الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
ولئن كان الاجتماع ووحدة الصف ضرورة في كل وقت وحين، فنحن اليوم أحوج ما نكون إليه من أي وقت مضى؛ لأننا نعاني من ضعف الطاقات ومحدودية الإمكانيات، وفي الافتراق والخلاف إضاعة للجهود، وتشتيت للطاقات، وفي الاجتماع عزة ورحمة وقوة....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمر بالجماعة ودعا إليها، وحذر من التنازع والعواقب المترتبة على تركها، ورغب في الإذعان للحق والانقياد، وزجر عن الإصرار على الباطل والعناد، والصلاة والسلام على من أرسى أسس الاجتماع، ونهى عن التفرق والنزاع، وعمّق معاني المحبة والاتحاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103]. يأمرنا الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآيات العظيمة بالاعتصام بدينه، والتمسك بمنهجه، وينهانا عن التفرق والاختلاف، ويذكرنا بالماضي المؤلم حينما كنا متناحرين متفرقين، فألف الله بين قلوبنا بهذا الدين، فأصبحنا به من بعد الفرقة والاختلاف إخوانا.
إن الاعتصام بمنهج الله، والاجتماع على دينه، والتمسك بحبله، لن يكون إلا عبر ملازمة الجماعة، وعدم مفارقتها والبعد عن الحيدة عنها والانفصال منها، فإن ما يكرهه المرء في الجماعة خير له مما يحب في الفرقة، ولهذا يقول ابن مسعود -رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) قال: الجماعة(تفسير ابن جرير). وقال ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: (وَلَا تَفَرَّقُوا) قال: "أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة"(تفسير ابن كثير).
وحذرنا الله من التفرق والاختلاف وترك الجماعة، ونهانا أن نكون كأهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا ولم يجتمعوا، فلذلك توعدهم الله بالعذاب العظيم والعقاب الأليم، فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105].
واسمعوا إلى رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهو يحثنا على الجماعة ويأمرنا بها فيقول: "عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ" [الترمذي (2165)]. وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ"(السنة لابن عاصم).
إننا حينما نكون مجتمعين تكون بيننا الألفة والرحمة والتعاون والتناصر، وحينما نتفرق ونتشتت نكون متناحرين معذبين ببعضنا البعض بالثارات والتباغض وغيره، قبل أن نكون معذبين من عدونا الخارجي، ولهذا قال: "الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ".
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: "الْزَمُوا هَذِهِ الطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَأَنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ"(المعجم الكبير للطبراني:). يوصينا -رضي الله عنه- بالالتزام بالجماعة والسمع والطاعة؛ لأن ما نكرهه في الجماعة من تشتت في الآراء واختلافات في وجهات النظر وغيرها من الأمور خير لنا مما نحب في الفرقة والوحدة حينما نرغب أن نكون لحالنا لا يشاركنا أحد.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَاتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ"(رواه الحاكم).
إنه ترهيب شديد وتحذير قوي من الفرقة والشتات، بل سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- شذوذا, وقال: "من شذ" أي ذهب لوحده وابتعد عن جماعة المسلمين وخالفها، فإنه سيشذ في النار ويدخلها ويحرم منها دون الجماعة, بل قال -صلى الله عليه وسلم- محذراً من مخالفة الجماعة ومفارقتها: "مَنْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، أَوْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ"(رواه أحمد).
فيا سبحان الله! كيف يرغب الإنسان بعد هذا أن يكون لوحده، أو يحب أن يبتعد عن الجماعة ويكون بمفرده، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يخبر أنه كلما انتمى الإنسان للجماعة فإن ذلك خيراً له، فالاثنان خير من الواحد، والثلاثة خير من الأثنين، والأربعة خير من الثلاثة، وهكذا ...
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ" [رواه مسلم).
يقول الله -تبارك وتعالى- حاثاً لنا على التعاون والاجتماع: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله تعالى الرحيم الرحمن، الكريم المنَّان صاحب الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على النبي المصطفى العدنان، وعلى آله وأصحابه أعلام الدين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
عباد الله: هذه النصوص العظيمة التي ذكرناها كلها تأمرنا بالجماعة، وتحثنا عليها، وترغبنا فيها، وما ذلك إلا لأن الجماعة قوة، والاتحاد عزة، والاجتماع خير كله، والتفرق والافتراق شر كله، ولو تأملنا فقط في قول عبد الله بن مسعود: "وَأَنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ"، لوجدنا أن هذا الكلام كلام عظيم يستحق أن نقف عنده ونتأمله؛ فإن فيه فوائد جمة وعبر كثيرة.
وعندنا في واقعنا مظاهر كثيرة تدل على مخالفة الجماعة وحب الفرقة والتفرد، ومن ذلك:
ترى بعض الناس وخاصة من الشباب، يسافر خارج البلد للدراسة أو للعمل أو لغيره، فيأتي من هناك بأفكار شاذة وآراء سقيمة تخالف منهج أهل السنة والجماعة، ومنهج سلف الأمة الذي مشى عليه أهله وأجداده في بلده، يأتي -ثبتنا الله وإياكم- وقد تأثر بالرفض والتشيع، أو تأثر بشيء من الأفكار الإلحادية أو العلمانية أو غيرها، وهذا لا شك أنه مخالف لمنهج الجماعة ومفترق عن طريقها، وهذا ما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في معظم الأحاديث المذكورة آنفا.
والبعض يفضل العزلة عن الناس في كل أحواله، ويرغب في البعد عنهم، ويحب أن يعيش لوحده ويبتعد الحياة ومؤثراتها ومشكلاتها، ظاناً أن في ذلك أجراً وثواباً، ولا يعلم أن ما يكرهه في الجماعة خير له مما يحب في الفرقة.
وبعض المسلمين -وهم إن شاء الله أقلة ولكنهم موجودون- يدّعون أنّ الأمة من مصلحتها أن تبقى هكذا دون أن تتحد وتجتمع، ويتعللون لذلك بعلل واهية، فمنهم من يقول: أن المطالبة باجتماع الأمة سيكون فيه لفت لأنظار أعدائها نحوها، وسيسعون أكثر لضربها وتمزيقها، وكأنهم يسعون الآن في خطب ودها وجمع شملها ولم صفها، أو يتعللون بالجوانب الاقتصادية فيقولون: لو تمت الوحدة الإسلامية واجتمع المسلمون كلهم في كيان واحد, لصرنا مثل الصين نأكل كل شيء، فهؤلاء لا جواب عليهم سوى أن نقول لهم: "وَأَنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ".
عباد الله: بعد نجاح مفاوضات الصلح بين الحسن بن علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، شرع الحسن -رضي الله عنه- في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيبًا ليبين لهم ما تمّ بينه وبين معاوية، فقال -رضي الله عنه- في خطبته: "الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلّا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمداً رسول الله أرسله بالحق، وائتمنه على الوحي -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد: فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له سوء ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإيّاكم لما فيه المحبة والرضا". والشاهد في قوله: "وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة"(مقاتل الطالبين).
وبعضهم لا يرغب في الوحدة من جوانب نفسية ومعيشية واجتماعية، فيرون أنهم حينما يكونون لوحدهم تقل مشاكلهم، وتشبع بطونهم، وتنقسم المعونات بينهم، وتكون الامتيازات كلها لهم، ولم يعلموا أن ما يأتيهم من خير وسعة ورزق إنما سببه بركة الجماعة، ولذلك نقول لهم: " َأَنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ".
بعض الأسر في البيوت ترغب في الاستقلال لوحدها، والخروج لحالها، والعيش لذاتها، وتظن أن ذلك في مصلحتها، وأنها ستحقق بذلك الانفصال خيراً لها، وتنسى "أَنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ"؛ فماهي إلا أشهر أو سنوات بسيطة من الاستقلال وإذا به يشتكي من الوحدة والانفراد، وأنه لم يعد قادراً لوحده على كفاية نفسه وأسرته، ويرى أن البركة كانت حينما كانوا يداً واحدة وشيئاً واحداً.
يروى أن رجلاً أوصى أولاده عندما كان مودعاً للدنيا، فأخذ حزمة من الحطب، ثم أمرهم أن يكسروها وهي مجتمعة فلم تتكسر واستعصت عليهم جميعاً، ثم فرقها عليهم، فكسروها بكل سهولة وبساطة، فقال لهم مودعاً وموصياً:
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى | خطب ولا تتفرقوا آحاداً |
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً | وإذا افترقن تكسرت آحادا |
ويقال أن جماعة من النمل صادفن بعيراً، فقال بعضهن لبعض: تفرقن عنه لا يحطمنكنَّ بخفه، فقالت حكيمة منهن: اجتمعن عليه تقتلنه.
وهناك أمور كثيرة -ياعباد الله- لو لاحظنا أنفسنا فيها لوجدنا أننا نحب أن نكون فيها منفردين بأنفسنا بعيدين عن غيرنا؛ لأننا نظن أن الانفراد فيها خير لنا، ولو فكرنا فيها قليلاً لوجدنا أن الاجتماع فيها أصلح وأفضل وأحكم.
ولئن كان الاجتماع ووحدة الصف ضرورة في كل وقت وحين، فنحن اليوم أحوج ما نكون إليه من أي وقت مضى؛ لأننا نعاني من ضعف الطاقات ومحدودية الإمكانيات، وفي الافتراق والخلاف إضاعة للجهود، وتشتيت للطاقات، وفي الاجتماع عزة ورحمة وقوة.
صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً منهم ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم منّ على عبادك المؤمنين بالاجتماع، وجنبهم مواطن الزلل والفرقة والخصومة، يا سميع يا مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.