الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عمر السحيباني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
برحمته أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ويسر على عباده، وبعث فيهم محمدا -صلى الله عليه وسلم-، علمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبرحمته عرّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا...
الخطبة الأولى:
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "قُدِم على رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- بِسبي, فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا والله وهى تقدِر على أن لا تطرَحَه، فقال رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"(رواه مسلم).
أيها الإخوة في الله: لقد أخبرنا -جل وعلا- أن رحمته تسبق غضبه، وأن له مائة رحمة أنزل واحدة بين سائر مخلوقاته في الأرض, وأخَّر الباقي لعباده يوم الحساب؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله وعليه وسلم- قال: "إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة"(رواه مسلم).
فكل ما ترى من رحمة المخلوقات بعضها على بعض على امتداد الزمن منذ خلق الله هذه المعمورة إلى أن يرث الأرض ومن عليها ما هي إلا رحمة واحدة من مائة رحمة ادّخرها الله لأوليائه، وحزبه يوم القيامة.
فسبحان من وسِعت رحمته كل شيء، وأوسعُ صفاته جل وعلا: رحمته، وأوسع المخلوقات: عرشه، فلما استوى على عرشه كتب على نفسه يوم استوائه على عرشه: "كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي"؛ كما جاء في الصحيحين.
برحمته أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ويسر على عباده، وبعث فيهم محمدا -صلى الله عليه وسلم-، علمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبرحمته عرّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا.
ومن رحمته جل وعلا: أن سهّل علينا التكاليف الشرعية، فأسهلُ الأعمالِ تدخلك في رحمته، ألم يغفرِ اللهُ لزانية لأنها سقت كلبًا كاد يموت من العطش؟! ألم يدخلِ اللهُ الجنة رجلا أزال غصن شوك من طريق الناس؟! أعطانا الكفارات ليَغفر لنا، وأرشدنا إلى أسهل الأدعية والتسبيحات التي إذا تلفظنا بها ثقلت موازيننا وغُفرت ذنوبنا ولو كانت مثل زبد البحر.
أمرنا سبحانه بسؤاله ليعطينا، بل أعطانا أعظم العطايا بلا سؤال، ووهب لنا نعمه ظاهرة وباطنة لم يؤيسنا ربنا من رحمته.
يا رب أنت خلقتني وبرأتني | جمَّلت بالتوحيد نطق لساني |
وهديتني سبل السلام تكرماً | ودفعتني للحمد والشكران |
وغمرتني بالجود سيلاً غامراً | وأنا أقابل ذاك بالكفران |
ونشرت لي في العالمين محاسناً | وسترت عن أبصارهم عصياني |
والله لو علموا قبيح سريرتي | لأبى السلام عليَّ من يلقاني |
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي | ولبؤت بعد كرامة بهوان |
لكن سترت معايبي ومثالبي | وحلمت عن سقطي وعن طغياني |
فلك المحامد والمدائح كلها | بخواطري وجوانحي ولساني |
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- يقول: "قال الله يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة".
فمن أعظم من الله جودا وكرما؟! يبسط يده سبحانه بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، فمنْ أرحم من الله -عز وجل-؟!
ألم تروا -يا عباد الله- إلى من قتل مائة نفس كيف قبله الله وتاب عليه؛ لأنه أقبل إلى الله، يريد أن يتوب، فأسرع اللهُ إليه بالتوبة والقبول.
رحمته وسعت كل شيء، وهو يحب التوابين, هذا في الدنيا أما في الآخرة فحدث عن رحمته ولا حرج، فمن رحمته جل وعلا يوم القيامة بعباده ما رواه أبو ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-: "إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ, وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا, رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا, فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ, فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا, فَيَقُولُ: نَعَمْ, لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِر، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ, فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً, فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لا أَرَاهَا هَا هُنَا"، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله وعليه وسلم- ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ"(رواه مسلم).
ومن رحمته جل وعلا بعباده يوم القيامة أيضا: ما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله وعليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ, فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ, حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا, وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ, فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ, وَأَمَّا الْكَفاِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ"(رواه البخاري).
أيها المسلمون: لقد أمر الله -عز وجل- نبيه محمدا -صلى الله وعليه وسلم- أن يخبر العالم أجمع بأن الله غفور رحيم, فقال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الحجر: 49]، بل نادى ربنا -جل وعلا- كلَّ المجرمين الذين تمادوا في الذنوب والمعاصي وأسرفوا على أنفسهم ناداهم نداءً خاصا بأن لا يقنطوا من رحمته، فخاطبهم الله بـ" يا عبادي" تأليفًا لقلوبهم وتأنيسًا لأرواحهم، فقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي | جعلت الرجاء مني لعفوك سلما |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته | بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
أيها المسلمون: إن كثيرا من الناس ما فهموا معنى رحمة الله، فلذلك تمادوا في المعاصي بحجة أن الله سيغفر الذنوب، وما علموا بأن الله -جل وعلا- قد اشترط لنيل رحمته قائلا: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ)[الأعراف: 156 - 157].
عباد الله: ورحمة الله تُستجلب بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله وعليه وسلم-، والاستقامة على أمر الإسلام: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آل عمران: 132].
ومن جالبات رحمة الله: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 71].
ألا وإنّ مما تُستمطَر به الرحمات في الدنيا والآخرة: رحمة الضعفاء وذوي الحاجة، إغاثة الملهوف، وكفالة اليتيم، والقيام على الأرملة، وسدّ حاجة المسكين، والعطف على الفقراء، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء"، وفي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-: "لا يرحمُ الله من لا يرحم الناس".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[الزخرف: 32].
الخطبة الثانية:
أمّا بعد:
أيّها المسلمون: عمّا قليلٍ ستحلّ الأيامُ العَشْر الأُولى من شهرِ ذي الحجة، وهي أيّامٌ عظّم الله قدرَها، ورفع ذكرَها، وأقسَم بها في كتابه فقال: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 2]، وفي صحيحِ البخاريّ عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله وعليه وسلم- قال: "ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله -عزّ وجلّ- من هذه الأيام العشر" قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرَج بنفسِه وماله ثم لم يرجِع من ذلك بشيء".
ويُستَحبّ فيها: الإكثارُ من الصالحات، وأنواعِ النوافل من التَّكبيرِ والتّحميدِ وقِراءةِ القرآن، وَصِلةِ الأرحام، والصَّدقةِ، وبِرّ الوالِدَين، وتفريجِ الكرُبات، وقَضاءِ الحاجات، وسائرِ أنواعِ الطاعات، قال شيخ الإسلام -رحمَه الله-: "أيّامُ عشرِ ذِي الحجّة أفضلُ مِن أيّامِ العَشر مِن رمضان".
ولقد كان الصحابةُ -رضي الله عنهم- يحيُونَ في العشرِ سُنّةَ التكبير بين الناس، فكان ابن عمر وأبو هريرةَ -رضي الله عنهما- "يخرُجان إلى السّوقِ في أيام العشرِ، فيكبِّران ويكبِّر الناسُ بتكبيرهما"(رواه البخاريّ).
فاغتنِموا مَواسمَ العبادةِ قبلَ فواتها، فالحياةُ مغنَم، والأيّام مَعدودَة، والأعمارُ قصيرة.