الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | صلاح بن محمد البدير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
أتاكم شهرُ المرابح بظلاله ونواله، وجماله وجلاله، زائرٌ زاهر، وشهر عاطر، فضله ظاهر، بالخيرات زاخر، أرفع من أن يُحدَّ حسنُ ذاته، وأبدع من أن تُعدَّ نفحاتُه، وتحصى خيراته، وتستقصى ثمراته، نشر فينا عُرفَ الكبا، وريح الصبا، فلا ترى إلا عابدًا يركع، وقارئًا يرتّل ويخشع، يرقُّ قلبه ويدمع، بآيات تجلو الصدى، وتذهب الظما، وتزيل العشى ...
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
واعلموا أن الدنيا حلوة خضرة، جميلة نضرة، نعيمٌ لولا أنه عديم، ومحمود لولا أنه مفقود، وغناء لولا أن مصيره الفناء، المستقرُّ فيها يزول، والمقيم عنها منقول، والأحوال تحول، وكلُّ عبد مسؤول، من تعلّق بها التاط بشغل لا يفرغ عَنَاهُ، وأملٍ لا يبلغ منتهاه، وحرصٍ لا يدرك مداه، أيامُها تسير في خبَب، وشهورها تتابع في عجب، وزمانها انحدر من صبَب، الدنيا كلُّها قليل، وما بقي منها إلا القليل، كالسغب شُرب صفوُه وبقي كدره، مخاطرُ ومعاسر، وفتن زوائر، صغائر وكبائر، والناس يتقلبون فيها مؤمن وكافر، وتقي وفاجر، وناجٍ وخاسر، وسالم وعاثر، فطوبى لمن حفظ نفسه وأولاده، ونساءه وقِعاده، من موجبات السخط والذم، ووسائل الشر والهدم، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101].
أيها المسلمون: أتاكم شهرُ المرابح بظلاله ونواله، وجماله وجلاله، زائرٌ زاهر، وشهر عاطر، فضله ظاهر، بالخيرات زاخر، أرفع من أن يُحدَّ حسنُ ذاته، وأبدع من أن تُعدَّ نفحاتُه، وتحصى خيراته، وتستقصى ثمراته، نشر فينا عُرفَ الكبا، وريح الصبا، فلا ترى إلا عابدًا يركع، وقارئًا يرتّل ويخشع، يرقُّ قلبه ويدمع، بآيات تجلو الصدى، وتذهب الظما، وتزيل العشى، فاحمدوا الله أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامع بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون: بلغناه وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه وكم قريب لنا أضجعناه، صُمناه وكم عزيز علينا دفناه.
إخواني: رحيلُ من رحل عنا نذيرٌ لنا عنَّا، وهذا الموت منا قد دنا، والرحيل قرب ولا زاد عندنا، فالوحَى الوحَى قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرة تُقال، ولا يُفدى أحد بمال، فحُثوا حزم جزمكم، وشدوا لبَد عزمكم، وأروا الله خيرًا من أنفسكم، فبالجد فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره". أخرجه مسلم.
أيها المسلمون: هذا شهر القبول والسعود، هذا شهر العتق والجود، هذا إبَّانُ الترقي والصعود، فيا خسارة أهل الرقود والصدود، فعن أنس -رضي الله عنه- عن النبي يرويه عن ربه -عز وجل- قال: "إذا تقرب العبد إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة". أخرجه البخاري.
يا عبد الله: هذا أوان الجد إن كنت مجدًّا، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعدًّا، هذا نسيم القبول هبّ، هذا سيل الخير صبّ، هذا الشيطان كبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". متفق عليه.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا كانت أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير: أقبل، ويا باغي الشر: أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة". أخرجه ابن ماجه.
هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، فقد قرب الاغتراب، في دار الأجداث والتراب.
يا من ألف الذنوب وأجرمَا
فطوبى لمن غسل في هذا الشهر درن الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوْت الأوبة.
يا أسير المعاصي، يا سجين المخازي: هذا شهر يُفَكّ فيه العاني، ويعتق فيه الجاني، ويتجاوَز عن العاصي، فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى، صعد رسول الله المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين"، فقيل: يا رسول الله: إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين!! فقال: "إن جبريل -عليه السلام- أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين". أخرجه ابن خزيمة وابن حبان.
أيها المسلمون: احذروا ما أعدّه لكم أهلُ الانحلال، ودعاة الفساد والضلال، من برامج مضلة، ومشاهد مخِلّة، قومٌ مستولِغون لا يبالون ذمًّا، وضمنون لا يخافون لومًا، وآمنون لا يعاقَبون يومًا، ومجرمون لا يراعون فطرًا ولا صومًا، عدوانًا وظلمًا، جرَّعوا الشباب مسموم الشراب، وما زادهم غير تتبيب، فتهييجٍ وتشبيب، وتدمير وتخريب، مآربُ كانت عِذابًا فصارت عَذابًا. فيا من رضي لنفسه سوء المصير، وارتكب أسباب التضييق والتحقير: أخسر بها من صفقة، وأقبح بها من رفقة.
يا مطلقي النواظر في محرمات المنظور: ها أنتم في خير الشهور، فحذار حذار من انتهاك حرمته، وتدنيس شرفه، وانتقاص مكانته، يقول رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". أخرجه البخاري.
يا طليقًا برأي العين وهو أسير، يا مسامًا حياضَ الردى وهو ضرير، يا من رضي عن الصفا بالأكدار، وقضى الأسحار في العار والشنار، وكلَّ يوم يقوم عن مثل جيفة حمار: عجبًا كيف تجتنب الطريق الواضح، وتسلك مسالك الردى والقبائح؟! ما بال سمعك عليه ستور؟! ما بال بصرك لا يرى النور؟! وأنت في دبور، وغفلة وغرور، وما أنت في ذلك بمعذور، فبادر لحظات الأعمار، واحذر رقدات الأغمار، ولا تكن ممن يقذفون بالغيب من مكان بعيد، إذا قيل لهم: توبوا، سوَّفوا، ولا مجيب.
فطوبى لمن تركوا شهوةً حاضرة لموعد غيب في الآخرة، لم يرَوه ولكنهم صدَّقوا به، (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الزمر:33-35].
أيها الصائمون: إن أولى ما قُضِيت فيه الأوقات، وصُرفت فيه الساعات، مدارسة الآيات وتدبّر البينات والعظات، وقد كان جبريل -عليه السلام- يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. متفق عليه.
شفاءٌ لما في الصدور، وحَكَم عدل عند مشتبهات الأمور، قصصٌ باهرة، ومواعظ زاجرة، وحكم زاهرة، وأدلة على التوحيد ظاهرة. أندى على الأكباد من قطر الندى، وألذّ في الأجفان من سنة الكرى، وهو الروح إلى حياة الأبد، ولولا الروح لمات الجسد، فأقبِلوا عليه، واستخرجوا دُرَره، واستحلبوا دِررَه، وتعلّموا أسبابَ التنزيل، وراجعوا كتبَ التفسير والتأويل، ولا تقنعوا من تلاوته بالقليل، وحكِّموه في كل صغير وجليل، فالسعيد من صرف همتَه إليه، ووقف فكرَه وعزمه عليه، يرتع منه في رياض، ويكرع منه في حياض، لا يجفّ ينبوعها، ولا تنضب فيوضها، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].
فكن -يا عبد الله- كالحالِّ المرتحل، كلما ختمه عاد على أوله يقرأ ويرتِّل، يقول رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم-: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب: منعتُه الطعام والشهوة فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل فشفِّعني فيه، فيشفعان". أخرجه أحمد.
أيها المسلمون: هذا شهر الإنفاق، والبذل والإشفاق، فيا من يتبجَّس بالرِّئم، ويتصبّح بالجدة، ويكاد ينشق بالغنى، تذكروا الأكباد الجائعة، أهلَ الخصاصة والخماصة، الذين أصابتهم البوائق الفالقة، والقوارع الباخعة، ممن يعانون عُدمًا، ويعالجون سقمًا، أعينوهم وأغنوهم، (وَأَطْعِمُواْ الْقَـانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج: 36]، وأغيثوا الجائع والمضطر، وأنفقوا وانفحوا وانضحوا، ولا توكوا فيوكي الله عليكم، ولا تحصوا فيحصي الله عليكم، ولا تُوعوا فيوعي الله عليكم. أصيخوا السمع -أيها الجمع- لقول المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: "يا ابن آدم: إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى". أخرجه مسلم. وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصدقة صدقة في رمضان". أخرجه الترمذي. و"كان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل -عليه السلام-".
أيها المسلمون: مواسمُ الخيرات أيام معدودات، مصيرها الزوال والفوات، فاقصروا عن التقصير في هذا الشهر القصير، وقوموا بشعائره التعبدية، وواجباته الشرعية، وسننه المروية، وآدابه المرعية: و"لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر". و"فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر"، فتسحَّروا ولو بجرعة ماء، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يُفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات، حسا حسوات من ماء. وكان إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله". و"من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه ربه وسقاه". ولا كفارة عليه ولا قضاء، و"من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض"، ويفطر من استمنى لا من احتلم، و"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، و"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، و"من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"، و"من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء"، "وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم"، و"عمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المسلمون: احذروا الفطرَ قبل تحلة صومكم ووقتِ فطركم، واحذروا انتهاكَ حرمة نهار شهركم بالفطر بلا عذر شرعي، فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "بينا أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعرًا، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهِّله لك، فصعدتُ حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟! ما هذه الأصوات؟! قال: هذا عُواء أهل النار، ثم انطلقا بي، فإذا أنا بقوم معلَّقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دمًا، قلت: من هؤلاء؟! قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم". أخرجه ابن خزيمة وابن حبان.
وعلى المرأة المسلمة إذا شهدت العشاء والتراويح أن تجتنب العطور والبخور، وما يثير الفتنة من ملابس الزينة المزخرفة أو غيرها، والتي تستميل نفوس ضعاف الإيمان، وتعري بها أهلَ الشر والفساد، وتبلبِل مَنْ في قلبه مرضٌ. وعليها أن تجتنب الخلوة بالسائق الأجنبي؛ لما في ذلك من النتائج التي لا تُحمد عقباها، ولا يُعرف منتهاها، فعن زينب الثقفية -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تتطيّب تلك الليلة"، وفي رواية: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيبًا". رواهما مسلم. وعن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لو أن رسول الله رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل، فقيل لعمرة: نساء بني إسرائيل مُنعن من المسجد؟! قالت: نعم. أخرجه مسلم.
وصلاتهن في قعر بيوتهن خيرٌ لهن، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن". أخرجه أبو داود. وعن أم سلمة -رضي الله عنها- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن". أخرجه أحمد. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها". أخرجه أبو داود.
أيها المسلمون: شفاءُ العِيِّ السؤال، فاسألوا عما أشكل، واستفتوا عما أقفل، فمن غدا بغير علم يعملُ، أعماله مردودة لا تقبلُ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أيها المسلمون: إن مما يؤسِف الناظر ويُحزن الخاطر، ظاهرةً مقيتة، وعادة قبيحة، سرت في صفوف بعض المسلمين، ألا وهي ظاهرة الإسراف في المآكل والمشارب في شهر رمضان، زيادة على قدر الحاجة، وإكثارًا على مقدار الكفاية، نهمٌ مُعِرّ، وشرهٌ مضرٌّ، بطنةٌ مورثة للأسقام، مفسدة للأفهام، وبطر وأشر، حمل الكثير إلى رمي ما زاد من الأكل والزاد في النفايات والزبالات مع المهملات والقاذورات، في حين أن هناك أكبادًا جائعة وأُسرًا ضائعة تبحث عما يسدّ جوعَها ويسكِّن ظمأها.
فاتقوا الله -عباد الله-، فما هكذا تُشكر النعم، وتُستدفَع النقم، (وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]، (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [الإسراء: 26، 27]. وتوسطوا فالتوسط محمود، وأنفقوا باعتدال، (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً) [الإسراء: 29]. ولا خير في السرف، ولا سرف في الخير، قال -جل في علاه-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
أيها المسلمون: لكل صائم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة، تفتح لها أبواب الإجابة، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة". أخرجه البزار. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن للصائم عند فطره لدعوة ما تردّ". أخرجه ابن ماجه.
فاستكثروا من الدعوات الطيبات في شهر النفحات، لكم ولأنفسكم ولأهليكم وذويكم، وارفعوا أكفَّ الضراعة، وتوسَّلوا إلى الله بألوان الطاعة، أن ينصر إخوانكم المستضعفين والمشرَّدين، والمنكوبين والمأسورين، والمضطهدين في كل مكان، فالأمة تمرّ بأعتى ظروفها، وأقسى أزمانها، المؤامرات تُحاك، والمكائد تدبَّر، ولا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ولا نتوكل إلا عليه، وهو المستعان على كل فادحة، والمستغاث عند كل فاجعة، فألحّوا على الله بالدعاء، وارفعوا إليه الشكوى والنداء، واحذروا الموانع، وابتعدوا عن القواطع، وتسلَّحوا بسلاح الإيمان واليقين، واعلموا أن ذلك ابتلاء من الله وامتحان؛ لتنهض الأمة من سباتها وتفيق، وتعرف العدو من الصديق، وترجع إلى دينها بالتحقيق والتطبيق.
اللهم أنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...