المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه |
ومَنْ قَعَدَ مع العاجزين فإنه لا قيمة له في المجتمع، ولا تأثير له في الوطن، ولا مكانة له في الأُمَّة، ومن تعطَّل وتبطَّل انسلخ من الإنسانية، ومن تعوَّد الكسلَ ومال إلى الراحة فَقَدَ الراحةَ....
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي شرَح صدرَكَ، ودلَّ على ما ينفعُكَ، وإذا شكرتَ فإن الشكور يزيدكَ ويُكرِمُكَ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، والبصير السميع يراكَ ويسمعكَ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، وإذا اقتديتَ بهديه فإن العظيم يرفعُكَ ويحفظُكَ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وإذا سلكتَ سبيلَهم، فإن القويَّ ينصرُكَ ولا يخذُلُكَ.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي زاد المؤمنين، وعدة الصابرين، وبها النجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
النجاح في الحياة مطلب كل إنسان، والسعادة مقصده ومراده، وإليهما تسعى النفوس وتميل القلوب، وقد رسم لنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثلاثية النجاح والسعادة في الدنيا والآخرة، بحديث غزير الفوائد، عظيم المنافع، بقوله: "احْرِصْ على ما ينفَعُكَ، واستعَنْ باللهِ، ولا تَعْجَزْ".
احرص على ما ينفعك: احرص على السعي لمعالي الأهداف، وسامق الأخلاق، وأفضل العبادات، واجعل لحياتك هدفًا، ولعمرك مقصدا، ولسيرك غاية عالية، قال الله -تعالى-: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الْمُلْكِ: 22]، احرص على ما ينفعك؛ فالحياة قصيرة، والشباب يعقبه الهرم، والصحة يهددها المرض، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسُه نقص فيه أَجَلي ولم يَزِدْ فيه عملي"، وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الْفَجْرِ: 23-24]، ومن حرص على ما ينفعه اشتغل بالمرابح القَيِّمة، والمغانم النفيسة، وأكثر الأعمال أجرًا وأحبها إلى الله؛ ولهذا كان الصحابة يسألون عن أفضل الأعمال وأجلها، قال رجل: "يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك لله"؛ أن يسلم قلبك لله -عز وجل-، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: "فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: الهجرة. قال: فما الهجرة؟ قال: تهجر السوء".
ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلاةُ الجماعةِ أفضلُ من صلاة الفذِّ بسبع وعشرين درجة".
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "سبَق درهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ"، ومن حرص على ما ينفعه تحرَّى النفعَ الذي يبقى أثرُه، ويدوم فضلُه في الدنيا، ويمتد إلى الفوز في الآخرة، قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[الْبَقَرَةِ: 201-202]، والمراد بالحسنتين: نِعَم الدنيا والآخرة.
والمسلم الواعي الذي يحرص على ما ينفعه يبدأ بنفسه وُيصلح ذاتَه، وكل ما لا يعنيه لا يغنيه، قال صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه" ومَنْ تَرَكَ ما لا يعنيه وانشغل بما يَعنيه حَسُنَ إسلامُه، وتفرَّغ لأولوياته، وارتقى بأعماله، وصفَّى نفسَه وأخلاقه ولسانه، بل يكون على نفسه رقيبًا، ولسلوكه حارسًا، يتعامل مع نفسه بصدق وإنصاف، قال شعيب لقومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هُودٍ: 88].
الحرص على ما ينفع يوجِّه الطاقاتِ إلى البناء، ونماء الأرض، ويُورث الحياةَ بركةً، ويزيد العملَ رسوخًا، قال الله -تعالى-: (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)[الرَّعْدِ: 17]، والحرص على ما ينفع يتطلب قوة في التعامل مع اللذات والرغبات، فليس كل مرغوب نافعا، ولا كل مكروه يضر، بل إن الإنسان العاقل يُؤْثِر النفعَ الآجِلَ الأكثرَ على النفع الحاضر الأقل، قال الله -تعالى-: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)[الْقِيَامَةِ: 20-21]، وقال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 216].
ومن لوازم الحرص على ما ينفع: مصاحَبة من ينفع، فكل قرين بالمقارِن يقتدي، وشتان ما بين صحبة خامل ومرافَقة طامح، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"، وقال: "مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة".
وإذا تزاحمت على المسلم المنافعُ فالواجبُ عليه أن يبادِر إلى العمل ولا يتردد، فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التَّغَابُنِ: 16]، فقد يكون على المفضول أقدرَ منه على الفاضل، ويحصل له أفضل ما يحصل من الفاضل، فالأفضل للمسلم أن يطلب من هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقا إذا كان متعذِّرًا في حقه أو متعسِّرًا، يفوته ما هو أفضل له وأنفع، فإن الله -تعالى- قسَّم الأعمالَ كما قسَّمَ الأرزاقَ.
ومهما كان الإنسان حريصا على ما ينفعه فإنه لن يتحقق له هدف ولا مقصد إلا إذا أعانه اللهُ ووفَّقَه وسدَّدَه، "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله" فهو -سبحانه- المستعان الذي يَلجأ إليه كلُّ الخلائق، اختيارا واضطرارا، وكل يستعين به في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، وكل إنسان في حاجة دائمة إلى عون الله، في كل أحواله، وفي كل أمور دينه ودنياه، فالاستعانة بالله، وسؤال الله العونَ على مرضاته من أنفع الدعاء، وأكثر ما تلهج به ألسنة المؤمنين وآكَدِه، فلا تتم ركعة في صلاة دون ذكرها، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الْفَاتِحَةِ: 5]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوصيك يا معاذ، لا تتدعنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذِكْرك وشكرك وحُسْن عبادتك".
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز": رسالة للسعي والنهوض في ساحات العمل، وميادين الجِدِّ والعطاءِ، ومكابَدة المشاقِّ، وتحدِّي الصعابِ؛ لإعمار الأرض، قال الله -تعالى-: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[هُودٍ: 61].
"ولا تعجز": لأن العاجز قيَّد نفسَه بمعاني الخمول، ووثَّق خطواتِه بأوهام الكسل، وسلَّم فكرَه للتغني بالأماني، العجز يفتح عمل الشيطان، ومفتاح كل شر بقوله: "لو كان كذا وكذا، ولو فعلتُ كذا وكذا" ويصدر عنه الهم والحزن والجبن والبخل، وضَلَع الدَّيْن وغلبة الرجال؛ ولذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلَع الدَّيْن وغلبة الرجال".
ومَنْ قَعَدَ مع العاجزين فإنه لا قيمة له في المجتمع، ولا تأثير له في الوطن، ولا مكانة له في الأُمَّة، ومن تعطَّل وتبطَّل انسلخ من الإنسانية، ومن تعوَّد الكسلَ ومال إلى الراحة فَقَدَ الراحةَ.
هذا حديث عظيم، جمع بإيجاز كل خطوات النجاح، فمن حرص على الأمور النافعة، واجتهد فيها، وسلَك أسبابَها، واستعان بربه في حصولها وتكميلها، كان ذلك كماله وتوفيقه، ومتى فاتَه واحدٌ من هذه الأمور الثلاثة فاتَه من الخير بحسبها.
"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز".
ألا وصلوا -عبادَ اللهِ- على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودَمِّرِ اللهم أعداءَكَ أعداءَ الدينِ، واجعل اللهم هذا البلدَ آمِنًا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أردانا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم من أردانا وأراد الإسلام والمسلمين وبلادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم من أردانا وأراد الإسلام والمسلمين وبلادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين، لك مخبتين، لك أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخيمة قلوبنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم ارحم موتانا واشف مرضانا، اللهم اغفر لوالدينا ولجميع المسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، ووفقه لكل خير يا رب العالمين، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي عهده لكل خير يا رب العالمين، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقهما لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، إنك على كل شيء قدير، يا أرحم الراحمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحماتك وفضلك ورزقك.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].