الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
جاء رجلٌ إلى عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-، يسأله عن شيءٍ وقعَ في صدره، فقال له: ما شيءٌ أجدُه في صدري؟؛ أي: من الشكوك والوساوس التي يُلقيها الشيطان, فقال له: "إذا وجدت في نفسكَ شيئاً...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
الحمد لله له الأسماء الحسنى، والصفات العليا, أمر عباده أن يدعوه بها، وجعل العاقبة للتقوى, وأشهد ألا إله إلا الله له الآخرة والأولى, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قام بعبادة ربه القيام الأوفى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرماء، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيقول الله -عز وجل- في كتابه العظيم: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الحديد: 1 - 3].
أسماء عظيمة تقابلت فتكاملت في معانيها، وتنوعت في دلالتها، لا يفرد ذكر بعضها عن مقابله فيفسد المعنى، ويرد على الخاطر ما لا يراد أو لا يليق بالله, يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمعرفة هذه الأسماء الأربعة -الأول، والآخر، والظاهر، والباطن- هي أركان العلم والمعرفة, فحقيقٌ بالعبدِ أن يبلُغَ في معرفتها إلى حيثُ ينتهي به قواه وفهمه"؛ يعني: أن على الإنسان أن يبذل ما يستطيعه في الوقوف على معان هذه الأسماء العظيمة، فيسأل عنها، ويورد معانيها على خاطره فهي من دلالات كمال الخالق -عز وجل-، ومن دلالات ضعفك أيها المخلوق.
فربنا الأول الذي ليس قبله شيء، كان الله ولم يكن شيء قبله، فلم يسبقه أحد، ولن يسبقه أحد, فهو أزلي بلا بداية.
وأما أنت -أيها المخلوق- فلم تكن شيئاً مذكورا (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)[الإنسان: 1]؛ فليس لك تاريخ طويل في هذا الوجود, أدرك لحظاتك الأولى والداك، وأرَّخا ساعة ولادتك ففاتك من العلوم والحوادث ما سبق ولادتك وإدراكك، وعلمك بما سبقك علم خبر ليس معاينة؛ وليس الخبر كالمعاينة!.
فهل تدرك -رحمك الله- هذا الجانب من ضعفك؟ وحاجتك إلى ربك الأول في خلقك؟ فهو الأول حيث أوجدك من العدم، (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)[عبس: 18 - 20].
وهو الأول حيث علمك ما لم تكن تعلم, (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)[النحل: 78], وهو الأول حيث جعل لك آلة الفهم, (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78].
وهو الأول حينما هداك إلى مصالحك، فبهدايته الأولى عرفت كيف تحفظ بنيتك, وتحافظُ على جسمك؟, (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50], ثم لم يسبقه أحد حينما أسبغ عليك نعمه الظاهرة والباطنة، فهو أول من أوصل إليك إحسانه، ففي أرضه تسكن، وتحت سمائه تستظل، ومن مائه تشرب وتسقي, (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)[الفرقان: 48، 49].
ثم لا تزال تدرج في هذه الدنيا محفوظاً بحفظ الله، فهو أول الحافظين، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 64]؛ يتعاقب عليك خلق أوكلت إليهم رعايتُك، ودفعُ السوء عنك, (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)[الرعد: 11].
وهكذا يسر لك ربك أمورك، فحاجتك هو أول من يقضيها، ويسوق إليك من خلقه ما يكون طوع أمرك، وممتثلاً نهيك, وأنت مكرم عند ربك، فربك أول من كرمك وفضلك, وحملك في بره وبحره, (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70].
فهذا شيء وغابت عنا أشياء من أوليات ربك الأول عليك, فهل أنتم شاكرون؟.
ثم هو -سبحانه وتعالى- هو الآخِر فليس بعده شيء فهو أبدي بلا نهاية, (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26، 27], (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)[مريم: 40]؛ فالخلق ينتهون إليه في أمور دنياهم وأخراهم, (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)[الشورى: 53], (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)[هود: 123].
أفلا يكون الأول في عليائه -عز وجل- هو الأول في قصدك وإرادتك؟ والآخر هو منتهى طلبك ورغبتك، ومستقر تعظيمك ورهبتك؟؛ فهذه حقيقة إخلاصك لله -عز وجل-.
أقولُ ما سمعْتُم، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُم ولِسائر المسلمين مِن كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبوا إليْهِ؛ إنَّه هو الغفور الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهَدُ ألا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى جنَّته ورِضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أَمَّا بعْدُ:
عباد الله: فيأتي بعد ذلك الاسمان الكريمان (الظاهر والباطن)؛ فهو الظاهر -عز وجل- بآياته الكونية والشرعية, أقام الدلائل على وحدانيته واستحقاقه للعبادة, (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ)[غافر: 81], (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)[يوسف: 105].
وهو الظاهر الغالب المنتصر لعباده المؤمنين (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)[الصف: 14]؛ فأولياؤه ظاهرون ودينه ظاهر (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة: 33], ومتى حقق المؤمنون إيمانهم حقق الله لهم ظهورهم بما وعدهم؛ (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47].
ثم يقابل هذه الصفة العظيمة أن ربنا -سبحانه وتعالى- باطن فلا تدركه الأبصار، وهو فوق كل تصور وخيال؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11], وهو -سبحانه- باطن مطلع على خفايا العباد وخباياهم فلا يغيب عنه شيء من أحوالهم؛ كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق: 16]؛ فلا شيء أقرب إلى شيء منه.
فالباطن عنده ظاهر والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب والسر عنده علانية, فهل تزكى نفسك, وباطنُك عنده ظاهر معلوم؟ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14]؛ فكيف تتوارى عنه عندما تعصيه؟! وتستخفي عن الخلق وربك الباطن قد أحاط بكل شيء, يعلم السر وأخفى؛ فخلواتك وجلواتك عن ربك لا تخفى, (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)[الذاريات: 50].
جاء رجلٌ إلى عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-، يسأله عن شيءٍ وقعَ في صدره، فقال له: ما شيءٌ أجدُه في صدري؟؛ أي: من الشكوك والوساوس التي يُلقيها الشيطان, فقال له: "إذا وجدت في نفسكَ شيئاً فقل: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)".
لقد بلغ من حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- أن جعل هذه الأسماء الأربعة ضمن كلمات يقولها الإنسان في ختام يومه، وقبل نومه، وهو في مضجعه, عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أراد أحدكم أن ينام، فليضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر"(رواه مسلم).
أيها الإخوة: إن قلباً امتلأ من معاني اسم ربه الأول والآخر واالظاهر والباطن لا يمكن أن يأنس بمعصيته, ولا يصرف شيئاً من عبادته لغير من أمره بعبادته, فلا مهرب من رب أحاط بكل الأزمان، وأدرك عباده فهو عالم بهم مطلع عليهم في أي مكان.
فاللهم يامن أمرنا بيده ونهايتنا إليه أصلح ظواهرنا وبواطننا, واحفظنا حيث كُنا، وارزقنا تعظيمك في الخلوات والجلوات برحمتك يا أرحم الراحمين.