الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
وهما من الآفات الكبرى التي يعاني منها المجتمع المسلم، وقد انتشرت تلك الآفة فينا هذه الأيام انتشار النار في الهشيم؛ فترى الناس يتجادلون في كل مكان؛ في المواصلات في الشارع, في أماكن العمل والدراسة، ولربما ثارت بينهم الخصومات والعداوات بسبب...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: لقد ربط الله -تعالى- النجاة يوم القيامة بسلامة القلوب فقال: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88-89]، والقلب السليم هو القلب الذي سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، وسلم من مخالفة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, وسلم من الآفات والشبهات والشهوات المهلكة, وهو قلب يخشى الله في السر والعلن, كثير التوبة والإنابة إليه, قال -تعالى-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)[ق:31-33].
وعندما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي؛ لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد"(رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
عباد الله: وهناك مفسدات للقلوب قد تسبب بمرضها أو موتها وهلاكها ينبغي الحذر منها، وتنقية القلوب من شوائبها وأدرانها؛ من هذ المفسدات: الجدال والمراء.
والجدال: هو قصدُ إفحام الغير، وتعجيزه، وتنقيصه؛ بالقدح في كلامه، ونسبته إلى القصور والجهل فيه؛ أما المراء: فهو طعن في كلام الغير؛ لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير.
وهما من الآفات الكبرى التي يعاني منها المجتمع المسلم، وقد انتشرت تلك الآفة فينا هذه الأيام انتشار النار في الهشيم؛ فترى الناس يتجادلون في كل مكان؛ في المواصلات في الشارع, في أماكن العمل والدراسة، ولربما ثارت بينهم الخصومات والعداوات بسبب هذا الجدال والمراء.
وحينما ننظر إلى أحكام الشرع وتوجيهاته نجد أنه حرم الجدال إلا في حدود معينة وبضوابط معلومة, أما المراء فقد حرمه مطلقاً، قال الله -تعالى-: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة:197], عن ابن مسعود في قوله: (وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) قال: "أن تماري صاحبك حتى تغضبه", وعن ابن عباس قال: "الجدال: المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" (رواه أبو داود وحسنه الألباني).
قال أبو حنيفة لداود الطائي: لِمَ آثرتَ الانزواءَ؟ قال: "لأجاهِد نفسي بتَرْك الجدال"، فقال: احضر المجالس، واستمع ما يُقال، ولا تتكلَّم، قال: "ففعلتُ ذلك؛ فما رأيتُ مجاهدة أشدَّ عليَّ منها".
وهذا الذَّمَّ يَتناوَل الذِي يخاصمُ بالباطلِ والذي يُخاصِمُ بغيرِ عِلم, ويَتناوَل الذي يَمزَحُ بالخُصومَةِ بكلماتٍ مُؤذِية ليسَ يُحتاجُ إليها في نُصرَةِ الحُجة وإظهارِ الحقِّ, ويَتناوَل الذِي يَحمِلُه على الخُصومَةِ مَحْضُ العِنادِ لقَهرِ الخَصم.
أيها المسلمون: إن المراء والجدال داء خطير على الفرد والمجتمع والأمة، ولا يأتي إلا بسبب الكبر وإعجاب المرء بنفسه، وأول ما عصي رب العباد -سبحانه وتعالى- كان عن طريق الكبر؛ فقد أبى إبليس أن يسجد لأبينا آدم, ويأتي تحت عنوان الكبر؛ أن الإنسان قد يتكبر على الأمر، ويتكبر على قبول الموعظة، ويتكبر على قبول النصيحة، ويتكبر عن الرضوخ للحق والمصلحة.
وانظروا إلى حياتنا اليوم، جدال ومراء بين الآباء والأبناء، والبنات والأمهات، والأخوة والأخوات، وهناك مراء وجدال بين الأصحاب والأصدقاء, وفي العمل وفي الشارع، وجدل بين السياسيين، وجدال ومراء الرياضيين ومشجعي الفرق، وعلى الفضائيات والإنترنت كلها جدل ومراء وخصومات, وطمس للحقائق وكذب وتزوير؛ فأورث ذلك الشحناء والبغضاء والخصومات, وقسوة القلوب وفسادها، وحرمان الأجر، وكثرة القيل والقال وقلة العمل.
قال محمد بن الحسين -رحمه الله-: "وعند الحكماء: أنَّ المراء أكثره يغيِّر قلوب الإخوان، ويُورث التفرقة بعد الألفة، والوحشة بعد الأنس", ويقول الأوزاعي -رحمه الله-: "إذا أراد الله بقومٍ شرًّا ألزمهم الجدلَ، ومنعهم العمل", وقال معروف الكَرْخيُّ -رحمه الله-: "إذا أراد الله بعبد شرًّا، أغلق عنه باب العمل، وفتح عليه باب الجَدَل".
وقد يكون المراء والجدال بسبب حب الانتصار والانتقام من الآخرين؛ حسدًا وحقدًا عليهم، وقد كان الشافعيُّ -رحمه الله- يقول: "ما كلَّمتُ أحدًا قطُّ إلا أحببت أن يُوفَّق ويُسدَّد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدًا قطُّ إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحقَّ على لساني أولسانِه".
أيها الأحبة: إن الجدال الذي يكون على وجه الغلبة والخصومة والانتصار للنفس ونحو ذلك هو مذموم منهي عنه، وعليه تحمل الأدلة التي تنهى عن الجدال؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل" ثم تلا قوله -تعالى-: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه).
ولا يكون الجدالُ محمودًا إلا إذا تعلق بإظهارِ الحق، وقد أمُر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله -تعالى-: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125]، وقال -تعالى-: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[العنكبوت: 46].
لاَ تُفْنِ عُمْرَكَ في الْجِدَالِ مُخَاصِمًا | إِنَّ الْجِدَالَ يُخِلُّ بِالأَدْيَانِ |
وَاحْذَرْ مُجَادَلَةَ الرِّجَالِ فَإِنَّهَا | تَدْعُو إِلَى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ |
وَإِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى الْجِدَالِ وَلَمْ | تَجِدْ لَكَ مَهْرَبًا وَتَلاَقَتِ الصَّفَّانِ |
فَاجْعَلْ كِتَابَ اللهِ دِرْعًا سَابِغًا | وَالشَّرْعَ سَيْفَكَ وَابْدُ في الْمَيْدَانِ |
أيها المؤمنون: إن أقبح صور الجدال والمراء الجدال عن الباطل، قال -تعالى-: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُو مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)[النساء: 107-109].
وقد جاء التحذير لمن يسخر علمه وما حباه الله من الموهبة والفطنة في خدمة الباطل ونصرة أهله، قال تعالى: قال -تعالى-: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا)[الكهف: 56].
ومنها: الجدال في الله -عز وجل- أوفي آياته بغير علم ولا هدى, قال -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ)[الحج: 8], وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)[غافر:35].
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تلا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: (هُو الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) إلى قوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[آل عمران: 7]، فقال: "يا عائشة! إذا رأيتُم الذين يجادِلون فيه، فهم الذين عناهم الله؛ فاحْذَروهم".
ومنها: الجدال في القرآن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المراءُ في القرآن كُفرٌ" (رواه أبو داود وصححه الألباني)
وكان السَّلَف الصالح يُحذِّرُون من الجدال في القرآن؛ فها هو عمر -رضي الله عنه- يقول لزياد بن حُدَيْرٍ: "هل تعرف ما يُهْرِم الإسلام؟" قال: قلتُ: لا، قال: "يهرمه زَلَّةُ العالم، وجدالُ المنافق بالكتاب، وحكم الأئمَّة الضالين" (قال الألباني -رحمه الله-: إسناده صحيح).
وقال -رضي الله عنه- أيضًا: "إنَّه سيأتي ناسٌ يجادلونكم بشبهاتِ القرآن، فخذوهم بالسُّنَن؛ فإنَّ أصحابَ السُّنَن أعلم بكتاب الله" (رواه الدارمي), وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لإياس بن عمر -رحمه الله-: "إنَّك إن بقيت سَيقْرأُ القرآنَ ثلاثةُ أصناف: فصنف لله، وصنف للجِدال، وصنف للدُّنيا، ومَن طلب به أدرك" (رواه الدارمي).
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
عباد الله: فإن من أقبح مظاهر الجدال والمراء وأبشع صوره: ما يكون في سلب حقوق الناس والسطو عليهم, قال -صلى الله عليه وسلم- موضحا خطر ذلك: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو ما أسمع؛ فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار"(رواه البخاري).
معاشر المسلمين: إن علاج هذا الداء الخطير في جسد المجتمع وأفراده يكمن في تربية النفس على مرضاة الله ومحابه ومعرفته، والقيام لله بامتثال أوامره والأمر بها واجتناب نواهيه والتحذير منها، وإحياء مبدأ التعاون بين المربين على تهذيب سلوك تلاميذهم، وكذا بين الوالدين لحسن تربية أولادهم على التجرد للحق والسعي في معرفته وتحصيله، وكذلك التربية على احترام الآخرين وتقديرهم والابتعاد عن مجادلتهم بغير الأسلوب الأمثل وتربيتهم على الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق.
فتأملوا أيها -المسلمون- لتبتعدوا عن المراء والجدال ولتهجروا مجالسه وأهله؛ فإنه من أقبح الخصال.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].