الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الهَمُّ سلاح ذو حَدَّينِ، وخلجات ذات شطرين؛ فإن كان معلقًا بالآخرة ومعها؛ فهو محمود، وصاحبه مأجور، وإن كان الهم مُتَعَلِّقًا بالدُّنيا وغرورها، كان مذمومًا، وإذا عاشَ العَبْدُ هَمَّ آخرته، قويَ يقينُه، وطَارَتْ غفلته، ودامتْ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: نَصَحَ أُمَّتَهُ، وَتَرَكَهَا عَلَى الْبَيْضَاءِ، رَسَمَ لَهَا مَعَالِمَ عِزِّهَا وَفَلَاحِهَا، وَبَيَّنَ لَهَا سَبَبَ شَقَائِهَا وَخَسَارَتِهَا، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
نَقِفُ مَعَ قَبَسٍ مِنْ كَلَامِهِ، ظَاهِرِ الْبَلَاغَةِ، مُخْتَصَرِ الْعِبَارَةِ، عَمِيقٍ فِي مَعَانِيهِ، صَرِيحٍ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَبَانِيهِ، حَدِيثٍ يُتَرْجِمُ لَنَا حَقِيقَةَ الْهَمِّ، وَعَاقِبَةَ كُلِّ مَهْمُومٍ؛ نُبْحِرُ مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي زَمَنٍ تَشَعَّبَتْ فِيهِ الْهُمُومُ، وَتَمَكَّنَتْ مِنَ الْقُلُوبِ مُغْرِيَاتُ الدُّنْيَا وَمَلَّذَاتُهَا وَشَهَوَاتُهَا، وَاللَّهْثُ الْمُسْتَدِيمُ وَرَاءَ مَتَاعِهَا الزَّائِلِ.
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ؛ فرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ".
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: الْهَمُّ سِلَاحٌ ذُو حَدَّيْنِ، وَخَلَجَاتٌ ذَاتُ شَطْرَيْنِ؛ فإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِالْآخِرَةِ وَمَعَهَا؛ فهُوَ مَحْمُودٌ، وَصَاحِبُهُ مَأْجُورٌ، وَإِنْ كَانَ الْهَمُّ مُتَعَلِّقًا بِالدُّنْيَا وَغُرُورِهَا، كَانَ مَذْمُومًا.
جَعَلَ اللَّهُ لِصَاحِبِ الْهَمِّ الْأُخْرَوِيِّ ثَلَاثَ مِنَحٍ، يَتَفَيَّأُ ظِلَالَهَا، وَيَنْعَمُ بِهَا:
الْأُولَى: أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَمْعُ الشَّمْلِ: هُوَ الِاجْتِمَاعُ بِكُلِّ مَا يَعْنِيهِ مِنْ عُمُومٍ، يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَى صَاحِبِ الْهَمِّ الْأُخْرَوِيِّ قَلْبَهُ، وَفِكْرَهُ، وَمَقْصِدَهُ، وَأَهْلَهُ، وَوَلَدَهُ، وَقَرِيبَهُ، وَصَدِيقَهُ، وَمَالَهُ، وَتِجَارَتَهُ.
وَالنِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَنْعَمُ بِهَا صَاحِبُ الْهَمِّ الْأُخْرَوِيِّ: أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا هُوَ الْغِنَى الْحَقِيقِيُّ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
غِنَى الْقَلْبِ -عِبَادَ اللَّهِ- أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: "وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ"(رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ).
غَنِيُّ الْقَلْبِ عَزِيزٌ فِي دُنْيَا النَّاسِ، شَرِيفٌ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَعَفَّ بِغِنَاهُ عَمَّا فِي أَيْدِي الْآخَرِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ: "وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ".
وَثَالِثُ نِعْمَةٍ يُلَقَّاهَا صَاحِبُ الْهَمِّ الْأُخْرَوِيِّ: هِيَ مَجِيءُ الدُّنْيَا لَهُ، وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ فيَأْتِيهِ رِزْقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَيَجْعَلُ لَهُ رَبُّهُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ يُسْرًا؛ فيُوَفَّقُ فِي دُنْيَاهُ، مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ.
صَاحِبُ الْهَمِّ الْأُخْرَوِيِّ كَافَأَهُ رَبُّهُ بِنَظِيرِ قَصْدِهِ؛ فلَمَّا جَرَّدَ هَمَّهُ لِلْآخِرَةِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ؟!
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَإِذَا عَاشَ الْعَبْدُ هَمَّ آخِرَتِهِ، قَوِيَ يَقِينُهُ، وَطَارَتْ غَفْلَتُهُ، وَدَامَتْ خَشْيَتُهُ، وَسَعَى لِلْآخِرَةِ سَعْيَهَا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
وإِذَا تَغَلْغَلَ هَمُّ الْآخِرَةِ فِي النُّفُوسِ، وَوَصَلَ سُوَيْدَاءَ الْقُلُوبِ، هَانَ عَلَى الْمَرْءِ مَا ضَاعَ مِنْ دُنْيَاهُ، وَرَخُصَ عَلَيْهِ مَا خَسِرَهُ فِي تِجَارَتِهِ وَمَرْبَحِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَيْقِنُ أَنَّ مُسْتَقَرَّهُ وَبَقَاءَهُ هُنَاكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 17].
لَوْ مُلِئَتِ الصُّدُورُ بِهَمِّ الْآخِرَةِ لَمَا تَكَبَّرَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَمَا تَحَاسَدْنَا وَتَقَاطَعْنَا مِنْ أَجْلِ ظِلٍّ زَائِلٍ وَمَتَاعٍ عَابِرٍ.
عِبَادَ اللَّهِ: صَاحِبُ هَمِّ الْآخِرَةِ يَعِيشُ فِي دُنْيَا النَّاسِ مَعَ النَّاسِ، يَسْعَى فِي طَلَبِ رِزْقِهِ، لَا يَطْغَى إِنْ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الدُّنْيَا، وَلَا يَغْتَمُّ إِنْ أَدْبَرَتْ عَنْهُ.
صَاحِبُ هَمِّ الْآخِرَةِ يَعِيشُ فِي الْقِمَمِ؛ فلَا يَرْضَى بِالدُّونِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّمَامِ، وَلِسَانُ حَالِهِ:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا | كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ |
صَاحِبُ الْهَمِّ الْأُخْرَوِيِّ تَرَاهُ عَالِيَ الْقَدْرِ، لَا يَقْعُدُ عَنِ الْمَكْرُمَاتِ، وَلَا تَتَوَانَى هِمَّتُهُ عَنِ الصَّالِحَاتِ الْبَاقِيَاتِ، لَا يَفْرُغُ مِنْ خَيْرٍ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ.
صَاحِبُ هَمِّ الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ فِي الْعِلْمِ، كُوفِئَ بِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَذْلِ الْمَعْرُوفِ كُوفِئَ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا كَانَ، كَانَ اللَّهُ، وَكَانَ النَّاسُ مَعَهُ.
أيها المؤمنون: هَمُّ الْآخِرَةِ مَبْدَأٌ رَبَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَحَابَتَهُ الْكِرَامَ؛ فكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَغْرِسُ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهِ هَذَا الْهَمَّ، كَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا يُسْمِعُ أَصْحَابَهُ: "لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةْ".
وَحِينَمَا أَهْدَى لَهُ مَلِكُ النَّصَارَى جُبَّةً مِنْ دِيبَاجٍ، مَنْسُوجٌ فِيهَا الذَّهَبُ، تَعَجَّبَ الصَّحَابَةُ مِنْ لِينِ مَلْمَسِهَا وَجَمَالِهَا؛ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَامَ هَذِهِ الدَّهْشَةِ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذِهِ الْجُبَّةِ؟! فَوَاللَّهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِمَّا تَرَوْنَ".
هَذَا الْهَمُّ الْأُخْرَوِيُّ عَاشَهُ الْحَبِيبُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَلَفُنَا وَاقِعًا مَحْسُوسًا.
هَذَا الْهَمُّ أَيْقَظَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَنَامِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ".
هَذَا الْهَمُّ عَاشَهُ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَكَانَ عَظِيمَ الْخَشْيَةِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ، إِذَا أَمَّ النَّاسَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
هَذَا الْهَمُّ رَسَمَ فِي وَجْهِ الْفَارُوقِ خَطَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ مِنَ الْبُكَاءِ؛ خَوْفًا مِنَ الْآخِرَةِ.
هَذَا الْهَمُّ جَعَلَ الْفَارُوقَ يَبْكِي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَيْثُ سَمِعَ ذِكْرَ الْآخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ السَّائِلِ الَّذِي خَاطَبَ عُمَرَ فَقَالَ:
يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّةْ | اكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ |
أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ
فَقَالَ عُمَرُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، يَكُونُ مَاذَا؟
قَالَ: يَكُونُ عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ
قَالَ عُمَرُ: مَتَى؟ قَالَ:
يَوْمَ تَكُونُ الْأُعْطِيَاتُ مِنَّهْ | وَالْوَاقِفُ الْمَسْؤُولُ بَيْنَهُنَّهْ |
إِمَّا إِلَى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّةْ
فَبَكَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَالَ لِغُلَامِهِ: يَا غُلَامُ، أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا، لَا لِشِعْرِهِ، وَلَكِنْ:
لِيَوْمٍ تَكُونُ الْأُعْطِيَاتُ مِنَّةْ | وَالْوَاقِفُ الْمَسْؤُولُ بَيْنَهُنَّهْ |
إِمَّا إِلَى نَارٍ وَإِمَّا إِلَى جَنَّةْ.
هَذَا الْهَمُّ عَرَفَهُ الْخَلِيفَةُ الثَّالِثُ، الَّذِي كَانَتْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ؛ فكَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْقَبْرِ بَكَى، حَتَّى تَبْتَلَّ لِحْيَتُهُ بِالدُّمُوعِ، وَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ؛ فإِنْ نَجَا مِنْهُ أَحَدٌ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ".
وَكَانَ يَمْتَثِلُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ | وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكَ نَاجِيًا |
وَهَذَا الْخَلِيفَةُ الصَّالِحُ الْعَادِلُ فِي مَمْلَكَتِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَمَلَ هَمَّ آخِرَتِهِ؛ فطَارَ عَنْهُ رُقَادُهُ، وَتَرَقْرَقَتْ مِنْ هَمِّهِ دَمَعَاتُهُ، بَكَى ذَاتَ يَوْمٍ فِي السَّحَرِ، حَتَّى بَكَى لِبُكَائِهِ زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ، فَسُئِلَ عَنْ بُكَائِهِ، فَقَالَ: تَذَكَّرْتُ مُنْصَرَفَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: حَمْلُ هَمِّ الْآخِرَةِ لَا يَعْنِي انْعِزَالَ الْعَبْدِ عَنْ حَيَاةِ النَّاسِ؛ فيَتْرُكُ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ، وَيَهْجُرُ زِيَارَةَ الصَّدِيقِ وَالْقَرِيبِ، وَيَتَقَوْقَعُ فِي صَوْمَعَتِهِ وَرَهْبَنَتِهِ، هَذَا تَصَوُّرٌ خَاطِئٌ قَاصِرٌ. بَلْ إِنَّ صَاحِبَ الْهَمِّ الْأُخْرَوِيِّ، يَجْتَهِدُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَيَسْعَى فِي إِصْلَاحِ مَا فَسَدَ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ دَرَجَاتٌ وَحَسَنَاتٌ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْآخِرَةِ.
حَمْلُ هَمِّ الْآخِرَةِ، لَا يَعْنِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُكْفَهِرَّ الْوَجْهِ، دَائِمَ الْعُبُوسِ؛ فَهَذَا قُدْوَتُنَا وَحَبِيبُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْظَمُ مَنْ هَمَّ لِآخِرَتِهِ، كَانَ يُضَاحِكُ وَيُمَازِحُ، وَيُدَاعِبُ وَيُلَاعِبُ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَمِنْ مَأْثُورِ قَوْلِهِ: "وَابْتِسَامَتُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ".
فَيَا أَخِي الْغَافِلَ -وَكُلُّنَا ذَاكَ الْغَافِلُ-: اسْتَجْمِعْ هَمَّكَ لِآخِرَتِكَ، وَاسْتَشْعِرْ هَذَا الْهَمَّ فِي صُبْحِكَ وَمَسَائِكَ، إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْكَ لَيْلُكَ فَتَذَكَّرْ ظُلْمَةَ الْقُبُورِ، وَإِذَا الْتَحَفْتَ فِرَاشَكَ فَتَفَكَّرِ الْتِحَافَكَ الْأَكْفَانَ، وَإِذَا اسْتَيْقَظْتَ مِنْ رُقَادِكَ فَاسْتَشْعِرْ قِيَامَ الْعَالَمِينَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: وَأَمَّا صَاحِبُ هَمِّ الدُّنْيَا؛ فهُوَ ذَاكَ الْمَغْرُورُ، الَّذِي مَلَكَتْ عَلَيْهِ الْعَاجِلَةُ شَغَافَ قَلْبِهِ؛ فلِأَجْلِهَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ، وَيُوَالِي وَيُعَادِي، يَتَهَلَّلُ إِذَا ذُكِرَتْ، وَيَشْمَئِزُّ إِذَا ذُمَّتْ؛ فبَشَاشَتُهُ وَهَشَاشَتُهُ، وَعِتَابُهُ وَمَلَامَتُهُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَلِلدُّنْيَا.
صَاحِبُ هَذَا الْهَمِّ وَالْحَالِ يُعَاقَبُ فِي الْعَاجِلَةِ قَبْلَ الْآجِلَةِ، بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
أُولَاهَا: أَنْ يُشَتِّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ؛ فتَرَاهُ -وَإِنْ حَصَّلَ الثَّرَاءَ، أَوْ بَلَغَ الْمَنْصِبَ وَالْأَضْوَاءَ- مُشَتَّتَ الْبَالِ، هَائِمَ الْفِكْرِ، مُضْطَرِبَ النَّفْسِ، كَثِيرَ الْقَلَقِ، لَا بَرَكَةَ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ، الْقُلُوبُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ، والْقَبُولُ لَا يُكْتَبُ لَهُ.
مَبْغُوضٌ فِي أَرْضِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَغَضَهُ فِي سَمَائِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ كُلَّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ، عَالِمٍ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، جَاهِلٍ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ" وَالْجَعْظَرِيُّ: هُوَ الْفَظُّ الْغَلِيظُ الْمُتَكَبِّرُ. وَالْجَوَّاظُ: هُوَ الَّذِي جَمَعَ الْمَالَ، وَمَنَعَ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ.
وَعُقُوبَةٌ ثَانِيَةٌ تَحُلُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ دُنْيَاهُ هَمَّهُ؛ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ؛ فَهُوَ إِنْ كَانَ غَنِيًّا لَا يَعِيشُ حَيَاةَ الْقَنَاعَةِ أَبَدًا؛ فمَهْمَا حَصَّلَ وَكَسَبَ وَكَنَزَ، يَرَى خَطَرَ الْفَقْرِ مَاثِلًا أَمَامَهُ، وَيُخَيِّمُ عَلَى خَاطِرِهِ هَاجِسُ الْحَاجَةِ، وَالْخَوْفُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، يَزْدَادُ حِرْصُهُ كُلَّمَا زَادَ ثَرَاؤُهُ، وَتَزْهُو نَفْسُهُ كُلَّمَا لَمَعَ بَرِيقُهُ.
هَذَا الْحَرِيصُ اللَّاهِثُ وَرَاءَ طَنِينِ الدُّنْيَا وَرَنِينِهَا، هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ لِمَا يَطْلُبُ، وَهَذِهِ هِيَ التَّعَاسَةُ الَّتِي دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهَا بِقَوْلِهِ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ".
وَأَمْرٌ ثَالِثٌ يُلاقِيهِ صَاحِبُ هَذَا الْهَمِّ؛ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ مِنْ دُنْيَاهُ إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ؛ فهُوَ وَإِنْ تَعَنَّى وَكَدَحَ وَكَدَّ وَمَدَحَ، فَلَنْ يَسْتَعْجِلَ أَوْ يَزِيدَ فِي رِزْقِ اللَّهِ لَهُ، بِهَذَا نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رُوعِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا؛ فاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ".
أَصْحَابُ هَذَا الْهَمِّ اسْتَعَاذَ مِنْ حَالِهِمْ خَيْرُ الْبَشَرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا".
ذَلِكَ -عِبَادَ اللَّهِ- حَالُ مَنْ هَمَّ لِأَمْرِ أُخْرَاهُ، وَخَبَرُ مَنْ أَرَادَ دُنْيَاهُ، فَجَعَلَهَا مَقْصِدَهُ، وَمُنْتَهَى مُنَاهُ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُحْيِيَ قُلُوبَنَا مِنْ غَفْلَتِهَا، وَأَنْ يُعْلِيَ هِمَمَنَا فِي طَاعَتِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ، وَمِمَّنْ سَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- نِعْمَ الْمُجِيبُ، وَنِعْمَ الْقَرِيبُ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ..