الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - أعلام الدعاة |
أرأيت أن التثبيتَ إنما هو تثبيتُ الله، والهدايةُ ليست حِكْرًا على أحد. أرأيت كيف كان نبيُّك -صلى الله عليه وسلم- يعيشُ الرحمةَ للعصاة، لا أن يجعلَهم منبوذين من المجتمع، ولا أن تلاحقَهم النظراتُ الحارقةُ الحاقرة. أرأيت كيف أن التوباتِ متفاوتات، فتوبةٌ ناقصة، وتوبةٌ تمحو الذنب، وتوبةٌ تُفرح الرب، وتوبةٌ يكفي منها لرضى الرب جزء من سبعين جزءًا.
الخطبة الأولى:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، ومن اقتفى أثره، أما بعد: فاتقوا ربكم واشكروه.
هل بلغكم نبأُ المرأةِ التي دخلتِ المسجدَ عند الرجال، امرأةٌ متحجبة تمشي رُويدًا حتى وصلت لإمام المسجد. فقالت له بكل وضوح وجرأة: إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا.
أتدري من يكون إمامُ المسجد؟! إنه إمام الأمة.. إنه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فماذا فعل نبيُّك -صلى الله عليه وسلم-؟ هل قال قُبض عليها؟! هل فرح؛ لأنها سلّمت نفسها؟! لا، بل تكدرَ وحوّلَ وجهَه، وسكتَ كأنه لم يسمعْها.
إنها امرأة رَسَخَ الإيمان في قلبها رسوخَ الرواسي، فهل كانت تعلم أن التطهيرَ حجارةٌ تشدَخ رأسَها وتُسيلُ الدماءَ من جسدها؟! نعم إي واللهِ إنها لتَعلم. فيقول لها الذي هو بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم: "وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ"؛ فتردُّ مصمِّمةً مُذكِّرةً بمؤمن صادق سبَقها للجنة: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ. فَقَالَ لَهَا الحكيمُ الرحيم-صلى الله عليه وسلم-: "حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ".
وتسعةُ أشهر تمرُّ، وهي على خوفها وإشفاقها، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ.. ولكنَّ رحمةَ الله التي وسعتْ كلَّ شيء تَسَعُ جنينًا لا ذنبَ له، في لحظة نزوةٍ بهيمية، وإذْ بنبيِّك -صلى الله عليه وسلم- يقول لها بعد تسعة أشهر من العناء وتأنيب الضمير: "اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ". يا ألله!! سنتان انتظار؟! أيُّ قلب سيحتمل إلا قلوبُ الصادقين والصادقات.
وتمُرَّ سنتان بطيئتان من الإرضاع، وحرارة الذنب تلسعها!! فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، علامةً على الفِطام، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ. ويتكرر نداؤها الذي قالته قبل سنتين وتسعة أشهر: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. ولكن الرحمة السابغة تأبى أن يُترك الفطيم بلا كافل ينال به أجرًا، ومن أمه فرحًا وهي تغادر الدنيا، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى أنصاريٍّ شهمٍ يَكفُلُه.
ذهبوا بالمرأة فحجّبوها، وحفروا لها حفرة زيادةً في سَتر جسمها، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ مدافعًا عنها: "مَهْلاً يَا خَالِدُ! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ".
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: "تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وقَدْ زَنَتْ؟!" فقَالَ رادًّا على عمر ومؤكدًا صدقها: "لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ"، يا الله سبعين تكفيهم توبتها؟! ثم يبين رفعة توبتها فيقول: "وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَل مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للَّهِ -تَعَالَى-؟".
حتى إذا ما انقضتْ أيامُ مِحنتِها | تكادُ لولا عُرى الإيمانِ تَنتحرُ |
وكفكفتْ دمعةً حرّى مودِّعـةً | وللأسى صورةٌ من خَلْفها صورُ |
واستبشرت بعبير التوبِ واغتسلتْ | كما يُنقِّي صـِلادَ الصخرةِ المطرُ |
قام النبيُّ وصفَّ الصَّحْبَ في أثرٍ | فيهم أبو بكرٍ الصدّيقُ والعُمَرُ |
صلى وصلّوا وضجُّـوا بالدعاء لها | ودعوةُ المصطفى للعبد مُـدَّخَرُ |
في ذمةِ الله يا مَن فاحَ مرقَدُها | عِطرًا، وطِبْتِ وطابَ القبرُ والمدَرُ |
والذي لا إله إلا هو لو سجد أحدُنا حتى ينكسر صلبُه ما بلغ منزلتَها في الصحبةِ والتوبةِ وصلاةِ ودعاءِ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- لها، رضي الله عنها وأرضاها.
