الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
فِي أَخْبَارِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- هِدَايَةٌ لِلْمُوَفَّقِينَ، وَعِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَدُرُوسٌ لِلْمُنْتَفِعِينَ. يُسْلِمُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَيُسْلِمُ بِإِسْلَامِهِ عَشِيرَتُهُ وَقَبِيلَتُهُ، فَيَنَالُ أَجْرَهُمْ مَعَ أَجْرِهِ، وَيَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْهِمْ. وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ جِدًّا، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِ قَوْمُهُ.
الخُطْبَةُ الأولَى:
الْحَمْدُ لِلهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ الْحِكْمَةُ الْبَاهِرَةُ فِي أَمْرِهِ، وَلَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ آمَنَ بِهِ رِجَالٌ فَآمَنَ بِإِيمَانِهِمْ بُيُوتٌ وَقَبَائِلُ، وَرُدَّ عَنْ دَعْوَتِهِ أَقْوَامٌ تُوَازِي عُقُولُهُمُ الْجِبَالَ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ عُقُولُهُمْ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَسَلُوهُ الْهِدَايَةَ لِلْحَقِّ، وَالثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ وَالثَّبَاتَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَلَا حَوْلَ لِلْعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ لَهُ إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) [الكهف: 17].
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي أَخْبَارِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- هِدَايَةٌ لِلْمُوَفَّقِينَ، وَعِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَدُرُوسٌ لِلْمُنْتَفِعِينَ. يُسْلِمُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَيُسْلِمُ بِإِسْلَامِهِ عَشِيرَتُهُ وَقَبِيلَتُهُ، فَيَنَالُ أَجْرَهُمْ مَعَ أَجْرِهِ، وَيَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْهِمْ.
وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ جِدًّا، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِ قَوْمُهُ، وَهَذِهِ قِصَّتُهُ نَحْكِيهَا كَمَا رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ، وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَنَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا، فَأَكْرَمَنَا خَالُنَا وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا، فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ، فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا عَلَيْنَا الَّذِي قِيلَ لَهُ (أَيْ: أَشَاعَهُ وَأَفْشَاهُ)، فَقُلْتُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ، وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ، فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا (أَيْ: إِبِلَنَا)، فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا، وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ فَجَعَلَ يَبْكِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ، فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا، فَأَتَيَا الْكَاهِنَ، فَخَيَّرَ أُنَيْسًا، فَأَتَانَا أُنَيْسٌ بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا (مَعْنَاهُ: تَرَاهَنَ هُوَ وَآخَرُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ شِعْرًا، وَكَانَ الرَّهْنُ عَلَى نَاقَةِ ذَا وَناقَةِ ذَاكَ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْضَلُ أَخْذَ النَّاقَتَيْنِ، فَتَحَاكَمَا إِلَى الْكَاهِنِ فَحَكَمَ بِأَنَّ أُنَيْسًا أَفْضَلُ فَأَخَذَ النَّاقَتَيْنِ) قَالَ: وَقَدْ صَلَّيْتُ -يَا ابْنَ أَخِي- قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثَلَاثِ سِنِينَ، قُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّي، أُصَلِّي عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ (أَيْ: كِسَاءٌ)، حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ. فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي، فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَرَاثَ عَلَيَّ (أَيْ: أَبْطَأَ)، ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ، يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ، قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ، وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ. قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ، فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ: قُلْتُ: فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ مَكَّةَ فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ (يَعْنِي: نَظَرْتُ إِلَى أَضْعَفِهِمْ فَسَأَلْتُهُ لِأَنَّ الضَّعِيفَ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ غَالِبًا)، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَقَالَ: الصَّابِئَ، فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلٍّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، قَالَ: فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ (يَعْنِي: مِنْ كَثْرَةِ الدِّمَاءِ الَّتِي سَالَتْ منه)، قَالَ: فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَغَسَلْتُ عَنِّي الدِّمَاءَ: وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وَلَقَدْ لَبِثْتُ -يَا ابْنَ أَخِي- ثَلَاثِينَ، بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي (يَعْنِي: انْثَنَتْ طَيَّاتُ بَطْنِهِ لِكَثْرَةِ السِّمَنِ وَانْطَوَتْ)، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ (أَيْ: رِقَّةَ الْجُوعِ وَضَعْفَهُ وَهُزَالَهُ). قَالَ: فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانٍ إِذْ ضُرِبَ عَلَى أَسْمِخَتِهِمْ، (أَيْ: نَامُوا) فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ. وَامْرَأَتَانِ مِنْهُمْ تَدْعُوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ (وَهُمَا: صَنَمَانِ)، قَالَ: فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي طَوَافِهِمَا فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْأُخْرَى، قَالَ: فَمَا تَنَاهَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا قَالَ: فَأَتَتَا عَلَيَّ فَقُلْتُ: هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَةِ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَكْنِي (وَأَرَادَ أَبُو ذَرٍّ بِذَلِكَ سَبَّ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ وَغَيْظَ الْكُفَّارِ بِذَلِكَ) فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ، وَتَقُولَانِ: لَوْ كَانَ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا هَابِطَانِ، قَالَ: "مَا لَكُمَا؟" قَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، قَالَ: "مَا قَالَ لَكُمَا؟" قَالَتَا: إِنَّهُ قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلَأُ الْفَمَ (أَيْ: عَظِيمَةً لَا شَيْءَ أَقْبَحُ مِنْهَا)، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ، ثُمَّ صَلَّى فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ -قَالَ أَبُو ذَرٍّ- فَكُنْتُ أَنَا أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: "وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ"، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ أَنْتَ؟" قَالَ قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ، قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِ انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ، فَذَهَبْتُ آخُذُ بِيَدِهِ، فَقَدَعَنِي صَاحِبُهُ (أَيْ: كَفَّنِي وَمَنَعَنِي)، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: "مَتَى كُنْتَ هَاهُنَا؟" قُلْتُ: قَدْ كُنْتُ هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، قَالَ: "فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟" قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ، قَالَ: "إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ" (أَيْ: تُشْبِعُ شَارِبَهَا كَمَا يُشْبِعُهُ الطَّعَامُ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَفَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا، ثُمَّ غَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ (أَيْ: غِبْتُ مُدَّةً)، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ، لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ؟ عَسَى اللهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ" فَأَتَيْتُ أُنَيْسًا فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، فَأَتَيْنَا أُمَّنَا، فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، فَاحْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارًا، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ أَيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ. وَقَالَ نِصْفُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ أَسْلَمْنَا، فَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمُ الْبَاقِي وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِخْوَتُنَا، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ لَقِيَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ: "اعْرِضْ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ، فَعَرَضَهُ فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ، وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ، فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَجَاءَ إِلَى المَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ، فَقَامُوا فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ، فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، تَقْتُلُونَ رَجُلًا مِنْ غِفَارَ، وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ، فَأَقْلَعُوا عَنِّي، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الغَدَ رَجَعْتُ، فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالأَمْسِ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالأَمْسِ، وَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ، وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ بِالأَمْسِ، قَالَ: فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلاَمِ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ".
اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَرْضِهِ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ سِيَرِ الثَّابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ عِظَةً وَعِبْرَةً فِي زَمَنٍ تَلَاطَمَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، وَأَحَاطَتْ بِالمُؤْمِنِينَ الْمِحَنُ، وَلَبَسَ أَهْلُ الضَّلَالِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف: 43].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْعَظِيمِ دُرُوسٌ كَثِيرَةٌ يَحْتَاجُهَا المُؤْمِنُ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ حَاجَةً فِي هَذَا الزَّمَنِ؛ وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ صَدَقَ فِي الْتِمَاسِ الْحَقِّ هَدَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَهَدَى النَّاسَ عَلَى يَدَيْهِ؛ فَصِدْقُ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي طَلَبِ الْحَقِّ قَادَهُ إِلَيْهِ، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِ قَبِيْلَتَيْ غِفَارَ وَأَسْلَمَ، وَكَمْ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ؟! وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى الصِّدْقِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَتَجْرِيدِ الْوَلَاءِ لَهُ وَحْدَهُ، وَالتَّجَرُّدِ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا، مَعَ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ بِالْهِدَايَةِ لِلْحَقِّ! فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ هُدِيَ وَهُدِيَ بِهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قُوَّةُ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْحَقِّ، وَتَحَمُّلُهُ الْأَذَى فِيهِ، حِينَ صَدَعَ بِدِينِهِ فِي وَسَطِ المُشْرِكِينَ حَتَّى أَدْمَوْهُ وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ.
وَفِيهِ الرُّخْصَةُ فِي كَتْمِ الْحَقِّ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ الْأَذَى بِسَبَبِ الْجَهْرِ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ، وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ" لَكِنَّ أَبَا ذَرٍّ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ إِنْ قَوِيَ المُؤْمِنُ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ مَاءِ زَمْزَمَ، وَأَنَّهُ مَاءٌ مُبَارَكٌ، وَأَنَّهُ لِمَا شُرِبَ لَهُ؛ فَمَنْ شَرِبَهُ لِلشِّبَعِ شَبِعَ وَسَمِنَ كَمَا سَمِنَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَدْ أَقَامَ عَلَيْهِ شَهْرًا لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ سِوَاهُ، وَهُوَ شِفَاءُ سُقْمٍ لِمَنْ شَرِبَهُ يَسْتَشْفِي بِهِ، وَقَدْ شَرِبَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَرَادُوا بِهِ قُوَّةَ الْحِفْظِ، وتَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَنَالُوا مَا أَرَادُوا، وَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ بَرَكَةِ مَكَّةَ وَزَمْزَمِهَا، عَمَّرَهَا اللهُ تَعَالَى بِالإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَحَفِظَهَا مِمَّنْ يُرِيدُ بِهَا شَرًّا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ ..