرها حتى لا يكاد يجد فيها موطئًا لقدمه، ولكن مع الثقة بالله، والالتجاء إليه تتسع الدنيا، تكون على الفقير أوسع من كل شيء، فمن عاش مع الله نَسِيَ همومَ الدنيا كلها...
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن الله خلَق الخلقَ وتكفَّل بهم، وكتب أرزاقهم وهم في بطون أمهاتهم، حتى لا تتعب نفسٌ في طلب الرزق ولا تضجر من ضيق العيش، ولا يحسد بعضُهم بعضا، قَالَ الله -تَعَالَى-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هود:6].
عباد الله: إذا علم المرء أن رزقه قد تكفَّل اللهُ به، وجَب عليه القناعةُ بما رزقه الله؛ لأن الله أعلم بخلقه، يبسط الرزقَ لمن يشاء ويقدِر، وعلينا جميعًا أن نعلم أن الغنى ليس عن كثرة المال، ولكنه غنى النفس، فالإنسان -بطبعه- فيه شراهةٌ وحُبٌّ للمال، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ومتى قنع العبدُ بما رُزِقَ لم يلتفت لغيره، ولم تَعْدُ عينُه إلى ما رُزِقَ غيرُه، وعاش سعيدا عزيزا، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها؛ (أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما) من حديث أَبي هُرَيْرَةَ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيس الغِنَى عَن كثْرَةِ العَرَضِ، وَلكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
ولقد علَّق النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الفَلَاح على القناعة، (فأخرج مسلم في صحيحه) من حديث عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-: أَن رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "قَدْ أَفلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّه بِمَا آتَاهُ".
وقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن هذا المال محبَّب للنفس، فمَن أخَذَه بحقِّه بُورِكَ له فيه، ومن أخذه بغير حقٍّ أهلكه، كما (أخرج البخاري ومسلم) من حديث حَكيم بن حِزَام قَالَ: "سَأَلْتُ رسولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاني، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعطَاني، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعطَاني، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَن أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيه، وَمَن أَخَذَهُ بِإِشرَافِ نَفْسٍ لَم يُبَارَكْ لهُ فيهِ، وكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُّ وَلا يَشْبَعُ، واليدُ العُلَيا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى"؛ يعني كونك تعطي خير من أن تأخذ.
(وأخرج الشيخان) من حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله" هذا لفظ (البخاري). ولفظ (مسلم) أكثر اختصارا.
عباد الله: لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربِّي أصحابَه على عدم المسألة وعدم الإلحاف فيها، كما أخرج (مسلم في صحيحه) من حديث أبي سفيان صخر بن حرب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُلحِفُوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ منكم شيئًا فتخرج له مسألتُه مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته"، وهذا عامٌّ في كل مَن أَخَذَ شيئًا من غيره وهو كارهٌ لذلك، فلا بَرَكَةَ فيه.
بل كان يبايعهم على ذلك؛ فقد أخرج (مسلم في صحيحه) من حديث أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال: "كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: "ألا تبايعون رسول الله" وكُنَّا حَدِيثِي عهدٍ ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله". ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" فبَسَطْنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا"، وأسَرَّ كلمةً خفيةً: "ولا تسألوا الناس شيئا"، فلقد رأيتُ بعضَ أولئك النَّفَرَ، يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه.
معاشر المسلمين: لقد حذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه من المسألة من غير حاجة مُلِحَّةٍ، أشدَّ التحذيرِ، بل قذرها في نفوسهم أشد التقذير؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى اللهَ -تعالى- وليس في وجهه مزعة لحم". "المزعة": القطعة.
وفي (الصحيحين) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال -وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة-: "اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى". واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة.
وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سأل الناسَ تَكَثُّرًا فإنما يسأل جَمْرًا، فليستقل أو ليستكثر".
و(أخرج الترمذي) في سُنَنه من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المسألة كَدٌّ يكد بها الرجلُ وجْهَه، إلا أن يسأل الرجل سلطانا، أو في أمر لا بد منه". "الكد": الخدش ونحوه.
اللهم أَغْنِنا بحلالِكَ عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: تمر بالمسلم أزماتٌ، وتضيق عليه الدنيا بأسرها حتى لا يكاد يجد فيها موطئًا لقدمه، ولكن مع الثقة بالله، والالتجاء إليه تتسع الدنيا، تكون على الفقير أوسع من كل شيء، فمن عاش مع الله نَسِيَ همومَ الدنيا كلها، ومن توكل على الله علم أنه -جل وعلا- هو المدبِّر للكون، وهو عالِم بحاجته وفاقته، فمن استغنى بالله أغناه الله، ومن استعفَّ بالله أعفَّه اللهُ، ولكن الكثير من الناس -للأسف- إذا نزلت به الفاقة، أنزلها بالناس، وفتح على نفسه باب مسألة، ومثله لا تُغلق عنه المسألة ولا تُرفع عنه الفاقة إلا أن يشاء الله، (أخرج الترمذي) في سننه من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أصابَتْه فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تُسَدَّ فاقتُه، ومَن أنزلها بالله فيُوشِكُ اللهُ له برزقٍ عاجِلٍ أو آجِلٍ".
و(أخرج أبو داود في سننه) من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تكفَّل لي ألَّا يسألَ الناسَ شيئًا وأتكفل له بالجنة؟" فقلت: أنا. فكان لا يسأل أحدا شيئا.
أيها المؤمنون: المسألة -عند الحاجة- جائزةٌ شَرْعًا، بل جعل الله من جملة أهل الزكاة الفقراء والمساكين، غيرَ أن التعففَ خيرٌ؛ كما ورد فيما سبق، ولكن لنعلم أن المسألة عند الحاجة -وإن كانت جائزة- فهي لا تحل إلا لثلاثة؛ كما (أخرج مسلم في صحيحه) من حديث أبي بشر قبيصة بن المخارق -رضي الله عنه- قال: تحملتُ حمالةً فأتيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أسأله فيها فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقةُ فنأمر لكَ بها"، ثم قال: "يا قَبِيصَةُ، إنَّ المسألةَ لا تَحِلُّ إلا لأحدِ ثلاثةٍ: رَجُلٍ تحمَّل حَمالةً فحَلَّتْ له المسألةُ حتى يُصِيبَها ثم يُمسكَ، ورَجُلٍ أصابته جائحةٌ اجْتَاحَتْ مالَه فحَلَّتْ له المسألةُ حتى يُصيبَ قِوامًا مِن عَيشٍ، أو قال: سِدادًا مِن عَيشٍ، ورَجُلٍ أصابته فاقةٌ حتى يقولَ ثلاثةٌ مِن ذَوِي الحِجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ فحَلَّتْ له المسألةُ حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سِدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سُحت يأكلها صاحبها سحتا". "الحمالة": بفتح الحاء: أن يقع قتال ونحوه بين فريقين فيصلح إنسان بينهم على مال يتحمله ويلتزمه على نفسه. و "الجائحة": الآفة تُصِيبُ مالَ الإنسانِ.
عباد الله: إنَّ مما أهلك الناسَ في هذا الزمن وقوعَهم في الكماليات، والمفاخرات، وصرف المال فيما لا ينفع، حتى ابتُلوا بالفقر والحاجة، فمن اتقى الله سدَّ اللهُ حاجتَه وأغناه اللهُ عن الناس، وجعله عزيزَ النفس قَنُوعًا بما رُزِقَ.
اللهم بارك لنا فيما رزقتنا ولا تجعل في رزقنا فيما بيننا بينك أحد سواك يا رب العالمين...