الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
رَمَضَانُ مَوسِمٌ إِيمَانيٌّ كَبِيرٌ، وَسُوقٌ لِلمُتَاجَرَةِ مَعَ اللهِ مُتَنَوِّعَةُ العَطَاءِ، تُعرَضُ فِيهَا بَضَائِعُ الآخِرَةِ بِأَيسَرِ الأَثمَانِ، وَيُرَغَّبُ فِيهَا في كُلِّ مَكَانٍ وَقَد طَابَ الزَّمَانُ، وَتَرَى النَّاسَ مِن بَعدُ مُختَلِفِي المَشَارِبِ مُتَعَدِّدِي الاهتِمَامَاتِ، يَتَّجِهُ كُلٌّ مِنهُم إِلى مَا يُنَاسِبُهُ وَيُوَافِقُهُ: (قَد عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشرَبَهُم)، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِ النَّاسِ بِرَبِّهِم وَقُربِهِم مِنهُ وَصِدقِ يَقِينِهِم بِوَعدِهِ وَوَعِيدِهِ، يَكُونُ نَشَاطُهُم وَتَعلُو هِمَمُهُم.
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: رَمَضَانُ مَوسِمٌ إِيمَانيٌّ كَبِيرٌ، وَسُوقٌ لِلمُتَاجَرَةِ مَعَ اللهِ مُتَنَوِّعَةُ العَطَاءِ، تُعرَضُ فِيهَا بَضَائِعُ الآخِرَةِ بِأَيسَرِ الأَثمَانِ، وَيُرَغَّبُ فِيهَا في كُلِّ مَكَانٍ وَقَد طَابَ الزَّمَانُ، وَتَرَى النَّاسَ مِن بَعدُ مُختَلِفِي المَشَارِبِ مُتَعَدِّدِي الاهتِمَامَاتِ، يَتَّجِهُ كُلٌّ مِنهُم إِلى مَا يُنَاسِبُهُ وَيُوَافِقُهُ: (قَد عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشرَبَهُم) [البقرة: 60]، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِ النَّاسِ بِرَبِّهِم وَقُربِهِم مِنهُ وَصِدقِ يَقِينِهِم بِوَعدِهِ وَوَعِيدِهِ، يَكُونُ نَشَاطُهُم وَتَعلُو هِمَمُهُم.
وَقَد كَانَ النَّاسُ إِلى أَزمِنَةٍ قَرِيبَةٍ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ في حَالِ عَجِيبَةٍ، لا يَجِدُ المُسلِمُ مَعَهَا عَنَتًا وَلا مَشَقَّةً في عَمَلِ الصَّالحَاتِ وَفِعلِ الخَيرَاتِ، فَكُلُّ القُلُوبِ مُتَّجِهَةٌ إِلى رَبِّهَا، حَرِيصَةٌ عَلَى مَا يُقَرِّبُهَا مِن مَولاهَا، مَشغُولَةٌ بما يَزِيدُ إِيمَانَهَا وَيَنفَعُهَا في أُخرَاهَا، أَمَّا في أَزمَانِنَا هَذِهِ فَإِنَّ المَرءَ لا يُعدَمُ عَلَى الشَّرِّ مُعِينًا وَلا عَنِ الخَيرِ مُخَذِّلاً، بَل لَقَد أَصبَحَ كَثِيرٌ مِمَّا حَولَهُ لا يُعِينُهُ عَلَى الاجتِهَادِ وَالطَّاعَةِ، وَلا يُسَاعِدُهُ عَلَى التَّبَتُّلِ وَالعِبَادَةِ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مِنَ المُتَعَيِّنِ عَلَى المُسلِمِينَ -وَلا سِيَّمَا في أَوقَاتِ العِبَادَةِ وَمَوَاسِمِ التَّزَوُّدِ- أَن يَكُونُوا قُدوَاتٍ لِبَعضِهِم في الاجتِهَادِ، وَأَن يَدُلَّ بَعضُهُم بَعضًا إِلى الخَيرِ وَالهُدَى، وَأَن يَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى، فَهَذَا بِجُهدِهِ وَذَاكَ بِمَالِهِ، وَصَاحِبُ العِلمِ يُوَجِّهُ، وَالعَامِلُ يَصبِرُ، وَالفَتى يُشَارِكُ، وَالكَبِيرُ يُشَجِّعُ.
وَإِنَّ مِن نِعَمِ اللهِ الَّتي تُذكَرُ فَتُشكَرُ، أَن يَجِدَ المُسلِمُ مِن إِخوَانِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ وَالدُّعَاةِ وَالعَامِلِينَ في الجَمعِيَّاتِ وَالمُؤَسَّسَاتِ الخَيرِيَّةَ، مِن يَبسُطُوُنَ لَهُ بَضَائِعَ الخَيرِ وَيُقَرِّبُونَهَا إِلَيهِ وَيُذَكِّرُونَهُ بِفَضلِهَا؛ لِيَختَارَ مِنهَا مَا يَقدِرُ عَلَيهِ وَيَسَعُهُ عَمَلُهُ.
وَإِنَّ مِنَ التَّوفِيقِ أَن يَبحَثَ المُسلِمُ عَنِ البِيئَاتِ الخَيِّرَةِ الَّتي تُعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ في هَذَا الشَّهرِ المُبَارَكِ، فَيَصبِرَ نَفسَهُ فِيهَا مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ، وَلا يَعدُوَ عَينَيهِ عَنهُم مُرِيدًا زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا، أَو مُطِيعًا مَن أَغفَلَ اللهُ قَلبَهُ عَن ذِكرِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا، فَيَكفِي المُرِيدَ نَجَاةَ نَفسِهِ وَفِكَاكَ رَقَبَتِهِ، طَردًا لِلدُّنيَا، أَحَدَ عَشَرَ شَهرًا طُوَالَ سَنَتِهِ، قَد لا يُقَدِّمُ فِيهَا لأُخرَاهُ شَيئًا يُذكَرُ، وَلا يَنفَعُ أُمَّتَهُ بِشَيءٍ يُعَدُّ، فَمَا أَجمَلَهُ بِهِ أَن يَجعَلَ شَهرَ رَمَضَانَ لَهُ كَالدَّورَةِ التَّدرِيبِيَّةِ المُكَثَّفَةِ، الَّتي يَتَزَوَّدُ فِيهَا بما يُقَوِّي قَلبَهُ، وَيُزَكِّي نَفسَهُ، وَيَشرَحُ صَدرَهُ، وَيَبعَثُ هِمَّتَهُ إِلى الآخِرَةِ، وَيُزَهِّدُهُ في الدُّنيَا، وَيُعَوِّدُهُ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَامتِثَالِ أَمرِهِ وَنَهيِهِ! مَا الَّذِي يَضُرُّ لَو تَعَاوَنَ مَجمُوعَةٌ مِنَ المُسلِمِينَ في كُلِّ مَسجِدٍ فَعَكَفُوا عَلَى كِتَابِ رَبِّهِم بَعدَ كُلِّ صَلاةٍ لِمُدَّةِ نِصفِ سَاعَةٍ أَو أَقَلَّ أَو أَكثَرَ، لِيَقتَدِيَ بِهِم غَيرُهُم، وَيَتَقَوَّى بِهِم مَن سِوَاهُم؟!
إِنَّهُ لَمِنَ المُؤسِفِ وَالمُوحِشِ حَقًّا أَن يَتَلَفَّتَ المُسلِمُ بَعدَ الصَّلاةِ في المَسجِدِ، بَاحِثًا عَمَّن يَقطَعُ وَحدَتَهُ وَيُؤنِسُ وَحشَتَهُ، وَيَشُدُّ عَزِيمَتَهُ، لِيَعِيشَ لَحَظَاتٍ مَعَ كِتَابِ رَبِّهِ، فَلا يَجِدُ حَولَهُ أَحَدًا، فَتَرَاهُ يَتَمَلمَلُ قَلِيلاً وَيَتَلَفَّتُ يَمِينًا وَشِمَالاً، ثُمَّ لا يَلبَثُ أَن يُسلِمَ لِهَوَى النَّفسِ القِيَادَ وَيَخرُجَ، وَلَو أَنَّهُ وَجَدَ مِن إِخوَانِهِ قَومًا يَتَرَنَّمُونَ بِالقُرآنِ مِن حَولِهِ لأَعَانُوهُ فَصَبَرَ وَصَابَرَ.
لَقَد كَانَتِ المَسَاجِدُ إِلى عَهدٍ قَرِيبٍ في جَمِيعِ دِيَارِ المُسلِمِينَ -وَخَاصَّةً في رَمَضَانَ- لا تَخلُو مِنَ العُبَّادِ وَالمُتَقَرِّبِينَ طُوَالَ سَاعَاتِ اليَومِ وَاللَّيلَةِ، بَينَ تَالٍ وَدَاعٍ وَمُستَغفِرٍ، وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ ومُتَهَجِّدٍ، فَمَا أَحرَانَا أَن نُعِيدَ إِلى مَسَاجِدِنَا نَشَاطَهَا التَّعَبُّدِيَّ بِتَنَوُّعِهِ! مَا أَحرَانَا أَن نُعِيدَ لِرَمَضَانَ بِالقُرآنِ رَوحَانِيَّتَهُ! وَأَن نَتَدَارَسَ كِتَابَ رَبِّنَا وَنَتَعَاوَنَ عَلَى تِلاوَتِهِ وَفَهمِهِ؛ فَقَد كَانَ جِبرِيلُ يَلقَى نَبِيَّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في كُلِّ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرآنَ، فَهَلاَّ اقتَدَينَا وَاتَّبَعنَا، لِيَشعُرَ مَن يَرَانَا أَنَّنَا نَمُرُّ بِمَوسِمِ عِبَادَةٍ حَقًّا؟! قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَا اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ فِيمَا بَينَهُم، إِلاَّ نَزَلَت عَلَيهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتهُمُ الرَّحمَةُ، وَحَفَّتهُم المَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَن عِندَهُ".
وَمِنَ البِيئَاتِ الخَيِّرَةِ في رَمَضَانَ صَلاةُ التَّرَاوِيحِ، نِصفُ سَاعَةٍ أَو تَزِيدُ قَلِيلاً، يَقضِيهَا المُسلِمُ مَعَ إِخوَانِهِ صُفُوفًا وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، مُتَّجِهِينَ لِرَبٍّ وَاحِدٍ، يَسعَونَ لِهَدَفٍ وَاحِدٍ، يَستَمِعُونَ آيَاتِ المَثَاني، وَيَركَعُونَ وَيَسجُدُونَ وَيَقنُتُونَ، وَيَدعُونَ وَيَبتَهِلُونَ وَيَستَغفِرُونَ، في لَحَظَاتٍ إِيمَانِيَّةٍ عَامِرَةٍ، تَعقُبُهَا فَرحَةٌ بِالطَّاعَةِ غَامِرَةٌ، فَيَا سَعَادَةَ مَن رَكَعَ مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَقَامَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا مَعَ المُصَلِّينَ، يَقِفُ دَقَائِقَ مَعدُودَةً فَيُكتَبُ لَهُ قِيَامُ لَيلَةٍ كَامِلَةٍ، وَقَد يُدرِكُ لَيلَةَ القَدرِ الَّتي هِيَ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ، فَيَفُوزُ بِذَلِكَ فَوزًا عَظِيمًا بِعَمَلٍ يَسِيرٍ، وَ"مَن قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ"، وَ"مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ".
مَا أَحرَى المُسلِمَ أَن يَحرِصَ عَلَى المَسَاجِدِ الكَثِيرَةِ الجَمَاعَةِ، وَأَن يَحذَرَ مِن تَسَلُّطِ الشَّيطَانِ عَلَيهِ، فَيَترُكَ صَلاةَ التَّرَاوِيحِ وَيَهَجُرَ السُّنَّةَ، أَو يَتَقَاعَسَ وَيُصَلِّيَ في بَيتِهِ، أَو يَنفَرِدَ بِجَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ لِيُؤَدُّوا صَلاةً بَارِدَةً ضَعِيفَةَ الخُشُوعِ لا يَذكُرُونَ اللهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "صَلاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزكَى مِن صَلاتِهِ وَحدَهُ، وَصَلاتُهُ مَعَ الرَّجُلَينِ أَزكَى مِن صَلاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلى اللهِ تَعَالى".
وَمِنَ البِيئَاتِ الخَيِّرَةِ في شَهرِ رَمَضَانَ، وَالَّتي تَبرُزُ فِيهَا وَحدَةُ المُسلِمِينَ وَتَقوَى فِيهَا إِلَفَتُهُم وَتَظهَرُ مَحَبَّتُهُم، بِيئَاتُ تَفطِيرِ الصَّائِمِينَ، وَهِيَ البِيئَاتُ الَّتي تَقُومُ عَلَيهَا جَمعِيَّاتُ البِرِّ وَالمُؤَسَّسَاتُ الخَيرِيَّةُ وَمَكَاتِبُ الدَّعوَةِ، وَتُهَيِّئُ لَهَا الأَمَاكِنَ المُنَاسِبَةَ وَتُجَهِّزُهَا بِأَدَوَاتِهَا وَتُعِدُّ لَهَا العُدَّةَ، وَتُوَفِّرُ لَهَا العَامِلِينَ وَتُنَظِّمُ فِيهَا الدُّرُوسَ وَالمَوَاعِظَ، فَكَم هُوَ جَمِيلٌ أَن يَجعَلَ المُسلِمُ مِن مَالِهِ شَيئًا لِهَذِهِ المَنَاشِطِ، وَكَم هُوَ حَرِيٌّ بِهِ أَن يَجعَلَ مِن يَومِهِ العَامِرِ بِالطَّاعَةِ نَصِيبًا لِهَذِهِ المَوَاقِعِ، فَيُمَرَّ بها لِيَرَى ثَمَرَةَ عَطَائِهِ أَوَّلاً، فَيَنشَطَ وَيُضَاعِفَ العَطَاءَ وَيَزدَادَ بَذلاً، وَلِيُشَارِكَ في دَعمِهَا المَعنَوِيِّ ثَانِيًا، وَيَعرِفَ نِعمَةَ الهِ، عَلَيهِ أَنْ جَعَلَهُ مُسلِمًا يَشهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، فَيَجتَمِعَ هُوَ وَأَخُوهُ العَرَبيُّ وَالأَعْجَمِيُّ عَلَى مَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ، لا يَربِطُهُم إِلاَّ الدِّينُ الحَقُّ، وَلا يُؤِلِّفُ بَينَهُم إِلاَّ الحُبُّ في اللهِ، فَيَقوَى بِذَلِكَ إِيمَانُهُ، وَيَتَرَسَّخُ يَقِينُهُ بِعَظَمَةِ دِينِهِ، وَ"مَن فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثلُ أَجرِهِ".
وَمِنَ البِيئَاتِ الرَّمَضَانِيَّةِ الخَيِّرَةِ وَقتُ السَّحَرِ، الأَكلَةُ المُبَارَكَةِ وَالوَجبَةُ الطَّيِّبَةُ، وَقتُ النُّزُولِ الإِلَهِيِّ الكَرِيمِ، وَفُرصَةُ الاستِغفَارِ وَالدُّعَاءِ وَالابتِهَالِ وَرَفعِ الحَاجَاتِ، يَحرِصُ عَلَيهَا المُبَارَكُونَ، وَيَشهَدُهَا المُوَفَّقُونَ، وَلا يُضِيعُهَا إِلاَّ المَحرُومُونَ المُفَرِّطُونَ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً"، وَقَالَ: "عَلَيكُم بِهَذَا السَّحُورِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الغَدَاءُ المُبَارَكُ".
فَليَحرِصِ المُسلِمُ عَلَى مَا يَنفَعُهُ، وَلْيَحذَرِ النَّومَ وَالكَسَلَ، وَليُكثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالاستِغفَارِ وَسُؤَالِ اللهِ مَا شَاءَ مِن خَيرَيِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِذَا مَضَى شَطرُ اللَّيلِ أَو ثُلُثَاهُ، يَنزِلُ اللهُ إِلى السَّمَاءِ الدُّنيَا فَيَقُولُ: هَل مِن سَائِلٍ فَيُعطَى؟! هَل مِن دَاعٍ فَيُستَجَابَ لَهُ؟! هَل مِن مُستَغفِرٍ فَيُغفَرَ لَهُ؟! حَتَّى يَنفَجِرَ الصُّبحُ".
وَمِنَ البِيئَاتِ الرَّمَضَانِيَّةِ الخَيِّرَةِ سَاعَةُ الإِفطَارِ، فَرحَةُ المُؤمِنِ وَفُرصَةُ الدَّاعِي، فِيهَا مَجَالٌ لِلدَّعوَةِ وَالاستِغفَارِ، وَلَحَظَاتٌ لِلمُنَاجَاةِ لا تُضَاعَ، المَرءُ إِذ ذَاكَ أَضعَفُ مَا يَكُونُ مِن أَثَرِ الصِّيَامِ، قَد خَوَى مِنَ الجُوعِ بَطنُهُ، وَيَبِسَت مِنَ العَطَشِ شَفَتَاهُ، وَتَهَيَّأَ لِطَاعَةِ رَبِّهِ في الفِطرِ كَمَا أَطَاعَهُ في الصَّومِ، "وَلِلصَّائِمِ فَرحَتَانِ يَفرَحُهُمَا: إِذَا أَفطَرَ فَرِحَ بِفِطرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَومِهِ"، فَمَا أَجمَلَهَا مِن سَاعَةٍ، وَمَا أَهنَأَهَا مِن لَحَظَاتٍ، خَاصَّةً إِذَا دَعَا المَرءُ فِيهَا بَعضَ إِخوَانِهِ وَفَطَّرَهُم وَنَالَ مِثلَ أَجرِهِم!
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ رَمَضَانَ فُرصَةٌ لا تُعَوَّضُ لِلتَّغيِيرِ لِلأَحسَنِ، وَمَجَالٌ خِصبٌ لِتَهذِيبِ النَّفسِ وَتَعوِيدِهَا الطَّاعَاتِ، فَيَجِبُ استِثمَارُ سَاعَاتِهِ المُبَارَكَةِ وَاستِغلالُ أَوقَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَالتَّزَوُّدُ قَدرَ الإِمكَانِ مِن عَمَلِ الآخِرَةِ، صَلاةً وَدُعَاءً، وَقِرَاءَةً لِلقُرآنِ وَذِكرًا، وَصَدَقَةً وَإِحسَانًا، وتَفَطِيرًا لِلصَّائِمِينَ، وَقَضَاءً لِلحَاجَاتِ وَتَفرِيجًا لِلكُرُبَاتِ، وَإِنَّ في دَاخِلِ كُلٍّ مِنَّا خَيرًا يَجِبُ أَن يُنَمِّيَهُ وَيُقَوِّيَهُ، وَشَرًّا يَجِبُ أَن يَتَخَلَّصَ مِنهُ وَيَقضِيَ عَلَيهِ، وَالتَّغيِيرُ إِلى الأَفضَلِ مُمكِنٌ لِمَن صَحَّت نِيَّتُهُ، هَيِّنٌ عَلَى مَن قَوِيَت عَزِيمَتُهُ وَصَلُبَت إِرَادَتُهُ، وَمَن لم يَتَقَدَّمْ فَهُوَ يَتَأَخَّرُ، فَمَا أَحرَى المُؤمِنَ أَن يُحَافِظَ عَلَى مَا بَنَاهُ في نَهَارِهِ فَلا يَهدِمَهُ في لَيلِهِ! وَأَن يَشِحَّ بِحَسَنَاتِ لِيلِهِ فَلا يُبَدِّدَهَا في نَهَارِهِ! فَاستَعِينُوا بِرَبِّكُم وَاحرِصُوا عَلَى مَا يَنفَعُكُم وَلا تَعجِزُوا، استَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ العَجزِ وَالكَسَلِ، وَاحذَرُوا التَّسوِيفَ وَتَجَنَّبُوا التَّأجِيلَ: (كَلاَّ وَالقَمَرِ * وَاللَّيلِ إِذْ أَدبَرَ * وَالصُّبحِ إِذَا أَسفَرَ * إِنَّهَا لإِحدَى الكُبَرِ * نَذِيرًا لِلبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصحَابَ اليَمِينِ * في جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ المُجرِمِينَ * مَا سَلَكَكُم في سَقَرَ * قَالُوا لم نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلم نَكُ نُطعِمُ المِسكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 32- 48].
