التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
القادسية وما أدراكم ما القادسية! من معارك الإسلام الخالدة، ومعركة من المعارك الحاسمة في تاريخ العالم، فهي التي انفتحت على آثارها أبواب العراق وما وراء العراق من بلاد فارس.. في القادسية كسر المسلمون شوكة المجوس كسراً لم ينجبر بعدها أبداً، وبعدها انساح دين الإسلام في العالم شرقاً وغرباً. فلنعش...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: القادسية وما أدراكم ما القادسية! من معارك الإسلام الخالدة، ومعركة من المعارك الحاسمة في تاريخ العالم، فهي التي انفتحت على آثارها أبواب العراق وما وراء العراق من بلاد فارس.. في القادسية كسر المسلمون شوكة المجوس كسراً لم ينجبر بعدها أبداً، وبعدها انساح دين الإسلام في العالم شرقاً وغرباً.
فلنعش -أيها الأحبة- لحظات مع أحداث هذه المعركة العجيبة، ولنقف مع بعض فوائدها وفرائدها.
كان للفرس دولة عظيمة قوية اتخذت من المدائن عاصمة لها، وأطلق عليها العرب اسم دولة الأكاسرة. وبعد هزيمة المسلمين في معركة الجِسر، بدأ الفرس في لمّ شملهم تحت قيادة يزدجرد، وبدءوا بالتحرك على حدود الدولة الإسلامية، قرر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخروج بنفسه غازياً للفرس في العراق، وأعلن ما يسمى في عصرنا بالنفير العام، فلم يكن أحد يقدر على القتال إلا أرسله إلى العراق، وقال: "والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب".
فلما كان على بعد ثلاثة أميال من المدينة، استشار عمر كبار الصحابة معه، وكان رأيهم أن يرجع هو إلى المدينة، ويبعث أحداً مكانه، فقال: أشيروا عَليَّ برجل؟ فأشاروا عليه بسعد بن أبي وقاص فأحضره عمر وأقرّه على جيش العراق.
سار سعد -رضي الله عنه- بالجيش، وتتابعت الإمدادات، حتى صار معه ثلاثون ألفاً من المجاهدين المؤمنين، فنظم الجيش، وكلّف يزدجرد قائده رستم بقيادة الجيش، فسار رستم بجيش يبلغ تعداده 120 ألفاً، ومعه سبعون من الفيلة.
ومن البطولات العجيبة التي حصلت قبل المعركة: أن دخل طليحة الأسدي معسكر رستم وحده؛ لكي يعرف مقدار قوة جيش العدو، فشعروا به، فخرج يحطّم عليهم أعمدة خيامهم، وأخذ أمامه فرساً، فركبوا في طلبه، فلحق به فارس منهم فقتله طليحة، ثم لحق به آخر فقتله أيضاً، فلحق به ثالث، فكرّ عليه طليحة وأسره، ودخل به على سعد!!
أرسل بعدها رستم إلى سعد: أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا، فأرسل إليهم ربعي بن عامر، الذي وقف موقفًا عظيمًا مع رستم وقال كلمات خالدة: "إن الله ابتعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر".
رجع ربعي إلى جيش المسلمين، وترك القوم في حيرة مما قاله لهم، وأوقع في نفوسهم من الخوف والهلع قبل المعركة.
عباد الله: وبعد عدة مراسلات ومحاورات بين رستم وبعض الصحابة، عبر الفرس النهر، وجلس رستم على سريره، وعبّأ في قلب الجيش 18 فيلاً.
وأما سعد، فقد نظم الجيش، وقال: الزموا مكانكم، حتى تُصلّوا الظهر، فإذا صليتم، فإني مكبر تكبيرة، فكبروا واستعدوا، فإن سمعتم الثانية، فكبروا والبسوا عدتكم، ثم إذا كبرت الثالثة، فكبروا وليُنشّط فرسانكم الناس، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً، حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات، فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم، فتبادلوا الطعن والضرب، ومما أزعج المسلمون الفيلة التي جاء بها رستم؛ لأن الخيول كانت تحجم عنها وتحيد، فاقترح عاصم بن عمرو أن يرموا ركبان الفيلة بالنبل، فشد عليهم الرماة، فما بقي فيل إلا قُتل صاحبه، واقتتل الناس ذلك اليوم حتى غروب الشمس.
وفي اليوم الثاني قدم القعقاع بن عمرو من دمشق بعد فتحها، ولما كان يعلم عدد جيش المسلمين، وضخامة جيش الفرس، قطّع الجيش عشراً عشراً، وكانوا ألف فارس، وجعلهم متباعدين يثيرون الأرض، حتى يصلوا ويلحقوا بالجيش، فبقيت العشرات تتوارد أرض القادسية، حتى المساء.
فظن الفرس أن مائة ألف قد وصلوا من الشام، فألقى القعقاع، في قلوبهم الرعب والهلع؛ فلا تدري من أين جاء هؤلاء الفرسان بفنون الحرب وخططها، وهم حديثو عهد بالحروب، ومن خطط القعقاع أيضاً أنه ألبس الإبل البراقع، فجعلت خيل الفرس تفر منها تحسبها فيلة، فلقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة، فتنشّط المسلمون وتقاتل الفريقان ذلك اليوم، حتى منتصف الليل.
ومن القصص العجيبة التي حصلت في ذلك اليوم، قصة الخنساء وأبنائها الأربعة، جمعت أبناءها في أول الليل، وأوصتهم بالصبر على الجهاد في سبيل الله، فخرج أبناؤها الأربعة، فقاتلوا ببسالة، حتى قتلوا جميعاً، فلما بلغها الخبر، قالت: "الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
أيها المسلمون: قد يتعجب البعض من انتصار المسلمين في القادسية وغيرها من المعارك، وعدد العدو أضعافُ أضعاف المسلمين؛ فلمَ العجب وفي نساء المسلمين من أمثال الخنساء فكيف بالرجال؟!
ذكر ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية قصة امرأة همّام بن الحارث النخعي، قالت: "شهدنا القادسية مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فُرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي، ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيان فنولّيهم ذلك -تعني استلابهم-؛ لئلا يكشفن عورات الرجال".
إنها المرأة المسلمة، لبنة من لبنات المجتمع المسلم تشارك في مجالها، وتحافظ على حيائها وعفافها؛ أين هذه الصورة من بعض نساء اليوم ممن يلهثن وراء عروض الأزياء، وبيوتات الموضة، متأثرات بموجات التغريب والعلمنة؟
وكيف لا ينتصر المسلمون، وفيهم رجل عجوز أعمى، مثل ابن أمّ مكتوم -رضي الله عنه وأرضاه-؟! قال أنس -رضي الله عنه-: "رأيت يوم القادسية عبد الله بن أمّ مكتوم، وعليه درعٌ يجرّ أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أُكثّر سواد المسلمين بنفسي، وقال: ادفعوا إليّ اللواء، فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، فأقيموني بين الصفين". واستشهد -رضي الله عنه وأرضاه- يوم القادسية، ودفن هناك ليعطّر تلكم البقعة بدمه الطاهر.
إنها الهمم العالية، والبذل العجيب في سبيل هذا الدين رجالاً ونساءً.
أيها المسلمون: أصبح القوم لليوم الثالث على التوالي وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف، فنقل المسلمون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء.
وبات القعقاع ولم ينم تلك الليلة، واستمر القتال حتى الصباح، فجمع حوله جماعة من الرؤساء وشجعهم، وكان -رضي الله عنه- هو محور المعركة الفاصلة، فقال لهم: "إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة".
فقصدوا رستم، وخالطوا جيش العدو، فوصل القعقاع إلى سرير رستم، وقتلوا من دونه، فهرب رستم، ونزل في الماء، فرآه هلال بن علّفة، فلحق به، ورمى بنفسه عليه، وتناوله من رجليه، فأخرجه من الماء، ثم ضرب جبينه بالسيف، حتى قتله ثم ألقاه بين أرجل البغال، ثم صعد طرف السرير، وقال: قتلت رستم ورب الكعبة، فكبر المسلمون، فلما رأى الفرس ذلك المنظر، وبعد قتالٍ استمر يومين كاملين دون توقف، انهزموا، فتبعهم المسلمون برماحهم وسيوفهم، وهم يقتلون فيهم.
عباد الله: بقي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مشغول الفكر والقلب بأمر القادسية، وكان يخرج كل يوم خارج المدينة، لعل أحداً يأتي من طرف سعد بالخبر يزف إليه البشرى بالنصر، ولكنه يرجع إلى أهله دون أن يرى أحداً.
وفي اليوم الذي ورد فيه البشير، لقيه عمر وهو يسرع على ناقته، فسأله عمر: من أين؟ قال: من قبل سعد، فقال عمر: يا عبد الله حدثني، قال: هزم الله العدو، فنادى عمر: الصلاة جامعة، وزفَّ بشرى النصر إلى الناس، وقرأ عليهم كتاب سعد بالفتح.
بقي سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بعد النصر شهرين، ثم توجه إلى المدائن ودخلها، واتخذ من إيوان كسرى مصلى ودخله، وهو يقرأ قول الله -تعالى-: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ)[الدخان:25-28].
وصلى فيه صلاة الفتح ثمان ركعات، وبعث بتاج كسرى وثيابه المنسوجة بالذهب، وحليّه وسيفه وجواهره إلى عمر، ليرى ذلك المسلمون، وليوزعها على الأمة، فقال عمر: "إن قوماً أرسلوا هذا لذو أمانة" فقال علي -رضي الله عنه-: "إنك عففت، فعفّت رعيتك".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: ومن قصص القادسية، والتي تستحق أن نقف عندها: قصة أبو محجن، كان -رضي الله عنه- قد اتهم بشرب الخمر، وقصته: أنه خرج مع المجاهدين في معركة القادسية، وقد حبسه سعد في المعركة، ومنعه من القتال من أجل المسكر، فلما اشتد القتال، وكان أبو محجن قد حبس وقُيّد في القصر، فأتى سلمى بنت خَصفة امرأة سعد، فقال لها: هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عنّي وتعيرينني البلقاء -وهو فرس سعد- فلله عليّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في قيدي، وإن أُصبت فما أكثر من أفلت، فقالت: ما أنا وذاك، فقال حزيناً على نفسه، والأبطال في حلبة القادسية، وهو مقيّد:
كفى حُزناً أن تُرد الخيل بالقنا | وأُترك مشدوداً عليّ وثاقيا |
ولله عهد لا أخيس بعهده | لئن فُرّجت أن لا أزور الحوانيا |
فسمعت سلمى منه، وهو يردد هذه الأبيات، فقالت: إني استخرت الله، ورضيت بعهدك، فأطلقته. فأبلى بلاء حسنًا، وعندما علم سعد دعا به، فحلّ قيوده، وقال: لا نجلدك على الخمر أبداً، قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبداً.
أيها المسلمون: من الذي لا يخطئ؟ ومن الذي لا يزل؟
كل بني آدم خطاء، لكن الخطيئة في الإسلام ليست وصمة عار تبقى ملاصقة للمرء لا فكاك عنها، فخير الخطائين التوابون، فالخطيئة تعالج بالتوبة، والسيئة تمحوها الحسنة بعدها.
إن المخطئين والمذنبين ليسوا عناصر فاسدة في المجتمع المسلم لا يمكن الاستفادة من طاقاتهم، ولو أن كل من أخطأ أو أذنب استبعد من كل شيء لتعطّلت كثير من المصالح والأنشطة.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين يا رب العالمين.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...