المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهنا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن المؤمن عندما يسمع أوامر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بلزوم التقوى وثواب المتقين تتوق نفسه إلى أن ينضمّ إلى تلك الفرقة الناجية، والجماعة الطيبة، وأن يكون واحدًا من المتقين؛ ليحيا حياة سعيدة في دنياه وآخرته، وعند ذلك يتساءل المسلم: كيف أكون من المتقين؟ وكيف ألتحق بركب عباد الله الصالحين؟
أما بعد: فقد أخبرنا الله -عز وجل- وهو العليم الخبير أن بني آدم كلَّهم في خسار إلا أولئك القوم الذين اتصفوا بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، قال -عز وجل-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر].
وإن أعظم وصية يوصي بها الأخ المحب المشفق إخوانه لهي وصية الله للأولين والآخرين، حيث قال -عز وجل-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) [النساء:131].
أيها المسلمون: ليست التقوى مجردَ كلمة تُفتتح بها الخطب، أو تذكر في طيات المواعظ فحسب، بل هي كلمةٌ عظيمةٌ جامعةٌ ذات معنى كبير، من تدبره وعمل به أفلح وفاز وحاز على سعادة الدنيا والآخرة.
وأصل التقوى أن يجعل الإنسان بينه وبين الله الذي يخافه ويخشاه وقاية تقيه منه، فتقوى الله أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه سبحانه وعقابه وقايةً تقية من ذلك، فإذا سمعت قول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) [البقرة:278 وغيرها] فاعلم أن معنى ذلك: اتقوا غضب الله وسخطه، فهو -سبحانه- أعظم مَن يُتقى، كما قال -عز وجل-: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)[المدثر:56]، فهو أهلٌ لأن يُتقى، فإذا اتقاه العبد فهو أهلٌ لأن يغفر له، ويصفح عنه، بمــَنِّهِ وكرَمِهِ سبحانه.
ويدخل في التقوى الكاملة فعلُ الواجبات، وتركُ المحرمات، ويدخل فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات، وتركُ المكروهات، وهو أعلى درجات التقوى؛ قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله؛ وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
أيها المسلمون: إن المؤمن عندما يسمع أوامر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بلزوم التقوى وثواب المتقين تتوق نفسه إلى أن ينضمّ إلى تلك الفرقة الناجية، والجماعة الطيبة، وأن يكون واحدًا من المتقين؛ ليحيا حياة سعيدة في دنياه وآخرته، وعند ذلك يتساءل المسلم: كيف أكون من المتقين؟ وكيف ألتحق بركب عباد الله الصالحين؟.
وللجواب على هذا السؤال نستعرض شيئًا من صفات المتقين وأعمالهم وأحوالهم: إن أول صفة من صفات المتقين التي ذكرها الله في سورة البقرة أنهم يؤمنون بالغيب، والإيمان بالغيب أمر عسيرٌ إلا على من استسلم لله، وأخلص قلبه لمولاه، وعلم أن الله وحده هو ربه، وأنه علام الغيوب، وأنه لا راد لحكمه، ولا معقب لكلماته، وهو السميع العليم.
فهذا هو المؤمن الحق، فهو يؤمن بالله -عز وجل- وإن لم يره؛ لأنه رأى من آيات الله وعجائب مخلوقاته وبديع صنعه ما بهر العقول، وآمن بأن هناك ربًا عظيمًا هو الخالق البارئ المدبر لتلك المخلوقات، وأنه واحد أحد فرد صمد سبحانه وبحمده، وكذلك لأنه سمع آيات الله الشرعية المنزَّلة على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فآمن بربه، وأيقن أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
وهذه العبادة تقتضي توحيد الله، وأن لا يشرك العبد به شيئًا، فمن صرف شيئًا من العبادة لغير الله فقد ظلم نفسه، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13].
ويجب على المسلم أن يحذر من صرف العبادة بأي نوع منها لغير الله، سواء أكان ذلك عن طريق الدعاء أو الاستعانة أو الذبح أو النذر أو ما سوى ذلك؛ فإن صرْفَ ذلك أو شيء منه لغير الله شرك بالله -عز وجل- حتى ولو كان المدعو نبيًا أو وليًا أو صالحًا، فإنه لا يجوز له من ذلك شيءٌ.
بل إن خير البرية، وأفضل البشرية، وأحبّ خلق الله إلى الله، وهو نبيّنا وحبيبنا محمّد -صلى الله عليه وسلم-، لا يجوز دعاؤه، ولا الاستعانة به، ولا الحَلف به؛ لأن ذلك مما انفرد الله به، فلا يجوز صرفه لغيره سبحانه.
ومن الإيمان بالغيب الإيمان بكل ما أخبرنا به ربنا، وأخبرنا به رسولنا الكريم من غير شك ولا ريبة ولا جدال، (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء:85].
الصفة الثانية من أوصاف المتقين أنهم يقيمون الصلاة، وهذا يدل على شدة عنايتهم بهذا الركن العظيم من أركان الدين، والصلاة أعظم الأعمال على الإطلاق، فمَن حافظ عليها واهتمّ بها رُجي له الخير والفلاح، ومن تهاون بها وتكاسل عنها كان من الخاسرين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً يوم القيامة، وحُشر مع فرعون وقارون وأبي بن خلف" أخرجه أحمد بإسناد جيد.
وإقامة الصلاة تكون بإقامة شروطها وأركانها وواجباتها، ومن أهم ذلك إحسان الوضوء، وأداؤها في أوقاتها، فيجب على المسلم أن يحرص على أداء الصلوات في أوقاتها؛ لأن تأخير الصلاة عن وقتها من عظائم الذنوب، وأن يجتهد فيما يحصل به قبول صلاته، فإن كان لا يحسن ذلك تعلم وسأل أهل العلم حتى يعبد ربه على بصيرة وعلم لا على غفلة وجهالة.
وعلى المسلم أن يعمل بوصية الله -عز وجل- إذ يقول: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه:132]، فيجب على المسلم أن يأمر أهله وأولاده بالصلاة، وأن يعلمهم أحكامها، ويحذرهم من التهاون بها، ويخبرهم بأن ذلك قد يؤدي إلى الخروج من الملة، نعوذ بالله من ذلك.
الصفة الثالثة من صفات المتقين أنهم مما رزقهم الله ينفقون، فهم يؤدون الزكاة الواجبة، ويتصدقون من أموالهم صدقة ترفع درجاتهم، وتقربهم إلى مولاهم، ينفقونها في خدمة بيوت الله، ونشر دين الله، ومساعدة إخوانهم المسلمين من المحتاجين.
الصفة الرابعة أنهم يؤمنون بما أنزل إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وما أنزل من قبله، يؤمنون بالقرآن وأنه كتاب الله أنزله على محمد رسول الله، فجمعوا بين الإيمان بكتب الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم.
والإيمان بالكتب والرسل من أعظم أركان الإيمان، فيؤمن العبد أن القرآن كتاب الله المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنّ الإنجيل كتاب الله المنزل على عيسى -عليه السلام-، وأن التوراة كتاب الله المنزل على موسى -عليه السلام-، وهكذا في كل ما أخبرنا الله به من الكتب والرسل.
ومَن أنكر واحدا من كتب الله أو رسله فهو كافر بالله العظيم، فمن قال: أنا مؤمن بكتب الله ورسله إلا إبراهيم أو إلا موسى أو إلا عيسى فهو كافر حتى ولو لم ينكر إلا كتابًا واحدًا أو رسولاً واحدًا، ومَن قال: إن التوراة والإنجيل لم ينزلا من عند الله فهو كافر كذلك.
فهذه الكتب وتلك الرسل كلها من عند الله، غير أن طائفة من أهل الفساد قد أفسدوا كثيرًا من تلك الكتب وحرفوها وألفوها على ما تمليه لهم عقولهم، فخلطوا الحق بالباطل، وكتموا الحق وهم يعلمون.
وقد أخبر -عز وجل- أن من كفر برسول واحد فهو كافر بالله، فقال في محكم كتابه:(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:150-152].
الصفة الخامسة والأخيرة من صفات المؤمنين المذكورة في سورة البقرة أنهم بالآخرة يوقنون، فالمتقون يعلمون علم اليقين أنهم سيموتون ثم سُيبعثون ثم سيجازون بما كانوا يعملون؛ ولذلك فإنهم يُعِدُّون العدة ويحسنون العمل ويتزودون بالصالحات؛ علَّهم أن يُبَشَّروا بروح وريحان، ورب راض غير غضبان.
أيها المؤمنون: إن أمامنا من الأهوال ما تشيب منه رؤوس الولدان، ابتداءً من سكرات الموت التي كان الإنسان يحيد عنها ويخاف منها، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19]، مرورًا بالنفخ في الصور، (ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) [ق:20].
ثم بالحساب على تلك الأعمال التي غفل عنها الإنسان ثم رآها أمامه يوم القيامة وأبصرها ببصره الثاقب يومئذ، (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [حديد:22].
وانتهاء بالحكم القاطع بمصير كل إنسان فيقال في شأن الكافرين: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [ق:24]، ويقال للمتقين: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:34-35]، فينادي أهل النار يريدون الخلاص فيجابون: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [ق:29].
فاستعدوا -يا عباد الله- لتلك الأهوال العظام، والأحوال الجسام، فمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من المتقين، وأن يحشرنا في زمرة خير النبيين، وأن يثبتنا على الحق أجمعين.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: إن الإنسان إذا تذكر حقارة الدنيا وأن مصيرها عما قليل إلى فناء فإنه يزهد في عرضها الزائل، ونعيمها الآفل، والعجب ممن يعلم أنه لن يعيش إلا سنوات معدودات كيف لا يحسن العمل، لتحسن له العاقبة؟!.
يَا غافِلاً عَنِ الأَجَلْ | وَغَرَّهُ طُـولُ الأمَـلْ |
الْمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَـةً | وَالقبْرُ صُنْدُوقُ العَمَلْ |
وإذا صعُب على الإنسان أن يؤطر نفسه على الحق، فليعلم أن مجاهدة النفس هي طريق الصالحين، (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) [الحج:78]، وليتذكر قوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) [آل عمران:200].
وليعلم أن النتيجة هي وعد الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين...