الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
وأعظم الحياءِ: الحياءُ من الله فهو لا يَعْصِي ربه تعظيمًا لمقامه، فهو يستحي أن يعصي من هو مُطَّلِع عليه.. فإن زلت قدمه فهو يعصي على استحياء! ومن استحيا استخفى، ومن استخفى فهو حري برحمة الله، فيُعافى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ أمَّتِي معافى إلا المجاهرين"، قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن استحيا من الله عند معصيته استحيا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فالنفوس مجبولة على صفات الخير، تحب معالي الأمور، وتكره بفطرتها سفاسفها وسيئها (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 30].
وجماع صفات الخير الإيمان بالله، ونظام الإيمان الحياء؛ فإذا انحل النظام ذهب ما فيه.
جعل الله الإيمان شُعُبًا متعددة؛ يأخذ كل إنسان من هذه الشُّعَب ما يأخذ، فمستقل ومستكثر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ فأعلاها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(متفق عليه).
فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلى شُعَب الإيمان وذكر أدناها. ثم نصَّ على ما يكون معينًا على تحقيق هذه الشعب، وداعيًا إليها ومشجِّعًا للاتصاف بها.
إنه الحياء – يا عباد الله- قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء لا يأتي إلا بخير".
اتصف ربنا -عز وجل- بصفة الحياء؛ فعن سلمان -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن ربكم حيي كريم؛ يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا ليس فيهما شيء"(رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح).
وحياؤه –سبحانه- من عبده لا تُكَيِّفُه العقول فهو حياء كرم وبِرّ وجود (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11]؛ (ينظر مدارج السالكين لابن القيم).
مَنَع الحياءُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواطن كثيرة أن يواجه أصحابه بما يكرهون؛ حفاظًا على نفسياتهم، واستبقاء لوُدّهم.
دعا أصحابه -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته في وليمة عرسه على زينب بنت حجش -رضي الله عنها- فدخل الصحابة مغتبطين بدعوته مستأنسين بحديثه، فأطالوا الجلوس حتى شقَّ ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا.
فنزل قوله –تعالى- مُصَوِّرًا جميل الخُلُق مُنَبِّهًا على الخلل: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)[الأحزاب: 53].
بعد ذلك ما هو الحياء؟
الحياء من الحياة؛ فلا معنى للحياة وطيب عيشها إلا بالحياء؛ فحينما يغيب الحياء من المجتمع، ويغادر البيوت، وتتروض النفوس والأجيال على فقد الحياء فهو خراب حياتهم.
ومَن فَقَدَ الحياء فَقَدْ فَقَدَ أعظم خاصية للإنسان، فماذا تغني بعد ذلك الصورة الظاهرة؟
مَرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل من الأنصار وهو يَعِظ أخاه في الحياء؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعه؛ فإن الحياء من الإيمان"(متفق عليه).
فالحياء رأس مكارم الأخلاق يجد الرجل المتصف بالحياء ما يبعثه على فعل كل حسن، ويزجره عن ترك كل قبيح.
فالحياء وقار داخليّ تنقبض النفس معه عن فعل ما يُلام عليه، أو يُعاب في تصرُّفه؛ فالحيي حَذِر من السقطات، يخشى سيئ القول والكلمات فهو ذو مرؤة تامة، وذو سمعة حسنة.
وأعظم الحياءِ: الحياءُ من الله فهو لا يَعْصِي ربه تعظيمًا لمقامه، فهو يستحي أن يعصي من هو مُطَّلِع عليه: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[يونس: 61].
فإن زلت قدمه فهو يعصي على استحياء!
ومن استحيا استخفى، ومن استخفى فهو حري برحمة الله، فيُعافى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ أمَّتِي معافى إلا المجاهرين".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن استحيا من الله عند معصيته استحيا الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من معصيته لم يستح الله من عقوبته"(الجواب الكافي).
ثم الحياء من الناس لا عبودية لهم، ولكن الإنسان مأمور أن يحفظ عرضه، وألا يُسَلِّط الناس على نفسه "ورحم الله امرأً كَفَّ الغيبة عن نفسه"، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال للرجلين لما رأياه مع امرأة، قال: "على رِسْلكما؛ فإنها صفية بنت حيي"؛ حتى لا يُوقِع الشيطان في قلوبهما شيئًا.
الحياء الثالث هو الحياء من النفس! نعم يستحي الإنسان من نفسه!
فالنفوس الشريفة لا ترضى أن يظن بها الخير، وتسمعَ كلمات الثناء وهي تعرف من نفسها غير ذلك أو ضدَّه!
النفوس الشريفة تستحي من نفسها أن تقبل مدح الناس وثناءهم على أمور لم يعملوها، ولا تقبل أن تسرق جهود الآخرين لتقول: إنها هي التي قامت بها!
-وليس هذا من عاجل بشرى المؤمن، وإنما عاجل البشرى فيمن أُثْنِيَ عليه بما هو أهله ويستحقه- هذا هو الحياء من النفس !
ومن كان حييًا من نفسه فهو على خير، وإلى خير؛ لأنه لا يزال حَذِرًا أن تغُرّه نفسه، أو يقعَ في حبائل الشيطان التي قال الله عنها: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)[محمد: 25].
من كان حييًا من نفسه؛ فإن حياءه من خالقه أولى وأعظم.
ألا يكفي المؤمن للتخلُّق بصفة الحياء أن يعلم أنها صفة يحبها الله -تعالى-؛ ففي حديث أشج عبد القيس أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن فيك خلتين يحبهما الله -عز وجل-". قلت: ما هما؟ قال: "الحلم والحياء". قلت: أقديمًا فيَّ أم حديثًا؟ قال: بل قديمًا، قلت: "الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما"(هذا لفظ أحمد، وأصله في الصحيحين).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن فَقْد الحياء، وبيَّن أن فاقد الحياء سوف يفعل ما يشاء؛ حيث فُقِدَتْ الهيبة وانكسر حاجز الوقار؛ فعن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مِمَّا أدرَك الناسَ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت"(رواه البخاري).
أيها الإخوة: إن من أسوأ مظاهر فقدان الحياء حينما يتقبل المجتمع سلوكيات مخجلة في ألبسة بعض الشباب بضيقها أو تفصيلها أو كتابات أو شعارات عليها.
وأسوأ ذلك أن تكون الألبسة مُخِلَّة بما يجب ستره من العورات؛ فتجد الشاب وربما غيره وللأسف قد لبس ما يقصر عما يجب ستره، أو يبدي شيئًا من عورته عند جلوسه وحركته. وقد مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل وفخذه بادية، فقال: "غَطِّ فخذك؛ فإن فخذ الرَّجُل من عورته"(رواه أحمد وله طرق صحيحة).
فانظروا فيما تلبسون ويلبسه من تحت أيديكم، والتساهل في ذلك مظنة فساد عريض، ويتأكد التحذير من لباس ما يخل بالعورات والمروءات في اجتماعات الشباب أثناء لعبهم، وسباحتهم، وخلو بعضهم إلى بعض في طلعاتهم واستراحاتهم.
وللشيطان مدخل عظيم في هذا كما قال تعالى: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)[الأعراف: 27].
ثم التواصي آكد وأشد فيما يتعلق بألبسة النساء في اجتماعاتهن وأعراسهن، والمسموع والمنقول عن تلك الاجتماعات أمور مكدرة لا يرضاها ذوو الحياء والغيرة لمحارمهم. حفظ الله نساء المسلمين، وحماهن من حظ الشياطين!
أيها الإخوة الحياء والغيرة فطرة في النفوس، فكيف تطيب نفوس قوم حينما يرخصون بنياتهم وزهرات بيوتهم زعموهن صغيرات؛ يرخصونهن ليشاركن في فرق إنشاد وتمايل على خشبات مهرجانات، وقد تجمَّلن ولبسن القصير من الثياب، يحتفي بهن الصالح والطالح ويُصور معهم من شاء!
أين غيرتك أيها المحترم وأين أمانة التربية؟ فإن كنت تنظر أو أمها إلى بنتك بعين البراءة والإعجاب فهناك من ينظر إليها بعيبة الشهوة والارتياب.
واللبيب بالإشارة يفهم!
ثم بالله عليك، ماذا سيبقى في يدك من أمور تنشؤها عليه إذا ضيعت أصل وقارها، وعمدة حياتها في حيائها؟!
حفظ الله بنات المسلمين بحفظه، وأدام عليهن حياءهن وستره، ووقانا شرور المفسدين..