القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فإذا عرف العبد طريق ربه، وأدمن الفزع إليه في حاجاته توطدت العلاقة بينه وبين ربه -سبحانه-؛ فهو يصلي فيتقرب إلى الله ساجدًا متملقًا؛ لعلمه أنه -تعالى- قريب منه خاصة أثناء سجوده، ويصوم وهو يشعر أن الله -تعالى- يختص الصيام بأن يعطي الأجر عليه بنفسه -جل وعلا-، ويصل...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: اعتاد الناس إذا ما أطلق لفظ العبادة أن تنصرف أذهانهم إلى العبادات المحضة فقط من الصلاة والصيام والزكاة والحج، ويقصرون معنى العبادة على ذلك، وهو قصور في فهم ماهية العبادة؛ فإن معنى العبادة أعم من ذلك وأشمل، وأوسع من ذلك وأرحب؛ إذ يشمل: "كل فعل يراد به تعظيم اللّه بأمر الله"، فكل عمل مشروع فعله المسلم بقصد تعظيم الله وابتغاء رضاه في خضوع وتذلل مع الموافقة لما شرع الله فهو عبادة.
عباد الله: إن لفظ العبادة في اللغة يعني: التذلل والخضوع، فيقال: طريق معبَّد أي مذلل، ذللته أقدام المشاة، أو أجهزة تعبيد الطرق.
وقد تنوعت عبارات العلماء في تعريف العبادة، ولعل التعريف الجامع المانع للعبادة هو تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: "العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك، من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر على حكمه والشكر على نعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، كل ذلك وأمثاله من العبادة لله".
وقد علَّمنا الله -تعالى- المفهوم الشامل للعبادة حين قال: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 162]، وعليه: فلا تخلو لحظة واحدة من حياة المسلم من عبادة لله -تعالى- إذا ما استحضر فيها ابتغاء وجه الله في تمام محبة وافتقار وخضوع؛ فإن أكل أو شرب أو نام... في شكر لله وعرفان بنعمته واعتراف بأنها من عنده وحده قاصدًا بذلك التَقَوِّي على أداء أوامره -تعالى- وفرائضه، فإن أكله وشربه ونومه من العبادات، وإن لم ينو بها شيئًا من ذلك فهي مجرد عادات، ومثل ذلك في سائر أحوال المسلم.
وقد ورد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص أنه قال: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك"(متفق عليه)، فكل من عمل عملًا، هو في أصله من العادات والمباحات، وقرنه بنية صالحة وإخلاص لله وابتغاء مرضاته، فإن عمله هذا يتحول إلى عبادة، وقد روي أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة"(رواه البخاري).
وفي حديث آخر وردت ألوان أخرى من العادات والمباحات التي تتحول بالإخلاص والتذلل لله إلى عبادات، ذكرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة"(رواه الترمذي وأصله في مسلم).
أيها المؤمنون: تتكون العبادة باعتبار نفعها، من قسمين:
الأول: عبادة ذاتية النفع لا يتعدى نفعها إلى غير فاعلها؛ كالصلاة والصيام والذكر.
الثاني: عبادة متعدية النفع ينتفع بها فاعلها وغيره؛ مثل الزكاة وصلة الرحم.
وتتكون باعتبار طبيعتها من أربعة أقسام:
الأول: عبادات قلبية: وأهمها توحيد الله والإخلاص له، والإيمان بالرسل والكتب والغيبيات، ومنها التواضع والإخبات والخشوع لله.
والثاني: عبادات بدنية: ومنها الصلاة والصوم وتشييع الجنائز والسعي في حوائج المسلمين.
والثالث: عبادات مالية: ومنها الزكاة المفروضة، وصدقات التطوع، وكفالة الأيتام.
والرابع: عبادات مالية بدنية: ومنها الحج والجهاد بالنفس والمال.
عباد الله: ويتضح من كل ما سبق أن للعبادة ثلاثة أركان، وهي كالآتي:
كمال المحبة لله -تعالى-، يقول ابن القيم: "والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خُلِق الخلق لأجلها، فإنها غاية الحب بغاية الذل، ولا يصلح ذلك إلا له -سبحانه-، والإشراك به في هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ولا يقبل لصاحبه عملًا"، ويؤكد ابن رجب الحنبلي هذا الكلام فيقول: "قول لا إله إلا الله تقتضي أن لا يحب سواه؛ فإن الإله هو الذي يطاع فلا يعصي محبةً وخوفًا ورجاءً، ومن تمام محبته محبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه".
وكذلك كمال الخوف والرجاء من الله -سبحانه وتعالى-: قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)[الإسراء: 57]؛ فيبتغون التقرب منه؛ لأنهم يحبونه وهو الركن الأول، ثم يرجون ويخافون، وهما الركنان الآخران.
وقد جمع هذه الأركان ابن القيم في نونيته قائلًا:
وعبادة الرحمن غاية حبه | مع ذل عابده هما قطبان |
وعليهما فلك العبادة دائر | ما دار حتى قامت القطبان |
ومداره بالأمر؛ أمر رسوله | لا بالهوى والنفس والشيطان |
جعلني الله وإياكم من عباده الصالحين، الذين يرجون رحمته ويخافون عذابه.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
معاشر المسلمين: إن العبد إذا عبد الله حق عبادته، صَلُح حاله مع الله ومع نفسه ومع الناس، وظهرت آثار هذا الصلاح جلية، ومنها:
قوة الصلة بالله؛ فإذا عرف العبد طريق ربه، وأدمن الفزع إليه في حاجاته، توطدت العلاقة بينه وبين ربه -سبحانه-؛ فهو يصلي فيتقرب إلى الله ساجدًا متذللا بين يدي ربه؛ لعلمه أنه -تعالى- قريب منه خاصة أثناء سجوده، ويصوم وهو يشعر أن الله -تعالى- يختص الصيام بأن يعطي الأجر عليه بنفسه -جل وعلا-، ويصل الرحم ويعين الضعيف وينفق على الفقراء وهو يوقن أن الله في عونه ما أعان غيره، وأن الله -عز وجل- يخلفه خيرًا مما أنفق.
وهكذا تتوطد العلاقة بين العبد وبين ربه من خلال العبادة، فيكون الله في قلب العبد هو ركنه الذي يؤوي إليه ووكيله الذي يتوكل عليه، لا يعرف سواه عند رهبته وعند رغبته... ولولا العبادة لكانت علاقة سطحية متقطِّعة.
ومن آثار العبادة على العابد: انشراح صدره وطمأنينة قلبه وإشراق وجهه؛ وهذا معلوم قد أحسه وشعر به كل من أخلص في عبادة ربه، وقد قالها الله -عز وجل- عن الذكر: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]، ولما سئل الحسن البصري: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟! أجاب: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره"، ويقول سعيد بن المسيب -رحمه الله-: "إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورًا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحب هذا الرجل".
ومن آثارها: تكفير الذنوب والخطايا؛ فقد قال الله -عز من قائل-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)[هود: 114]، وسبب نزول هذه الآية رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- قائلًا: أصاب رجل من امرأة قُبلة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فأنزل الله -عز وجل-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114] فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: "لجميع أمتي كلهم"(متفق عليه).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا لصحابته: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟" قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا"(متفق عليه).
وليست الصلاة وحدها هي التي يكفر الله بها المعاصي، بل كل عبادة تؤدى خالصة لله فهي أهل لأن تصنع ذلك؛ فعن حذيفة -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(متفق عليه)، وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه"(متفق عليه).
وهذا التكفير بالعبادة ليس مقصورًا على صغائر الذنوب، بل قد يتعداها إلى تكفير الكبائر أيضًا؛ فقد روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًا فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًا، فأقم في كتاب الله، قال: "أليس قد صليت معنا" قال: نعم، قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك"(متفق عليه).
ومن آثارها: المناعة ضد المعاصي؛ فقد قال الله -عز وجل-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[العنكبوت: 45]، وعن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، إن فلانًا يصلي الليل كله، فإذا أصبح سرق، قال: "سينهاه ما تقول"(رواه ابن حبان)؛ فتجد من أدمن على عبادة الله يقاوم دواعي العصيان ويكافحها ويمتنع منها، بعكس غيره ممن يشكون من سهولة الوقوع في المعاصي.
ومنها: أنها تزكية للنفوس وتهذيب للأخلاق؛ فعن الزكاة قال الله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التوبة: 103]، وعن الصيام قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم"(متفق عليه)، وحذَّر من لم يفعل بألا يُقبل صيامه قائلًا: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"(رواه البخاري).
وعن الحج قال الله -سبحانه وتعالى-: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة: 197]... وقل مثل ذلك عن كل عبادة.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا جميل الصلة بك والتوكل عليك.
صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).