البحث

عبارات مقترحة:

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

وقفة مع حديث السفينة

العربية

المؤلف عبد الله اليابس
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. تأملات في حديث السفينة .
  2. في كل مجتمع فئة تخرق السفينة .
  3. مخاطر المعاصي على المجتمعات .
  4. واجبنا نحو المنكرات العامة والظاهرة. .

اقتباس

إن من سنة الله تعالى الكونية تنوع أفراد المجتمع، ففيهم الصالح والطالح، البَرُّ والفاجر، والمؤمن والمنافق، فيهم حزب الله وحزب الشيطان. وكل يعمل على شاكلته.. الصالحون والطالحون، المصلحون والمفسدون، يعيشون في بلد واحد، ويركبون في مَركَب واحد، وتركُ المفسدين يُفسدون في المركب ويخرقونه سيكون سببًا في هلاك الجميع.

الخطبة الأولى:

الحمد لله ذي الفضل والإنعام على الجميع، يخلق ويرزق، ويستر ويَحمَدُ الصنيع، يُطعم ويُسقي، ويَجبُرُ ويَشفي الوجيع، يُعز ويُغني، وينصر ويرفع الوضيع، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نُقِرُّ بها مختارين كي ندخل الحصن المنيع.

وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الخاتَم والشفيع، مبعوثٌ للإنس والجان، مُبَيِّن التشريع، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى أصحابه بقدر ما في الخلق من تنويع.

أما بعد (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) [النساء: 131].

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. إن من سنة الله تعالى الكونية تنوع أفراد المجتمع، ففيهم الصالح والطالح، البَرُّ والفاجر، والمؤمن والمنافق، فيهم حزب الله وحزب الشيطان. وكل يعمل على شاكلته، و(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 178].

الصالحون والطالحون، المصلحون والمفسدون، يعيشون في بلد واحد، ويركبون في مَركَب واحد، وتركُ المفسدين يُفسدون في المركب ويخرقونه سيكون سببًا في هلاك الجميع.

اسمع وتأمل إلى تصوير النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا المثال، روى البخاري وغيره من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثلُ القائمِ على حدودِ اللَّهِ والواقعِ فيها: كمثلِ قومٍ استَهموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاَها وبعضُهم أسفلَها، فَكانَ الَّذينَ في أسفلِها إذا استقوا منَ الماءِ مرُّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا".

تأمل في الحديث السابق، المفسدون الذين خرقوا السفينة كان لهم تأويل، ويرون أنهم على حق، يريدون ألا يُشُقُّوا على من فوقهم بكثرة ترددهم عليهم لسُقيا الماء، فخرقوا في خشب السفينة خرقًا يستقون منه الماء، لكن هذا التأويل فاسد، وسيكون سببًا لهلاكهم وغرقهم، بل سيكون سببًا لغرق من فوقهم معهم، إذا سكتوا عن الأخذ على أيديهم.

أيها الإخوة.. في كل مجتمع هناك فئة تخرق السفينة، من حيث تعلم أو لا تعلم، فإن أُخذ على يديها نجت ونجا المجتمع، وإن تركت تفعل ما تشاء غرقت وأغرقت المجتمع.

تأملوا في أحوال من قبلَنا، وقلبوا صفحات التاريخ، ستجدون أن من أهم أسباب هلاك الأمم، وسقوط الدول: خارقوا السفن.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) [الأنعام: 6].

هذا فرعون وقومه وهؤلاء قومُ نوحٍ وعادٌ وثمودُ وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين.. كلهم عاشوا وملكوا الأرض ثم فسقوا فأهلكهم الله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) [الحج: 42- 44].

الدولة الأموية.. الدولة العباسية.. ودويلات الأندلس والدولة العثمانية وغيرها.. لما ركن أربابها إلى الدنيا، وغرقوا بالمعاصي، وفشت فيهم المنكرات، سقطت هذه الدول، وأصبحت أثراً بعد عين.

لم تنفعهم أمجادهم، ولا أجدادهم، لم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم.

إن أغلب ما يكون الفسق والفساد في المجتمع من المترفين.. (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].

خارقو السفينة في كل مجتمع يرون أنهم مصلحون، وأنهم يرتقون به على طريق التقدم، وهذه مقولة أسلافهم، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11- 12].

أيها الإخوة.. في بلد تتربص به قوىً إقليميةٍ ودولية، ويخوض حربًا ضروسًا في حدوده الجنوبية، في بلد تتربص به قوى متعددة لزعزعة أمنه الداخلي بالتفجير أو قتل رجال الأمن أو استهداف المنشآت الحيوية، إضافةً إلى أزماتٍ اقتصادية وارتفاعٍ في الأسعار، في بلد كهذا فإن أحوج ما يكون إلى أن يعود المسلمون فيه لدين ربهم، ويتمسكوا بشرعه، ويسلكوا الدرب القويم الذي أرشدهم إليه ربهم تبارك وتعالى، الذي خلقهم وهو أدرى بما يصلحهم: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].

هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، يستقبل أرضها المسلمون في كل بقاع الأرض، ويرجون الخير دائمًا من أبنائها، كيف لا؟ وهم في نظرهم أحفاد الصحابة والتابعين والفاتحين، هذه البلاد قَدَرُها أن تكون محضنًا للإسلام، منبعًا للدعوة والخير، أيليق أن تنتشر فيها المعاصي والمنكرات باسم الترفيه والترويح.

أيليق أن ينشغل أهل البلاد بالرقص والغناء في حين يلتحف أبناؤهم في الجنوب السماء ويفترشون الأرض يحرسون الثغور ويجاهدون في سبيل الله؟

إن أهل المعاصي والمنكرات إن تُركوا وشأنهم يَفسُدون ويُفسِدون.. فإنهم يجرون البلاد إلى العقوبة لا محالة.. إن عاجلاً أو آجلاً.. وستشمل العقوبة الصالحين والفاسدين.

خرج رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يومًا فزعًا، محمرًّا وجهُه، يقول: "لا إلهَ إلا اللهُ. ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقتربَ. فُتِحَ اليومَ من ردمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلَ هذه"، وحلَّقَ بإصبعِه الإبهامَ والتي تليها. قالت زينب بنت جحش رضي الله عنها: يا رسولَ اللهِ! أنهلك وفينا الصالحونَ؟ قال: "نعم. إذا كثُر الخبثُ".

بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، قد قلت ما سمعتم، وأستغفر الله تعالى لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، أما بعد:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. يقول بعض الناس: إن المشايخ والعلماء والملتزمين بدينهم لا يريدون للناس الترفيه، لا يريدون أن ترتسم البسمة على شفاه الصغار والكبار، يريدون الدنيا مأتمًا كبيرًا خالياً من الفرحة والبهجة، فاتركوا الناس وشأنها، ودعوها تفرح وتسعد.

ولهؤلاء يقال: إن الفرحة والبهجة أمر فطري، محبب للنفوس، والإنسان دومًا يسعى أن يكون منشرح النفس مطمئن البال، لكن السعادة والفرحة وسائلُها كثيرة.. كثيرة جدًا ومتعددة، والأصل في الأشياء الإباحة.. والقليل منها محرم لنهي الله –تعالى- عنه، فافرحوا وانبسطوا واستمتعوا لكن داخل حدود المباح، ففي الحلال غُنية عن الحرام.

الحلال دائمًا أكثر من الحرام.. تأمل في الأطعمة مثلاً كل الأطعمة مباحة إلا ما جاء الدليل بتحريمه كالميتة والدم ولحم الخنزير، وكل الأشربة مباحة إلا ما جاء الدليل بتحريمه كالخمر ونحوه، وكل الألبسة مباحة إلا ما جاء الدليل بتحريمه كالحرير والذهب للرجال، وهكذا.

لكنَّ إبليس الرجيم يزين الحرام للناس.. ويجعلهم لا يرون أمامهم إلا هو، فإذا أرادوا الترفيه مثلاً لم يجعل أمامهم إلا الصور المحرمة.. يزينها لهم ويبغض إليهم المباحات العديدة والتي هي أكثر من المحرمات.

أيها المسلمون.. ما واجبنا تجاه المنكرات العامة التي نشاهدها أمامنا باسم الترفيه والترويح؟

أولاً: الإنكار.. كلٌّ بما يستطيع.. تستطيع الإنكار بخطاب أو رسالة جوال أو بريد إلكتروني ترسله لمن ولاه الله أمرًا فيه إزالة هذا المنكر.

لا تحتقر نفسك.. أبدًا.. لا تحتقرها.. وتذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما عند مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري: "مَن رأى مِنكُم مُنكرًا فليغيِّرهُ بيدِهِ، فإن لَم يَستَطِع فبِلسانِهِ، فإن لم يستَطِعْ فبقَلبِهِ. وذلِكَ أضعَفُ الإيمانِ". وأنت قادر على الإنكار من خلال إرسال الرسالة للمسؤول.

لو أن نصف من في هذا الجامع أرسل اليوم رسالة للمسؤولين فستصلهم أكثر من ألف رسالة بإذن الله.. وهذا عدد كبير بفضل الله تعالى.

لنترك عنا السلبية ورمي اللائمة على الغير، ولنستلم زمام المبادرة، ولنكن إيجابيين في حياتنا وخدمتنا لمجتمعنا.

ثانياً مما ينبغي علينا إزاء هذه المنكرات: عدم المشاركة أو الذهاب للفعاليات التي يُعصَى الله تعالى فيها، فإن الممانعة المجتمعية، والمقاطعة الشعبية، من أنجح الوسائل على مر التاريخ في إصلاح الأخطاء، فكيف إذا كان الله تعالى هو من نهى عن ارتياد مثل هذه الفعاليات؟

ثالثاً: نشر الوعي بخطورة عمل المفسدين، من خلال الحديث في المجالس، ونشر التغريدات والمنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فنُشيعُ بين الناس حرمة المنكرات ونحثُهم على إنكارها، وعدم المشاركة في الفعاليات المحرمة، ولنتذكر أن المنكر إذا انتشر بين الناس وطال مساسهم به ومعايشتهم له، فإن تغييره يصعب بعد ذلك، وتتبلد أحاسيسهم تجاهه، ويقل إنكارهم واستنكارهم له.

أيها الإخوة.. كونوا إيجابيين.. واحملوا رسالة هذه الأمة.. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].

اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام، فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله.. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.