فاللهم مغفرتُك أوسعُ من ذنوبِنا، ورحمتُك أرجَى عندَنا من عملِنا.
إنْ كانَ لا يرجوكَ إلا محسنٌ | فمَنِ الذي يدعو ويرجو المجرمُ |
الخطبة الثانية:
وبعد هذه القصةِ المستدِرَّة لغزيرِ الدمع: أرأيتَ أرحمَ وأحكمَ من ربِّك في شرعه؟! حيث عصمَ هذا الجنين، فلا يُقتل معها بغير ذنب.
أرأيت أن التثبيتَ إنما هو تثبيتُ الله، والهدايةُ ليست حِكْرًا على أحد.
أرأيت كيف كان نبيُّك -صلى الله عليه وسلم- يعيشُ الرحمةَ للعصاة، لا أن يجعلَهم منبوذين من المجتمع، ولا أن تلاحقَهم النظراتُ الحارقةُ الحاقرة.
أرأيت كيف أن التوباتِ متفاوتات، فتوبةٌ ناقصة، وتوبةٌ تمحو الذنب، وتوبةٌ تُفرح الرب، وتوبةٌ يكفي منها لرضى الرب جزء من سبعين جزءًا.
أرأيت كيف أن للتوبة حلاوةً، برغم الحرقةِ والندامة؟! فهذه الصحابيةُ التائبةُ يكفيها أن تتوبَ إلى الله دون علم أحد، إلا أنها أبت إلا أن يُقامَ عليها الحد.
وسؤال قد يُشكِل: كيف زَنَتْ وهي الصحابية المؤمنة؟! والجواب: أنه قد يَضعف المرء ولو كان كاملاً، وقد يقع في المحظور؛ لأنه خُلِقَ من ضعف، لكن بذرة الإيمان لا تلبث أن تعودَ فتنموَ في القلب الحي. والصادق في توبته لا يزال ذنبه نصبَ عينيه، حتى يقولَ عدوُّ الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أُوقِعْه في ذلك الذنب.
فيا عبدَ الله: لا تدَعْ لليأسِ إلى قلبِك طريقًا بسبب ذنبٍ وقعْتَ فيه، وإن عَظُم. وتذكرْ قولَ ربِّك –عز وجل-: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)[طه: 82].
إِلهَنا وَجْهُكَ أَكْرمُ الوُجُوه وَجَاهُكَ أَعْظَمُ الجَاه، تُطَاعُ فَتَشْكُر، وَتُعْصَى فَتَغْفِر، وَتُجِيبُ المضطر، وَتَكْشِفُ الضُر، تَشْفِي السَقِيم وَتَغْفِرُ الذَنب وَتَقْبَلُ التَوب.
اللَّهُم يا قَرِيْبًا مِمَّنْ دَعَاه، يا حَلِيْمًا على منْ عَصَاه: ما عَصَيْنَاك جَهْلاً بعُقُوْبَتِكَ، ولا تَعَرُّضًا لِعَذَابِك، ولَكِنْ غَرَّنَا سَتْرُكَ عَليْنَا، فارْحَمْ عِبَادًا غَرَّهُمْ طُولُ إِمْهَالِك، وأطْمَعَهُمْ كَثْرَةُ إِفْضَالِك.
يَا حَسَنْ التَجَاوز يَا مَنْ أَظْهَرَ الجَمِيل وَسَتَرَ القَبِيح، يَا وَاسِعُ المَغْفِرَة يَا بَاسِطَ اليَدينِ بِالرَحمَة، يَا صَاحِبَ كُلِ نَجْوَى وَيَا مُنْتَهَى كُلِ شَكْوَى يَا كَرِيمَ الصَفْح.
يَا رَبنَا وَسَيدَنا وَمَولاَنَا وَيَا غَايةَ رَغْبَتِنَا، نسْألُكَ يَا الله أَنْ تُحَرِمَ وُجُوهَنا عَلَى النَار، وَأنتَ الرَءوفُ الرَحِيم اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا خَيرَ مَا عِندَكَ بِسُوءِ مَا عِندنا.