العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ومن حسن خلقك أن تفشي السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وإذا كان سهلاً عليك أن تنبسط إلى أصحابك وخلانك… فالامتحان في قدرتك على الانبساط مع الآخرين وحسن تعاملك معهم، وكونهم يألفونك وتألفهم، ويقون بك ويأمنونك على أسرارهم، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له.
إخوة الإسلام: والبر حسن الخلق. وما فتئ المرسلون -عليهم السلام- يدعون الناس لمكارم الأخلاق ويحذرونهم من مساوئها، حتى جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- ليتمم مكارم الأخلاق، ويقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وجاءت شريعة الإسلام داعية لكل خلق كريم، وناهية عن كل خلق ذميم، وبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- بالحنيفية السمحة، يأمر أمته بالمعروف ويحل لأمته الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. أما هو فوصفه ربه بكمال الخلق فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].
وشهد له -صلى الله عليه وسلم- بحسن الخلق القريب منه والبعيد، والعدو والصديق، ولم يتمالك سيد بني حنيفة في زمنه ثمامة بن أثال -رضي الله عنه- من الاعتراف بفضله، والشهادة بحسن خلقه، حتى أسلم، وكان قبلُ مشركاً محارباً، ثم أعلن له إعجابه بشخصه وبدينه حين قال: "يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، وقد أصبح وجهك الآن أحب الوجوه إلي، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إليَّ من دينك، وقد أصبح دينك الآن أحب الأديان إليَّ…" إلخ كلامه -رضي الله عنه-.
تُرى من أين نشأت هذه المحبة؟ وكيف انقلبت الموازين في حياة ثمامة؟ إنها مكارم الأخلاق، وأدب المعاملة، والعفو مع القدرة على الانتقام… وإذا كانت تلك المعاملة مع الكافر؛ فكيف ترون معاملته -صلى الله عليه وسلم- مع المسلم؟!
ويكفي هنا أن نشير إلى مقولة أنس -رضي الله عنه-: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال لي أف قط ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" رواه مسلم.
فإذا وضعت في الحسبان طول هذه المدة في الخدمة، وأن الخادم غلام صغير، ومظنة الخطأ منه أكثر من الكبير أدركت كم هو عليه -صلى الله عليه وسلم- من مكارم الأخلاق، وحسن المعاشرة.
معاشر المسلمين: أين التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حسن الخلق، ومن منا يرغب الآخرين في الإسلام من خلال حسن خلقه وطيب معاملته؟! وكم من المسلمين من يدعو للإسلام بسلوكياته الفاضلة وأخلاقه العالية قبل أن يدعو بلسانه ومقاله؟!
إنها أزمة أخلاق يعيشها أعداد كثيرة من المسلمين، وكم يخسر العالم بانحطاط أخلاق المسلمين، فوق ما يخسره المسلمون أنفسهم.
عباد الله: ومما يدعو إلى حسن الخلق فضله العظيم، ومكانة أصحابه عند الله وعند رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبين الناس؛ فصاحب الخلق الحسن "من أكمل المؤمنين إيماناً". رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان.
وأصحاب الخلق الحسن من خيار المسلمين: "إن من خيركم أحسنكم خلقاً" رواه البخاري في صحيحه.
وإذا تنافس المتنافسون في الصلاة والصيام فينبغي كذلك أن يتنافسوا في مكارم الأخلاق، وفي الحديث: "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة".
وإذا طاشت موازين العبد أثقلها حسن الخلق، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق".
والجنة مبتغى العاملين المخلصين، وحسن الخلق يوصل العبد إليها -بإذن الله- سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: "تقوى الله وحسن الخلق".
ومع محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحاب الأخلاق الفاضلة فهم أقرب الناس إليه -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً".
عباد الله: ولئن ضاقت أموالكم أن تسع الناس فسعوهم بأخلاقكم "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
ويح المفلسين لا من الدرهم والدينار، ولكن من رصيد الأخلاق، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ولكن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، ونأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
يا أخا الإسلام: أتقدر هذا الموقف حق قدره وأنت تتعامل مع الناس، ولربما أغواك الشيطان أو زين لك إخوان الشياطين فظننت أن التحايل على الخلق بالإساءة نوع من الشطارة، وأن الغش في المعاملة قدرة فائقة وويل لمن يأمنه الناس ظاهراً، فإذا به يغدر بهم سراً، وبئس أخو العشيرة من ودعه الناس اتقاء فحشه، وأولئك شر الناس منزلة عند الله، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم، وما أعظم الخطب حين تسوء أخلاق أهل الديانة والفضل والعلم، وأعظم منه حين يمارس الخطأ، ويسوء الخلق وصاحبه يظن ذلك من الدين
وأين حسن الخلق من تقطيب الجنبين، أو من الشدة في معاملة الآخرين، أو الثورة العارمة لخطأ يقع من جاهل في الدين أو سفيه غره صلف الشباب وتقويمه ليس عسيراً، وصلاح ليس مستحيلاً؟
وينبغي أن يفرق بين الغيرة لدين الله، والتصرف المحمود حيال المنكر وحسن المعاملة مع المخطئ وقد يقود الإنكار الخالي من حسن الخلق إلى وجود منكر أكبر، ولقد أوحي إلى خير البرية من ربه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْ) [آل عمران:159].
أيها المسلم: ومن حسن خلقك أن تفشي السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وإذا كان سهلاً عليك أن تنبسط إلى أصحابك وخلانك فالامتحان في قدرتك على الانبساط مع الآخرين وحسن تعاملك معهم، وكونهم يألفونك وتألفهم، ويقون بك ويأمنونك على أسرارهم، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.
إخوة الإيمان: وتعجز الحضارات المادية المجردة من تعاليم السماء وهدي المرسلين أن ترقى بأصحابها إلى معالي الأخلاق، مهما أوتوا نصيباً من العلم في مظاهر الحياة الدنيا، ويأبى الله لغير شرعه إلا أن يرتكس أصحابه في حمأة الرذيلة، ويتمرغوا في أوحال الفساد ويسقوا كؤوساً مرة في أنواع الجريمة وتكاثرها، وكذلك الحال في واقع هذه الدول الكافرة وليس الخبر كالعيان.
والمصيبة أن هذه الأخلاق الفاسدة من قبل هذه الدول الكافرة بدأت تغزو العالم الإسلامي، وعبر وسائل جديدة، وقل من يتفطن لمخاطرها الخلقية في الحاضر والمستقبل.
أجل: إن فضائيات اليوم في معظمها لا تستحي من نقل الصورة العارية والمسلسل الهابط، والفكر المنحرف، وكل ذلك معاول هدم للقيم والأخلاق؛ وهي جريمة كبرى بحق القيم والأخلاق يتولى كبرها الدول المصدرة لها.
ولم يبعد عن الحقيقة من قال: "إن الحضارة الغربية ارتكبت أعظم جرم عرفه التاريخ بحق ثقافات العالم وشعوبه لتبني لنفسها حضارة سلطوية شرسة تتجه اتجاهاً كارثياً مخيفاً، ربما يؤدي في النهاية إلى الدمار".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
إخوة الإيمان: وبالأخلاق الكريمة جاءت شرائع السماء وبعث المرسلون؛ لعلاج ما فسد من فطر الناس وأخلاقهم، وبالأخلاق الحسنة أوصى الحكماء أبناءهم.
"فمما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، ولا شك أن الحياء من أساسيات الأخلاق الفاضلة.
ومن وصايا لقيمان لابنه: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 18-19].
إن الخلق في منابع الإسلام الأولى -من كتاب وسنة- وهو الدين كله وهو الدنيا كلها؛ فإن نقصت أمة حظاً من رفعة في صلتها بالله، أو في مكانتها بين الناس فبقدر نقصان فضائلها وانهمام خلقها. أجل: إن الأخلاق عماد الأمم، وهي سبب مهم في تماسك الدول وبقائها.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت | فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
وعلى المسلمين أن يتنبهوا إلى قيمة الأخلاق في صراعهم الحضاري مع الأمم الأخرى، وهل تستطيع أمة أن تثبت وجودها إذا أضاعت مقومات شخصيتها؟ وانهارت أخلاقها؟
ولا غرابة أن تنحى الدول الكبرى منحى جديداً في حرب القيم والأخلاق في سبيل القضاء على خصومها، وذلك أن هذا النوع من الحرب أكثر أثراً وأقل خسارة من الحروب المادية.
وعلى كل مسلم أن يتصور أنه كلما ضعف في انتمائه لدينه، وتمسكه بأخلاقه فإنما يقلل بسلوكه هذا من جنود المسلمين، ويزرع جندياً آخر غريباً في بلاد المسلمين.
إن فساد الأخلاق طريق لانتهاك الأعراض، وضياع الأموال، وقتل الأنفس بغير حق، وفي حسن الأخلاق ضمان -بإذن الله- للأمن، وانتشار الخير، وحصول الرخاء.
عباد الله: وإذا كانت الأخلاق الكريمة بهذه المثابة من الأجر والأثر فما أحرانا أن نتعرف عليها أو على شيء منه، ومن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فليجاهد نفسه على الإصلاح والاستقامة.
وقد يطول بنا المقام لو ذهبنا نحصي الأخلاق الكريمة: كالصدق والصبر والشجاعة والحلم والحياء، والكرم والرفق ونحوها؛ ولكن بعض العارفين أرجع هذه الأخلاق الفاضلة إلى أربعة أصول، هي: "الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل".
والسر في ذلك -كما قيل- إن الصبر يحمل صاحبه على الاحتمال وكظم الغيظ، وإماطة الأذى، والحلم، والأناة، والرفق وعدم الطيش والعجلة.
والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء، وهو ركن كل خير، وتمنعه من الفحش والبخل والكذب والغيبة والنميمة.
والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، كما تحمله الشجاعة كظم الغيظ والحلم، وهذه هي حقيقة الشجاعة، فهي ملكة يقتدر بها على قهر خصومه: و "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
أما العدل فيحمل صاحبه على اعتدال أخلاقه وتوسطه بين طرفي الافراط والتفريط؛ فلا يسرف ولا يقتر، ولا يجبن ولا يتهور، ولا يغضب ولا يهان، وهكذا.
يا أخا الإسلام: عد إلى نفسك وتأمل قربك أو بعدك من هذه الأخلاق، واعلم أنها سبب للسعادة في الدنيا وطريق إلى الجنة في الآخرة، فيها رضي الله وقرب من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبها تحصل محبة الناس، والعكس بالعكس، وفضل الله يؤتيه من يشاء: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69].
وهنا يرد سؤال مهم هل يمكن اكتساب هذه الأخلاق الفاضلة؟ أم أنها فطرية جبلية يقسمها الله وهو أعلم وأحكم؟ وما الطريق لاكتساب الأخلاق الفاضلة؟ وما الأسباب في انتشار الأخلاق السيئة.
كل ذلك وغيره، أستكمل الحديث عنه في الخطبة القادمة بإذن الله.
اللهم ألهمنا رشدنا، وأصلح أحوالنا، اللهم وكما حسنت خلقنا فحسن خلقنا.