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ تُقَاتِهِ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ عَرضَ البَضَائِعِ في هَذِهِ السُّوقِ الرَّمَضَانِيَّةِ لا يَقتَصِرُ عَلَى أَهلِ الإِحسَانِ مِن طُلاَّبِ الآخِرَةِ وَالدَّالِّينَ عَلَى الخَيرِ، وَلا عَلَى أَهلِ التِّجَارَةِ مِن طُلاَّبِ الدُّنيَا المُنشَغِلِينَ بِتَنمِيَةِ أَموَالِهِم، بَل حَتَّى أَهلُ الشَّرِّ وَشَيَاطِينُ الإِنسِ، هُم أَيضًا يَعرِضُونَ شَرَّ البِضَاعَةِ، خَاصَّةً في هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي انفَتَحَت فِيهِ الثَّقَافَاتُ عَلَى بَعضِهَا، وَرَاجَت سُوقُ الإِعلامِ وَصَارَ لَهَا رُوَّادُهَا، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِ الحَذَرَ مِمَّن يَسرِقُونَ وَقتَهُ ويُبعِدُونَهُ عَن رَبِّهِ، نَعَمْ -أَيُّهَا الإِخوَةُ- إِنَّ هَذِهِ القَنَوَاتِ الشِّرِّيرَةَ المَاكِرَةَ تَسرِقُ الوَقتَ وَالجُهدَ وَالمَالَ، وَقَبلَ ذَلِكَ وَأَخطَرُ مِنهُ، فَهِيَ تَسرِقُ الدِّينَ وَتُفسِدُ عَلَى النَّاسِ قُلُوبَهُم، وَمَاذَا يَنتَظِرُ مَن فَسَدَ قَلبُهُ وَقَد قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلبُ".
كَيفَ نَستَنكِرُ أَن يُضِيعَ بَعضُنَا الصَّلَوَاتِ وَيَتَّبِعُوا الشَّهَوَاتِ وَيَتَقَاعَسُوا عَن الخَيرَاتِ وَهُم قَد عَلَّقُوا قُلُوبَهُم بِالقَنَوَاتِ؟! كَيفَ نُرِيدُ أَن يَجِدُوا لِشَهرِ الخَيرِ طَعمًا وَيُقَدِّمُوا فِيهِ لأَنفُسِهِم خَيرًا وَهُم يَمِيلُونَ مَعَ أَهلِ الشَّهَوَاتِ؟! إِنَّهُ لَو لم يَكُن مِن شُؤمِ المَعَاصِي إِلاَّ أَنَّهَا تَصرِفُ العَبدَ عَنِ الطَّاعَةِ لَكَفَى!
سُئِلَ بَعضُ الصَّالحِينَ: "أَيَجِدُ لَذَّةَ الطَّاعَةِ مَن يَعصِي؟! فَقَالَ: وَلا مَنْ هَمَّ". يَعني وَلا مَن هَمَّ بِالمَعصِيَةِ. وقَالَ الإِمَامُ ابنُ الجَوزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَرُبَّ شَخصٍ أَطلَقَ بَصَرَهُ فَحُرِمَ اعتِبَارَ بَصِيرَتِهِ، أَو لِسَانَهُ فَحَرَمَهُ اللهُ صَفَاءَ قَلبِهِ، أَو آثَرَ شُبهَةً في مَطعَمِهِ فَأَظلَمَ سِرُّهُ، وَحُرِمَ قِيَامَ اللَّيلِ وَحَلاوَةَ المُنَاجَاةِ إِلى غَيرِ ذَلِكَ".
فَيَا مَن تَجِدُ مِن نَفسِكَ في رَمَضَانَ ثِقَلاً عَنِ الطَّاعَةِ وَإِعرَاضًا عَنِ الخَيرِ، تَفَقَّدْ نَفسَكَ وَاحفَظْ جَوَارِحَكَ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَلْيَصُمْ لِسَانُكَ وَسَمعُكَ، وَاحفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ، اِحفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَتَقَرَّبْ إِلَيهِ تَجِدْهُ خَيرًا ممَّا تَظُنُّ، فَوَاللهِ لا يَخِيبُ عَبدٌ أَقبَلَ عَلَى رَبِّهِ وَسَأَلَهُ التَّوفِيقَ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ) [البقرة: 186]، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ يَقُولُ تَعَالى: "أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَاني".
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ.