البحث

عبارات مقترحة:

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

الحفي

كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...

وكفى بالله شهيدا

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أركان الإيمان - التوحيد
عناصر الخطبة
  1. اسم الله «الشهيد» في القرآن والسنة .
  2. معاني اسم الله الشهيد .
  3. ارتباط اسم الشهيد بالخبير والعليم .
  4. ثمرات الإيمان باسم الله الشهيد .
  5. ضرورة مراقبة في السر والعلن .

اقتباس

والشهيد -سبحانه- هو المطلع على كل شيء، الذي لا يغيبُ عنه شيء، الذي أحاط علمه بكل شيء، وهو المحيط بحقائق الأمور، وظواهرها وبواطنها، الذي يرى الكون كله بأفلاكه ومجراته بأرضه وسمائه، وهو مستوٍ على عرشه، يرى -سبحانه- كل ذرة، وكل نبتة، وكل شجرة في العالم، في ظلمة الليل البهيم...

الخطبة الأولى:

الحمد لله القوي العظيم، الرقيب الشهيد، يدبر خلقه كما يشاء بحكمته، فهو الفعّال لما يريد، أحكم ما شرع، وأتقن ما صنع، فهو الولي الحميد, حدَّ لعباده حدودًا، ونظمها لهم تنظيمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرقيب الشهيد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائم بأمر الله، الناصح لعباد الله على الرشد والتسديد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.

أما بعد:

يا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأخلصوا أعمالكم له، وآمنوا بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء حفيظ رقيب، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، فجميع حركاتكم وسكناتكم، وأقوالكم وأفعالكم، معلومة عند ربكم، محفوظة لكم، مسجلة عليكم في كتاب مبين.

فاتقوا ربكم وراقبوه في السر والنجوى، والخلوة والجلوة، فإن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم، علم جميع أفعال العباد، وأحصاها قبل فعلها، وشهدها حال فعلها، علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ: (يَومَ يَبعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6]، وهو -سبحانه- يراهم جميعًا في آنٍ واحد، ويسمع ما يتناجون به، ويرى ما يخوضون فيه، ويعلم ما يجول في خواطرهم، وما تحويه ضمائرهم، لا يغيب عنه من أمرهم شيء يقولونه أو يفعلونه أو يكتمونه، لم يفارقهم علمه طرفة عين في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، وحال حياتهم وموتهم حتى الوقوف بين يديه.

واعلموا أن الله هو الرقيب، وأنه الشهيد، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه -سبحانه وتعالى-, الشهيد الرقيب على خلقه أينما كانوا، وحيثما صاروا، حاضر شهيد، أقرب إليهم من حبل الوريد، يسمع ويرى، وهو على العرش استوى، فالقلوب تعرفه، والعقول لا تكيفه، شهادته لخلقه شهادة إحاطة شاملة، تشمل العلم والرؤية والتدبير والقدرة.

سبحانه وتعالى الشهيد على كل ما يقع في الأكوان من صغار الأمور وكبارها, وعظيم الحوادث ودقيقها (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) [النساء: 33]، كان وما يزال شهيدًا على جميع الأشياء، ومطلعًا على جليّها وخفيها، وسيجازي الذين يتمسكون بشريعته بما يستحقون من ثواب، ويجازي الذين ينحرفون عنها بما يستحقون من عقاب، يشهد أعمال العباد، ظاهرها وباطنها، ويسمع أقوالهم، ويرى حركاتهم، ثم يجازيهم على ذلك، أتم الجزاء وأوفاه.

تبارك ربنا الشهيد يسمع جميع الأصوات خفيّها وجليّها، ويبصر جميع الموجودات صغيرها وكبيرها، فهو الشهيد على أفعالهم، الحفيظ لأقوالهم، العليم بسرائرهم، وما تكن صدورهم وما يعلنون، الذي أحاط علمه بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء -سبحانه وتعالى-.

أيها المسلمون: وقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الشهيد, قال -تبارك وتعالى-: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام: 19]، وقال -سبحانه-: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء: 96]، وقال الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 98]. وقال -تبارك وتعالى-: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [النساء: 79]، وقال -جل وعلا-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح: 28].

وهو الشهيد على أعمال بني البشر صالحها وفاسدها, قال تعالى: ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأنٍ وَمَا تَتلُو مِنهُ مِن قُرآنٍ وَلا تَعمَلُونَ مِن عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيكُم شُهُودًا إِذ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61]، أي يا محمد، اعلم أن كل أمورك، وأمور العباد، وكل المخلوقات كلها معلومة لله تعالى، ومكتوبة في كتاب حفيظ، فربنا الشهيد لا يغيب ولا يختفي عن علمه عمل عامل، كما لا يضيع عنده أجر عمل أو ثواب نيّة، مهما كان ذلك الأجر صغيرًا.

وقد أثنى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على ربه، وهو أعرف الخلق به فوصفه وسماه شهيدًا، فقد صح عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا..." [البخاري (2291)]. وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا-، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ في حديث طويل وفيه.. "وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِن أُمَّتِي فَيُؤخَذُ بِهِم ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أصَحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدرِي مَا أَحدَثُوا بَعدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبدُ الصَّالِحُ: (وَكُنتُ عَلَيهِم شَهِيدًا مَا دُمتُ فِيهِم، فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِم وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 117].." [البخاري (4625)].

يا عباد الله: تدور معاني اسم الله الشهيد لغةً على الحضور والعلم، فلا يَغيب عن عِلْمه شيء. والشهيد -سبحانه- هو المطلع على كل شيء، الذي لا يغيبُ عنه شيء، الذي أحاط علمه بكل شيء، وهو المحيط بحقائق الأمور، وظواهرها وبواطنها، الذي يرى الكون كله بأفلاكه ومجراته بأرضه وسمائه، وهو مستوٍ على عرشه، يرى -سبحانه- كل ذرة، وكل نبتة، وكل شجرة في العالم، في ظلمة الليل البهيم، ويرى -سبحانه- أهل الطاعات وهم يطيعونه فيجزي ويشكر، ويرى أهل المعاصي وهم يعصونه فيعفو ويصبر، ويجزي ويقهر، ويرى ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، فسبحان (الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ) [البروج: 9].

وتأمل معي -أخي- كيف أجاب نبي الله عيسى -عليه السلام- ربه -جل وعلا- لمّا سأله عن زعم النصارى بأن عيسى هو الذي أمرهم بعبادته من دون الله؟ قال تعالى: (وَإِذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَينِ مِن دُونِ اللَّهِ)، بماذا أجاب؟ قال كما في قوله: (قَالَ سُبحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ مَا لَيسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمتَهُ تَعلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلَا أَعلَمُ مَا فِي نَفسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ * مَا قُلتُ لَهُم إِلَّا مَا أَمَرتَنِي بِهِ أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم وَكُنتُ عَلَيهِم شَهِيدًا مَا دُمتُ فِيهِم فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِم وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 116- 117]. قال العلامة السعدي: "أي: شهدت على من قام بهذا الأمر، ممن لم يقم به, وأنت المطلع على سرائرهم وضمائرهم".

والشهيد -سبحانه- هو الحاضر والشاهد الذي شهد لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط، وهو الذي يقضي بين عباده بعلمه وسمعه وبصره, فالله -عز وجل- يشهد لعباده، ويشهد على عباده بما عملوه، قال تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) [الرعد:43]. وشهادته حكم وقضاء وإعلام، وبيان وإخبار وإلزام، فالله يشهد بصدق المؤمنين إذا وحّدوه، ويشهد لرسله وملائكته فيما نقلوه أو بلّغوه، وشهادته لنفسه بالوحدانية فوق كل شهادة.

والله -جلَّ جلاله- لا يحتاج إلى الشهود على العباد؛ لأنه على الجميع شاهدٌ؛ على الشاهد والمشهود، وشهد لنفسه بأعظم شهادة في كتابه، فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [آل عمران: 18]. فهو شهيد بالظواهر والبواطن والخفايا والرزايا والحسن والقبيح، عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء وإن دق أو صغر، قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ فِي الأَرضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران: 5].

أيها المسلمون:  كونوا على حذر في كل حين، وإياكم ومخالفة رب العالمين، فالله تعالى سيخبر عباده يوم القيامة بما عملوه، ويظهر ما لم يكونوا يتوقعوه، حين يبلي السرائر ويكشف ما في الضمائر، فقد أقسم -تبارك وتعالى- فقال: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيهِم بِعِلمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)، فبيّن -عز وجل- أنه سيقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبر بأنه -جل وعلا- لم يكن غائبًا عما فعلوه أيام فعلهم له في حياتهم الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغيرٍ وكبيرٍ، وجليلٍ وحقيرٍ، وهذا بخلاف بني آدم، فإن كثيرًا من الأمور قد تخفى عليهم.

عباد الله: عظموا ربكم وأطيعوه لما تفرد به الله -سبحانه- من صفات الكمال والجلال والعظمة، ولقد تكاملت معاني أسمائه وصفاته؛ لتدل على أجمل النعوت والصفات وأفضلها، ومن تدبر ذلك فهمه! فإن العلم إذا ذُكر في حق الله وأطلق فيدل على اسم الله "العليم"، أما إذا أُضيف إلى الأمور الباطنة فيدل على اسمه "الخبير"، وإذا أُضيف إلى الأمور الظاهرة، فعلى اسم الله "الشهيد". بينما يختص اسم الله الشهيد بعلم الغائب والحاضر لا يغيب عنه شيءٌ، وهو الحافظ الذي لا ينسى، والمحصي الذي لا تشغله الكثرة عن العلم، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق؟! (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].

سبحان الله الشهيد لكل ما خلق، المطلع على جميع أحوال العباد في حركاتهم، وسكناتهم، وهذا يقتضي مراقبته على الدوام في جميع الأحوال الدينية والدنيوية، فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على الوجه الذي شرع لكم، بجد وإخلاص وإتقان واتباع، وإياكم وما يكره الله تعالى، فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم، فلا يغيب عن علمه ومشاهدته أمر، ولا يختفي عن سمعه وبصره شيء، سبحانه أحاط بكل شيء علمه، وجرى بذلك قلمه، وحوى ذلك كتابه.

اللهم إنا نسألك عفوك وسترك يا كريم، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: وقِّروا ربكم وأجلوه، وعظموه, واعلموا أنه لم يفقه معنى اسم الله الشهيد من جعل الله -سبحانه وتعالى- أهون الناظرين إليه، فيستخفي من الناس ولا يستخفي من الله وهو معه أينما كان, ولذا فإن من آثار الإيمان بهذا الاسم الجليل: اليقين بأنَّ الله -عز وجل- عالِم الغيب والشهادة، لا يَخفى عليه شيء، وإن دقَّ وصغر، أو عظم وكبر، فهو -سبحانه- شهيدٌ على العباد وأفعالهم، قال -سبحانه-: (فَلَنَسأَلَنَّ الَّذِينَ أُرسِلَ إِلَيهِم وَلَنَسأَلَنَّ المُرسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيهِم بِعِلمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) [الأعراف: 6- 7].

فالشهيد -سبحانه- أعلم عباده أنه سيخبرهم في لحظة الحساب بكل ما عملوا؛ لأنه كان حاضرًا معهم وشاهدًا عليهم، لم يغب يومًا عن أيٍ من خلقه، وعلمُه ليس تخمينًا أو متوقفًا على شهادة شاهد فحسب، قال -عز وجل-: (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)، ورغم كثرة الخلق، وتباعد أماكنهم، واختلاف أعمالهم، وتباين أزمانهم، إلا أن هذا التباين والاختلاف لم يؤثر على علم الله الشهيد المحيط بهم، فهو ليس بغافل عنهم، قال الحق للجميع: (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عن الجميع، ومادام ليس بغائب عن حدث ما، ولا عن فاعله، ولا عن مكانه، إذن فعلمه سبحانه شامل لكل زمان ولكل مكان.

وفي درس نبوي لأم المؤمنين عائشة، ولسائر المؤمنين بأن الله الشهيد -سبحانه- لا يخفى عليه شيء، وأن الصدق مع الله ومراقبته، ومن ثم الوصول لدرجة الإحسان من خير أعمال عباد الله المؤمنين به المتبعين لنبيه -صلى الله عليه وسلم-. يتمثل هذا الدرس في قصة خروج عائشة -رضي الله عنها- خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في الظلام الدامس غيرةً عليه، وقد ظنت أنه -صلى الله عليه وسلم- سيذهب لإحدى زوجاته، فإذا هو يذهب إلى البقيع قبور أصحابه ليستغفر لهم، فلما رجع رجعت هي أمامه مسرعةً، فلما دخل وجدها ليست بحال النائم، بل إن صدرها يخفق كأنها كانت تجري، ولم تك نائمة، فسألها، فلم ترد، فعندها قال لها: ".. لَتُخبِرِينِي أَو لَيُخبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ". قَالَت: قُلتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنتَ وَأُمِّي فَأَخبَرتُهُ، قَالَ: فَأَنتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيتُ أَمَامِي؟ قُلتُ: نَعَم، فَلَهَدَنِي فِي صَدرِي لَهدَةً أَوجَعَتنِي، ثُمَّ قَالَ: أَظَنَنتِ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيكِ وَرَسُولُهُ؟ قَالَت: مَهمَا يَكتُمِ النَّاسُ يَعلَمهُ اللَّهُ؟ قال: نَعَم... [مسلم (974)], ففي هذا الحديث دلالة على شهود الله -تبارك وتعالى- لخفيات الأمور فضلاً عن علانيتها.

عباد الله:  كونوا على ثقة أنَّ الله -عز وجل- أعظمُ شهيد، وخير الشاهدين؛ لعلمه -سبحانه-: (قُل أَيُّ شَيءٍ أَكبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَينِي وَبَينَكُم) [الأنعام: 19]، قال ابنُ جرير: "يقول الله لنبيِّه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: قل يا محمدُ لهؤلاء المشركين الذين يُكذِّبون ويجحدون بنبوتك مِن قومك: أيُّ شيء أعظمُ شهادةً وأكبر؟ ثم أَخبِرهم بأنَّ أكبر الأشياء شهادةً هو الله، الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقعَ في شهادة غيره من خَلقه, من السَّهو والخطأ، والغلط، والكَذِب والتزوير, والزور, وقلب الحقائق، وغيرها".

وإذا علم الخلق أنَّ الله تعالى هو الشهيدُ على أفعالهم وأقوالهم، فإن هذا يجعلهم يراقبونه في جميع أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والباطنة، وبهذا يبلغ العبد مرتبة الإحسان، فيحسن حال العبد في الحياة ويصلح مآله في الآخرة، وتدبر معي هذه القصة، فعن زَيدِ بنِ أَسلَم، قَالَ: "مَرَّ ابنُ عُمَرَ بِرَاعِي غَنَمٍ فَقَالَ: يَا رَاعِيَ الغَنَمِ هَل مِن جَزرَةٍ؟ قَالَ الرَّاعِي: لَيسَ هَا هُنَا رَبُّهَا، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: تَقُولُ: "أَكَلَهَا الذِّئبُ" فَرَفَعُ الرَّاعِي رَأسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فَأَينَ اللهُ؟" [المعجم الكبير للطبراني(13054) وصححه الألباني] فما أعظمها من قلوب راعت نظر الله فراقبته وأطاعته!.

أيها المسلمون: إن من أعظمِ ثمراتِ الإيمان باسم الشهيد أن يَستحضرَ العبدُ شهودَ الله له عندَ كل عملٍ يعمله، أو كلام يقوله، أو نيِّة يعقدها، قال تعالى: (أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ مَا يَكُونُ مِن نَجوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلا خَمسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَينَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7]. لذا يَنبغي لكلِّ عامل أقدم على عملٍ، صغُر العمل أو كبُر، أن يقف وقفةً عند دخوله فيه، يحاسب عندها نفسه، ويسألها: عن مدى مشروعية هذا العمل؟ وما الدافع له؟ فإن كان دخولُه فيه لله، مضَى فيه، وإلا ترك، فهذَّب نفسه ونقَّاها، ووجَّه نيته وأخلصها، ثم أقدم على العمل مرة أخرى، قال الحسن -رحمه الله-: "رحم الله عبدًا وقف عند هَمِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".

أيها المؤمنون: إن من رحمة الله تعالى وعدله؛ أنه لم يحاسب العباد بمقتضى علمه فيهم وشهادته عليهم، بل أقام عليهم الحجة بأمور أخرى، منها: كتابة أعمال العباد، فقد وكَّل الله بكل إنسان مَلَكين يكتبان عليه عمله، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ) [الانفطار:10 - 11]. فهذا الكتاب فيه سجل عمرك، يحوي الصغيرة والكبير، حتى الضحكة والبسمة، والحركة والسكون, ويوم القيامة يمكنك من قراءته، قال -سبحانه-: (اقرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14]؛ لتقف على عملك، وتتذكر ما قدمت يداك. ومن ذلك أيضًا نصب ميزان العدل يوم القيامة، قال تعالى: (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئًا وَإِن كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].

وإذا جحد العبد وأنكر ما في سجل عمله، ختم الله على لسانه، واستنطق جوارحه, وذلك عندما يعاند الإنسان ويطلب شاهدًا من نفسه على نفسه, فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ:كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ, فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ, يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْمِ؟ يَقُولُ: بَلَى, فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي. فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا, وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا, قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ, فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي, فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ, ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ, فَيَقُولُ لجوارحه: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا, فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ". [مسلم (5271)].

يا عبد الله: راقب نفسك، وتفقد قلبك مستشعرًا مراقبة الله لك عند قيامك بالطاعات، وبعدها استغفر الله؛ فلعل تقصيرًا وقع أو خللاً حدث فيها، ثم ادع الله أن يقبله عنده، واحذر معاصي السر, واستحِ من نظر الحق إليك ومراقبته لك!

كما ينبغي لك أن تراقب أفكارك وخواطرك وتصوراتك، فالله مطّلع عليك، فكيف بالأفعال والأركان، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما سُئل عن منزلة الإحسان، كما في حديث جبريل الطويل من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أَن تَعبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَم تَكُن تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" [مسلم 8].

وإذا علم العبد أن الله هو الذي خلقه وصوّره، وأسكنه في ملكه، وعافاه وأنعم عليه، وأيقن أن ربه يراه، ويسمع كلامه، ويعلم سره وعلانيته، وأنه أقرب إليه من نفسه؛ استحى من ربه أن يعصيه، وخاف من عقوبته، وأقبل على طاعته، لما يراه من عظمته، وجزيل إنعامه، وحسن إكرامه.

أيها المسلمون: ومن أشرف منازل وأعمال العباد تقديم المؤمن أثمن شيء يملكه، وهي روحه وحياته لله ربه، يرجو رضاه، مدافعًا عن دينه وأهله وشريعة ربه، هذا المؤمن يسمى شهيدًا، شهد لله شهادة عملية بالإيمان به، والدفاع عن دينه، والرضا به، وتقديم نفسه طائعًا محبًّا؛ طلبًا لرضا سيده ومولاه، ومع ذلك ينبغي لنا ألا نجزم لأحد بالشهادة، ولا نزكي أحدًا بهذه المنزلة، بل نقول: نحسب فلانًا شهيدًا، ولا نجزم لأحد بهذه المنزلة، فالنوايا والسرائر لا يعلمها إلا الله، والخواتيم بيده -سبحانه-، نسأل الله أن يحسن لنا الختام، وأن يرزقنا شهادة في سبيله، يرضى عنا بها، ويغفر لنا بها ما سلف من الذنوب.

يا عباد الله: تدبروا كلام ربكم، وافهموا عن الله كلامه، وإن من الآيات التي تحرك القلوب وتشير إلى معنى الشهيد، قول الله تعالى: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 45]. فإن الله -سبحانه- مع المؤمن، معه في حركته، في سكنته، في عطائه، في منعه، في صلته، في قطعه، في غضبه، في رضاه، الله -عز وجل- يقول: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الشعراء : 213 – 220] .

أيها المؤمنون: ورد في بعض الآثار أن الله تعالى قال: "يا موسى أتحب أن أكون جليسك؟ فقال: كيف ذلك يا رب؟ أنت رب العالمين، قال : أما علمت أني جليس من ذكرني، وحيث ما التمسني عبدي وجدني".  وهذا صدّيق الأمة في الغار، قال يا رسول الله : "لو أن أحدهم نظر إِلى قَدَمْيه أبْصَرَنَا. فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!". [متفق عليه] فالله شهيد، والحمد لله أن الله شهيد، والحمد لله على وجود الله، ينجي المحسنين، ويدبر لهم الأمور، ويصلح أحوالهم.

عباد الله: إن أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان، وأن الله -عز وجل- شهيد عليه، لا تخفى عليه خافية، ولا تخفى عليه حركة ولا سكنة؛ إذ هو الشهيد -سبحانه وتعالى-.

إن الله -عز وجل- يشهد للمخلص بإخلاصه، حينما يوفّقه، وحينما يسعده، وحينما يأخذ بيده، فالمؤمن حيال هذا الاسم العظيم: الشهيد، ينبغي أن يكون دقيقًا في فهمه، كما أن الله -سبحانه وتعالى- لا تغيب عنه شاردة، ولا واردة، فإذا كنت أنت مدير مؤسسة، مدير مستشفى، مدير جامعة، مدير مدرسة، صاحب شركة، ينبغي أن تكون دقيقًا في جمع الحقائق، ينبغي أن تعلم كل شيء، ينبغي أن تدير هذا العمل إدارة ذكية، ينبغي أن تعرف من حولك، وأن تجمع الحقائق اليقينية، وأن تبني على هذه الحقائق القرار المناسب،  فهذا من تطبيقات اسم "الشهيد" في حياتنا.

وينبغي لك -يا عبد الله- أن تتقرب إلى الله بكل كمال مشتق من صفاته -سبحانه وتعالى-، ومن ذلك أن تكون شهيدًا مراقبًا لكل ما أمرك الله أن تراقبه وترعاه، فلو أن أبًا لا يدري ما يجري في البيت، البنت غابت لا يعلم أين هي؟، عند إحدى صديقاتها، هكذا قالت، لا يعرف أين ابنه، لا يعرف ماذا يجري في غيبته في منزله، ومن يدخل ومن يخرج؟، هذا ليس بأبٍ، الله -عز وجل- شهيد، لا تغيب عنه شاردة ولا واردة، والمؤمن إذا أدار عملاً ينبغي أن يستقصي الحقائق، والمعلومات الدقيقة، وأن يبني على هذه المعلومات القرار، أما أن يتخذ قرارًا بلا دراسة، بلا معلومات، هذا ليس من شأن المرء المؤمن العاقل.

عباد الله: راقبوا ربكم، وعظّموه في أنفسكم أن يراكم على ما لا يحب، وأخلصوا له العمل, بروا آباءكم، وصلوا أرحامكم، وأحسنوا إلى جيرانكم، وأتقنوا أعمالكم، واستغفروا ربكم إذا أذنبتم، فربنا -سبحانه- هو الشهيد الذي لا يخفى عليه شيء.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين