السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
لا يرتفع عن النفوس الشقاء، ولا يزول عن العقول الاضطراب، ولا ينزاح عن الصدور القلق والحرج إلا حين تُوقن البصائر، وتُسلم العقول بأنه سبحانه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الجبار المتكبر له الملك كله، وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله؛ فاتقوا الله الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، فربُّكم جلَّت حكمته لم يخلقكم هملاً، ولم يترك أمركم في هذه الحياة مهملاً، بل خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
أيها المسلمون: إن بني الإنسان حين يضلون عن سبيل الله يتخبطون في فوضى التدين، ويغرقون في ألوان الشرك وأوحال الجاهلية: (وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم:31-32]. (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـالاً بَعِيداً) [النساء:116].
البشر عقولهم قاصرةٌ عن أن تدرك طريق الصلاح بمفردها، أو تستبين سبيل الرشاد بذاتها. إنها لا تستطيع أن تجلب لنفسها نفعاً أو تدفع ضراً.
لا يرتفع عن النفوس الشقاء، ولا يزول عن العقول الاضطراب، ولا ينزاح عن الصدور القلق والحرج إلا حين تُوقن البصائر، وتُسلم العقول بأنه سبحانه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الجبار المتكبر له الملك كله، وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله؛ (بَلَىا مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [ البقرة:112]. (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النساء:125].
أيها الإخوة: إن إسلام الوجه لله وإفراده بالعبادة يرتقي بالمؤمن في خلقه وتفكيره، يُنقذه من زيغ القلوب، وانحراف الأهواء، وظلمات الجهل، وأوهام الخرافة، ينقذه من المحتالين والدجالين، وأحبار السوء ورهبانه ممن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً. التوحيد الخالص المخلص يحفظ الإنسان من الانفعالات بلا قيد أو ضابط.
أيها الإخوة، توحيد الله هو العبودية التامة له وحده سبحانه تحقيقاً لكلمة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: في لفظها ومعناها والعمل بمقتضاها، يقيم المسلم عليه حياته كلها، صلاته ونسكه ومحياه ومماته.
توحيدٌ في الاعتقاد، وتوحيدٌ في العبادة، وتوحيدٌ في التشريع. توحيدٌ تُنَقَّى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، وتُنَقَّى به الجوارح والشعائر من أن تُصرف لأحد غير الله، وتُنَقَّى به الأحكام والشرائع من أن تتلقاها من أحدٍ دون الله عزَّ وجلَّ.
التوحيد هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وقطب رحاه، وذروة سنامه. قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته الآيات، وأثبتته البراهين، نصبت عليه القبلة، وأُسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعُصمت به الأنفس، وانفصلت به دار الكفر عن دار الإسلام، وانقسم به الناس إلى سعيدٍ وشقيٍّ ومهتدٍ وغوي.
أيها الإخوة: لقد كانت عناية القرآن بتوحيد الله عظيمة فهو القضية الكبرى، ومهمة الرسل الأولى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّـاغُوتَ) [النحل:36]. (وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـانِ ءالِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف:45]. فالقرآن كله حديثٌ عن التوحيد، وبيان حقيقته والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه. حديثٌ عن جزاء أهله وكرامتهم على ربِّهم، كما أنه حديثٌ عن ضدِّه من الشرك بالله وبيان حال أهله وسوء منقلبهم في الدنيا، وعذاب الهون في الأخرى؛ (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ) لحج:31. (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء:48].
والأوامر والنواهي ولزوم الطاعات وترك المحرمات هي حقوق التوحيد ومكملاته.
القرآن العظيم يخاطب الكفار بالتوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به ويعتنقوه؛ (يَـاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21]. (فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات:50-51].
وكل نبي يقول لقومه: (يَـاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:59]. (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]. ويُخاطَب به المؤمنون ليزدادوا إيماناً، وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص فيه أو الخلل؛ (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَـابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَىا رَسُولِهِ وَالْكِتَـابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ) [النساء:136].
ومن صفات عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهَا ءاخَرَ) [الفرقان:68]. ومن نعوت أهل الإيمان الموعودين بالتمكين في الأرض: (يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً) [النور:55].
بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك والبراءة من أهله والإعراض عنه وعنهم فقال عز وتبارك: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26]. وقال عز وجل: (وَوَصَّىا بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىا لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ إِلَـاهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:132-133]. وقال سبحانه: (وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّـاكِرِينَ) [الزمر:65-66]. (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ) [الرعد:36]. (وَادْعُ إِلَى رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [القصص:87] (اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام:106].
قال أهل العلم رحمهم الله تعليقاً على هذه الآيات وأمثالها: فإذا كان يُنهى عن الشرك من لا يمكن أن يباشره فكيف بمن عداه؟؟ ولقد قال إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام: (وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ) [إبراهيم:35-36]. قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟؟.
هذا بعض خبر القرآن.
أما السنة فإن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته وسيرته من أولها إلى آخرها؛ مكيِّها ومدنيّها، حضرها وسفرها، سِلمها وحربها، كلها في التوحيد منذ أن أُمر بالإنذار المطلق في سورة المدثر: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر:5] إلى الأمر بإنذار العشيرة (فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء:213-214]. إلى الأمر بالصدع بالدعوة (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر:94]. ثم من بعده الأمر بالهجرة (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40 ] والإذن بالقتال والجهاد: (الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ) [الحج:40] إلى فتح مكة حين كسرت الأصنام (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ) [الإسراء:81]. إلى الإعلام بدنو الحِمام (فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر:3]. وقال وهو في مرض موته: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
لم تخلُ فترةٌ من هذه الفترات البتة من إعلان التوحيد وشواهده ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرضُ البعثة كلِّها في ذلك؛ فما ترك عليه الصلاة والسلام تقريرَ التوحيد وهو وحيدٌ، ولا ذهل عنه وهو محصورٌ في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسالك الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة بين أنصاره وأعوانه، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرار عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك؛ فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة، والقرآن من وراء ذلك كله.
من أجل هذا كان التوحيد أولاً ولا بد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر.
أما أركان الإسلام الخمسة الكبرى ومعالمه العظمى فشرعت لتعلن التوحيد وتجسده وتقرره وتؤكده تذكيراً وتطبيقاً، وإقراراً وعملاً. فالشهادتان إثبات للوحدانية، نفيٌ للتعدد وحصر للتشريع والمتابعة في شخص المرسَل المبلِّغ محمد صلى الله عليه وسلم.
الصلاة مفتتحةٌ بالتكبير المنبئ عن طرح كل من سوى الله عز شأنه واستصغار كل من دون الله عز وجل. ناهيك بقرآن الصلاة وأذكارها في منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
أما الزكاة فهي قرينة الصلاة في التعبد والاعتراف للرب الجليل وإخراجها خالصة لله طيبة بها النفس براءةً من عبادة الدرهم والدينار: (وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ) [فصلت:6-7].
أما الصيام الحق فهو الذي يدعُ الصائمُ فيه طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه ومولاه.
أما الحج فشعار الأمة كلها في هذه البطاح والبقاع فهو التلبية بالتوحيد ونفي الشرك.
يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في ذلك كله: (نحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب إلى الله والرجوع إليه وإفراده بالتعظيم والإجلال، ومطابقة القلب للجوارح من الطاعة والانقياد).
وفي مأثور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الورد اليومي الذي يجعله المسلم في حزبه: ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين)). وفي الدعاء النبوي: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)).
عباد الله: ما كانت هذه الأدلة المتكاثرة، والحجج المتظافرة، والبراهين المتوافرة، إلا لعظم الأمر، وخطر شأن القضية،وشدة الخوف على الناس من الانحراف والقلوب من الزيغ. ولماذا لا يُخاف عليهم؟ والشياطين ما فتئت تترصد لبني آدم تجتالهم وتُغويهم.
وفي الحديث القدسي: ((خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً)). أخرجه مسلم من حديث عياض المجاشعي.
كيف لا يكون الخوف والرسول صلى الله عليه وسلم خاطب أصحابه الصفوة المختارة من الأمة: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))؟؟.
ويزداد الخوف حين يتأمل المتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل))، بل لقد أخبر عليه الصلاة والسلام: ((أن فئاماً من الأمة تعبد الأوثان وقبائل تلحق بالمشركين)).
والحافظ ابن كثير رحمه الله يعلِّق على قول الله تعالى: (ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام:88]. قال رحمه الله: فيه تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته.
لماذا – يا عباد الله – لا يُخاف الخلل في التوحيد والنقص في صدق التعبد والتعلق؟ لماذا لا يُحذر من الشرك وأنواعه وأسبابه والله يقول في محكم تنزيله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) [يوسف:106]. قال بعض أهل العلم في هذه الآية دلالةٌ على ما يتخلل بعض الأفئدة، وتنغمس فيه بعض النفوس من الشرك الخفي الذي لا يشعر به صاحبه غالباً؛ فمثل هذا وإن اعتقد وحدانية الله لكنَّه لا يخلص له في عبوديته فيتعلق بغير ربه، بل ويعملُ لحظِّ نفسه أو طلب دنياه أو ابتغاء رفعةٍ أو منزلة أو قصدٍ إلى جاهٍ عند الخلق فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، والله أغنى الشركاء عن الشرك.
أيها الإخوة في الله: الأمر خطير ودقيق، شرك خفيٌ في المحبة والتألُّه والخضوع والتذلل، من أعطى حبَّه وذله وخضوعه وتسليمه وانقياده وطاعته لغير الله فكيف يكون حقَّق التوحيد؛ (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام:121]. (اتَّخَذُواْ أَحْبَـارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31].
هذا شرك في الخوف والرجاء، وآخر في الجهاد والتضحية، وذاك شرك في باب الأسباب، وذلك في باب النفع والضرر.
وانظروا في السحر والشعوذة والتطير والتشاؤم والرقى والتمائم، والحلف بغير الله في صور لا تكاد تُحصر. والغلو في الصالحين، ناهيك بدعاء غير الله، وطلب الغوث من المقبورين، والطواف حول الأضرحة، يدعون عندها ثم يدعونها، ويعلقون عليها القناديل والسرج والستور، ويذبحون عندها ولها، ويتمسحون، ويتطور الحال حتى يتخذونها أعياداً ومنسكاً فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة: وصورةٌ جديدةٌ من صور الخلل في التوحيد باءت بها فئات من المنتسبين إلى الإسلام تزعم الثقافة والاستنارة لا ترضى بحكم الله ولا تسلم له، بل إن في قلوبها لحرجاً، وفي صدورها لغيظاً وضيقاً؛ إذا أقيم حدٌ من حدود الله ارتعدت فرائصهم، واشمأزت قلوبهم، قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، ولهم إخوان يمدونهم في الغي، يزعمون الحفاظ على حقوق الإنسان، وما ضاعت حقوق الإنسان وحقوق الأمم إلا بهم وبأمثالهم.
الإسلام عندهم ظلم المرأة وهضم حقوقها، والحدود قسوة وبشاعة وتخلف، وحكم الردة تهديد لحرية الإبداع والفكر، وأحكام الشرع كلها عودة إلى عصور الظلام والتعصب والانغلاق؛ بل لقد أدخلوها في نفق الإرهاب المقيت. (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء:65].
الله أكبر: التوحيد صعب على الأذلاء ومن سِيموا الخسف والذل والتبعية: (أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَـاهاً واحِداً إِنَّ هَـاذَا لَشَىْء عُجَابٌ) [ص:5].
صعبٌ على من استمرؤوا الفساد وولغوا في الأوحال: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر:45].
إنهم لا يعرفون التوحيد، ولا يعرفون صفاء الدين مستعبدون في فكرهم، مشركون في تفكيرهم. وكأنهم قالوا للذين كفروا وكرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، بل في كلِّ الأمر، إنهم حين لم يعرفوا التوحيد ولم يحققوه أصبحوا وكأنهم فئة منفصلة عن أمة الإسلام بفكرها وسمتها ورؤيتها وغايتها، مشدودة من خارجها من الشرق والغرب في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب. وقد تجلى ذلك في تجاهلهم بل تمردهم على تاريخ الأمة وأصالتها وتراثها.
وبعد أيها الإخوة: فإن نعمة التوحيد يخرج بها قلب العبد من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده، يخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود إلى المعرفة واليقين والطمأنينة والرضا والهداية يخرج من الدينونة المذلة لأرباب متفرقين إلى الدينونة الموحِّدة لرب الأرباب (لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِـئَايَـاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىا رَبّهِمْ راجِعُونَ أُوْلَـئِكَ يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ) [المؤمنون:57-61].
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله حَمى حِمى التوحيد وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، فأظهر الله به دينه على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: تحقيق التوحيد يحتاج إلى يقظة قلبية دائبةٍ دائمةٍ تنفي عن النفس كلَّ خاطرة تقدح في عبودية العبد لربه، وتدفع كلَّ خالجة شيطانية في كل حركة أو تصرفٍ، ليكون ذلك كلَّه خالصاً لله وحده دون من سواه.
ومع شديد الأسف – أيها الإخوة – فإن قوادح التوحيد ومنقصاته صارت عند كثير من الناس من أخفى المعاصي معنى وإن كانت من أجلاها حُكماً، فلظهور حكمها ترى المسلمين عامَّتهم يتبرؤون منها ويغضبون كلَّ الغضب إذا نسبوا إليها وهم في هذا الغضب محقون، ولكن لخفاء معناها وقع فيها من وقع وهم لا يشعرون.
ولقد قرر أهل العلم أن الخوض في قوادح التوحيد والحديث عن مظاهر الشرك هي طريقة القرآن. وذلك من أجل تحذير المسلمين وليس الحكم عليهم به؛ فأهل السنة والجماعة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه، ولا يزال أهل العلم يتكلمون عن أحكام الردة وأسبابها، وطرق الزيغ والضلال، ومسالك الابتداع والتحذير منها، فمن علم العقائد الصحيحة وعلَّمها ودل عليها وحذر من طرق الزيغ والكفر والبدع فقد سلك مسلك حقٍّ، ونهج منهجَ نُصحٍ.
وإن مما ينبغي التنبيه إليه أن من الخطأ في المنهج وعدم التوازن في العرض وطرق التعليم أن ترى كثيراً من الكتب والمؤلفات تُفَصِّل في الفروع وأحكام المسائل حتى النادر منها وبعيد الوقوع؛ وهذا شيء في بابه حسن، ولكنهم لا يُعنون بالأصول مما يحتاجه الناس والناشئة فلا يُفضلون في التوحيد وأنواعه وحقوقه ولا يبينون ضدَّه من الشرك وأنواعه ومظاهره وأسبابه.
وثمَّت خطأ منهجي آخر وهو أن المتقدمين رحمهم الله سلكوا في باب العقائد مسالك كلامية ومصطلحات منطقية فخفي على الناس كثير من مهمات العقائد وأصول الدين، ولو سلكوا مسلك القرآن في البيان لكان المتعلمون والناس أحرى بهداية الله وفضله في هذا الباب؟!.
يقول ابن حجر الهيثمي رحمه الله: (ينبغي منع من يُشهر علمَ الكلام بين العامة لقصور أفهامهم ولأنه لا يؤمن بهم إلى الزيغ والضلال، ولابدَّ من أخذ الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه، إذ هو بين واضح يُدرك ببداهة العقل).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله: وأخلصوا دينكم لله، وحققوا توحيدكم واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.