الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه |
والكِبْر مذموم بكل حال، ولن يدخل الجنةَ مَنْ في قلبه مثقالُ ذرّة من كِبْر حتى ينقَّى منها؛ لأنها لا يدخلها إلا سليم القلب، وصاحبُ الكبرِ قلبهُ مريض؛ إذ ما الذي دعاه للتكبر وهو مثلُ الناس في كل شيء؟ بل لربما فاقوه، وما عنده من فروقات فهي معرَّضة للزوال اليومَ أو غدًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الغني الحميد، المتكفِّل بشؤون الخلائق وتدبير العبيد، وَسِعَ كلَّ شيء رحمةً ولطفًا، وأحصى كلَّ شيء خلقَه ثم هدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في النعوت والصفات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ومن خُتمت بنبوته الرسالات، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون.
معشر الكرام: يتنافس الناس في أن يحبهم الناس، ويتطلبون ذلك عبرَ كل وسيلة، دوراتٌ تقام لكسب القلوب، وكتبٌ لطرائق الوصول لقلوب الناس، ولا تثريب في هذا، فقد قال أبو هريرة لنبينا: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ الْمُؤْمِنِينَ".
كل هذا حَسَنٌ، ولكن ماذا عن محبة الله، كم هو عظيم أن تكون بين الناس، والله مِنْ فوق سماواته يحبك ويرضى عنك، إنه -والله- لَلشَّرَفُ الأسنى، والربح الأعلى، أن يحبك المولى -جل وعلا-.
ألا هل أحدثك بحديثٍ عن خبر ثلاثة يحبهم الله، مَنْ هم وما صفتهم؟ علّنا أن نتأسَّى بهم ونقتدي، روى الترمذي في سننه عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، أما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوما فسألهم بالله، ولم يسألهم بقرابة بينهم، فمنعوه، فتخلَّف رجل بأعقابهم فأعطاه سِرًّا، لا يعلم بعطيته إلا اللهُ والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم، حتى إذا كان النوم أحبَّ إليهم مما يعدل به، نزلوا فوضعوا رؤوسهم، فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية، فلقوا العدو فهُزموا، فأقبل بصدره حتى يُقتل، أو يفتح اللهُ له، والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم".
فدعونا نتأمل في حال المحبوبين من رب العالمين.
أول الثلاثة: ذلكم المنفق سِرًّا، لا يعلم بعطيته إلا الله، ومن أعطاه، ربما أنفق فلم تعلم شمالُه ما أنفقت يمينُه، من شدة إخفائه، وما أشرف الصدقة حين يُسَرُّ بها، وما أشرف العمل حين يكون بينك وبين الله -تعالى-، فروعة الصدقة حين يبذلها المنفق فيخفيها، ثم ينساها فلا يذكرها ولا يشهِّر بها، وفي التنزيل: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 271].
كثيرون هم الذين يتصدقون، ولكن أخطر داء يُبطل الصدقةَ إشاعتُها والمنّ بها، يأتيه المحتاج بينه وبينه، فلا يجلس مجلسًا إلا وأخبر بأنه هو مَنْ أنفق على هذا الفقير، أو هو من أخرجه من السجن، فيظل الفقير يعيش مغبةَ تلك الصدقة التي أُلحِقَت بالأذى، وربنا يقول: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)[الْبَقَرَةِ: 264].
لذا؛ حين يُنعم اللهُ عليكَ بالمال فلا تنسَ المحتاجين من صدقاتك، فلئن أعطاك اللهُ مسكنًا يلمك، وفراشًا ولباسا يدفئك وطعامًا يسد جوعك، فإن لك إخوانا هنا وهناك ومنهم في بلدك وحواليك فتفقَّد حالهم، وَمُدَّ يدَ العون لهم، واستشعر أن الفضل لله الذي أعطاك، ثم للصدقة وفقك وتولاك، وجعلك المعطي ولم يجعلك السائل.
وبعدَ هذا فَانْسَ صدقتَكَ، وإحسانك، فهو مدخَّر عند من لا تخفى عليه الخوافي، وشتّان بين من يعمل الطاعة لا يعلم بها إلا اللهُ، ومن يعمل العمل فيذيعه بين الناس.
قبل مدة سألت أحدَ الفضلاء الموسرين: هل أوقفتَ من مالك شيئًا؟ فقال: لا، وبعد ساعاتٍ فقط أخبرني على عزمه بتوقيف عدد من عقارات على عدد من أبواب البرّ، ويريد أن يكون هذا باسم غيره حتى لا يُعرف اسمُه، واشترط ألا يعلم بذلك حتى أقربوه، وقال لي أحد أصحاب الجهات الخيرية: "إن امرأة تبرعت بإقامة مسجد كبير في إحدى الجهات، فأرادوا أن يعرفوا اسمها ليوافوها بتقارير فقالت: لا أحتاج لكل هذا، المال أعطيته لموثوق وسأجد تقريره يوم أن ألقى الله".
إنها نماذج -بحمد الله- كثيرة، فهنيئا لمن بذلوا الإحسان وأنفقوا في وجوه البر، وأرغموا الشيطان، وأسرّوا بأعمالهم ولم يُطلعوا عليها أيَّ إنسان، هنيئًا لهم محبة الرحمن.
عباد الله: وثاني من يحبهم الله: ذلكم الرجل الذي رَكِبَ مع القوم فساروا يومَهم أكملَه، حتى بلغ بهم العناءُ مبلغَه، وحين وقفوا ليلَهم كان النومُ أحبَّ إليهم مما يُعْدَل به، فنزل القومُ وناموا، وأما هو فلأنه يحبُّ ربَّه قام يصلي لربه ويتلو آياته، ولا عجب فقد أطار حبُّ اللهِ نومَه، وأذهب فرحُه بمقابلته تعبَه وعناءَه، فتفضل عليه ربُّه بأن أعانه ولعبادته وفقه، وجعل ذلك سببًا لنيل محبته ورضوانه.
هذه حاله مع قيام الليل، التعب ينازعه للنوم، والدفء يؤزُّه إليه، فيقيمه شوقُه لربه، يفرش فراشه، ثم يضع يدَه عليه، ويقول: واللهِ إنك لَلَيِّنٌ، لكن فراش الجنة ألْيَنُ، فيقوم ليله وما أصعب ذلك إلا لمن وُفِّقَ:
إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ | فَيُسْفِرُ عَنْهُمُ وَهُمُ رُكُوعُ |
أَطَارَ الْخَوْفُ نَوْمَهُمُ فَقَامُوا | وَأَهْلُ الْأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ |
تذكرتُ -وأنا أسمع هذا- حالَ بعض إخواننا ممن أصحَّ اللهُ أبدانهم وسلَّم قواهم، وآمَن بلدانَهم، تبحث عنهم في جنبات المسجد لصلاة الفجر، وهي فريضةٌ فلا تراهم، يتعلل هذا بالتعب، وهذا بالبرد، ولو امتلأت قلوبنا حُبًّا لربنا لأيقظنا الشوقُ للقائه، ولكن ضَعُفَ ذلك فعسُر علينا.
واللهِ لا سواء بين من يهجر فراشَه ليقوم لبيت ربه وللقاء خالقه، وبين من يمكث فيه ويفوِّتُ الصلاة عن وقتها، أو يصلي ولكن في بيته، فطوبى للموفَّقين، والمحافظين على الصلوات في بيت رب العالمين، "بَشِّرِ المشائينَ في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التامّ يوم القيامة".
معشر الكرام: وثالثُ مَنْ يحبهم ربُّ العزة والجلال رجلٌ كان في سَرِيَّة، فلقوا العدوَّ فهُزموا، فأقبل ذلكم الرجلُ بصدره حتى يُقتلَ، أو يفتحَ اللهُ له، لسان حالِه إما النصر وإما الشهادة، قد امتلأ قلبه شجاعةً، وإقدامًا، وبحثًا عن مرضاة الله -تعالى-، يُقدِمُ على الموت، يُلقي بنفسه في الهلكة، لكنها هلكة دنيا ليحيا في الآخرة، وليرفع كلمة الله عاليةً، فكان جزاؤه أن يكون ممن يحبهم الله، وذلك -وربي- غاية الشرف، اللهم أَنِلْنَا حبَّكَ، واعمر قلوبنا برضاك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده...
أما بعد: وإذا كان هؤلاء الثلاثة يحبهم الله، فإن ثمة ثلاثةً يبغضهم الله، فيا خسارتهم، ويا خيبتهم، ذكرهم نبينا -عليه السلام- في الحديث فقال: "وثلاثة يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم".
شيخ كبير السنّ دافعُ الشهوةِ في نفسه ضعيفٌ، ومع هذا يقع في موبِق من أخطر الموبقات، وذنب يورث الويلاتِ، فالزنا كله حرام، وهو من كبائر الآثام، ويؤثِّر على العبد في دينه ورزقه وسواد وجهه ووحشة قلبه، توعَّد ربُّنا من وقع فيه بأنه: (يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)[الْفُرْقَانِ: 68-69]، وتوعَّد صاحبَه بأشد الحدود في الدنيا، وبعذاب القبر، وبعذاب النار، وهو مع كل هذا في حق كبير السنّ أعظمُ جُرْمًا، وأقبحُ فِعْلًا، فقد كان جديرٌ بمثله أن يكون من عُمَّار المساجدِ، وملازمي القرآن، فقد أعذره ربُّه إذ أبقاه، وأطال عمرَه، وأصحَّ قواه، فلما دام على هذه المسارب المحرمة، برغم قِلَّة الداعي، وتيسُّر الحلال عندَه، كان ممن يبغضهم الله ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم.
وأما ثاني المبغَضين فهو الفقير المختال: امرؤٌ جمع بين نقيضين، وتحلَّى بخلتين متناقضتين؛ إنه فقيرٌ قليل ذات اليد، عائلٌ عالةٌ على غيره، ومع هذا فهو على خَلْق الله متكبر.
والكِبْر مذموم بكل حال، ولن يدخل الجنةَ مَنْ في قلبه مثقالُ ذرّة من كِبْر حتى ينقَّى منها؛ لأنها لا يدخلها إلا سليم القلب، وصاحبُ الكبرِ قلبهُ مريض؛ إذ ما الذي دعاه للتكبر وهو مثلُ الناس في كل شيء؟ بل لربما فاقوه، وما عنده من فروقات فهي معرَّضة للزوال اليومَ أو غدًا، ورحم اللهُ محمد بن الحسين بن علي إذ قال: ما دخل قلبَ امرئٍ شيءٌ من الكبر قطُّ إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو أكثر.
وما تكبَّر أحدٌ إلا مُقِتَ، وما تواضع إلا أُحِبَّ.
وإذا كان هذا في الكبر مطلقًا، فهو أسوأُ حين يكون من الفقير؛ إذ لا ثراء، ولا مال، ولا منصب، فحين يتكبر، فَجُرمه أعظم، وذنبه في الكِبر أقبح وأطمّ.
وثالث المبغَضين: غنيّ ظلوم، أنعم عليه الله بالغنى والثراء، ومع هذا فهو يتعامل مع الناس بالظُّلْم، ربما ظلم عمالَه، ربما ظلم من تعامل معهم، في حين ليس ثمة ما يدعوه لذلك، فقد أغناه ربه وأعطاه.
والظلم -علاوةً على كونه سببًا للظلمات يوم القيامة- فهو ماحِق للأموال في الدنيا قبل الآخرة، وقد قيل في الحكمة: "لا يُحفظ المال إلا بثلاث: جمعُه من غير ظُلْم، وإنفاقُه في غير سرف، وإمساكه في غير شحّ".
فيا مَنْ رُزقت مالًا، أو تبوأت منصبًا، أو تأثَّلت مكانةً، إياك أن تبوء بظلمٍ لمن هم تحت يدك، فربما كان ذلك سببًا في ترحُّل نعمك، العاملُ عندَك -أيها الكفيل-، الموظفُ في إدارتك -أيها المدير-، كن على حذر أن تظلم فيُدعى عليك من ضعيف مظلوم.
لَا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا | فَالظُّلْمُ تَرْجِعُ عُقْبَاهُ إِلَى النَّدَمِ |
تَنَامُ عَيْنَاكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ | يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ |
ذكَر الزجاجيُّ (في أماليه) أن رجلًا غصب ذهبًا من امرأة وأخذه ظلمًا، فلما نام جاءه في المنام من يقول له:
إِذَا جَارَ الْأَمِيرُ وَصَاحِبَاهُ | وَقاَضِي الْحُكْمِ دَاهَنَ فِي الْقَضَاءِ |
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ | لِقَاضِي الْأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ |
وبعدُ: فهذه صفة الثلاثة الذين يحبهم اللهُ، قَمِنٌ بنا أن نقتدي بهم، وصفة الثلاثة الذين يبغضهم الله، حريٌّ بنا أن نَنْأَىْ عن فعالهم، والفوز والفَلَاح والربح المبين أن يحبك رب العالمين، فاللهم ارزقنا حبَّكَ وحبَّ مَنْ يحبك، واجعلنا ممن أحببتهم ورضيتَ عنهم فأرضيتَهم.