العربية
المؤلف | صالح بن مقبل العصيمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
فَيَا مَنْ يَئِسَ مِنْ بَعْضِ أُمُورِ دِينِهِ؛ فَظَنَّ بِأَنَّ الأَبْوَابَ مُغْلَقَةٌ، وَالطُّرُقَ غَيْـرَ سَالِكَةٍ؛ أَبْشِرْ وَأَمِّلْ خَـيْـرًا؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْفَتَاحُ، الَّذِي يَفْتَحُ الأَبْوَابَ الْمُغْلَقَةَ الْمُسْتَعْـصِيَةَ عَلَى الْـخَلْقِ، وَيُيَسِّرُ لَـهُمُ الطُّرُقَ غَيْـرَ السَّالِكَةِ، فَمَفَاتِيحُ الْـخَيْـرِ كُلُّهَا بِيَدِهِ، وَمَغَالِيقُهُ كُلُّهَا بِيَدِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ رَدَّ أَمْرِهِ أَحَدٌ؛ فَمَا شَاءَ كانَ، وَمَا لَـمْ يَشَأْ لَـمْ يَكُنْ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعَ، فَلَو فَتَحَ اللهُ تَعَالَى الْمَطَرَ عَلَى النَّاسِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَـحْبِسَهُ عَنْهُمْ؟ وَلَو حَبَسَهُ عَنْـهُمْ لَمَا اِسْتَطَاعُوا أَنْ يَفْتَحُوا مَا أَغْلَقَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ...
الخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الحمدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ.. فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ: نَقِفُ الْيَوْمَ مَعَ اِسْمٍ مِنْ أَسْـمَاءِ اللهِ الْـحُسْنَـى، وَكُلُّ أَسْـمَـائِهِ حُسْنَـى، نَقِفُ مَعَ اِسْمِ اللهِ الْفَتَّاحِ.
وَكَذِلكَ الفَتَّاحُ مِنْ أَسْمَائِهِ | والفَتْحُ في أَوْصَافِهِ أَمْرَانِ |
فَتْحٌ بِحُكْمٍ وَهْوَ شَرْعُ إِلَهِنَا | والفَتْحُ بالأَقْدَارِ فَتْحٌ ثانِ |
والربُّ فَتَّاحٌ بذَيْنِ كِلَيْهِمَا | عَدْلاً وإِحْسَاناً مِنَ الرَّحْمَنِ |
وَالْـفَتَّاحُ: هُوَ الذِي فَتَحَ بِلطفِهِ بَصَائِرَ الصَّادِقِـيـنَ، وَفَتَحَ قُلُوبَـهُمْ لِمَعْرِفَتِهِ، وَمَـحَبَّتِهِ، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَفَتَحَ لِعِبَادِهِ أَبْوَابَ الرَّحْـمَةِ، وَالأَرْزَاقِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَسَبَّبَ لَـهُمُ الأَسْبَابَ، الَّتِـي يَنَالُونَ بِـهَا خَيـرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَيَفْتَحُ مَا انْغَلَقَ عَلَيهِمْ مِنْ أُمُورِهِمْ وَأَسْبَابِـهِمْ؛ وَانظُرُوا كَيْفَ رَحِمَ اللهُ الْعِبَادَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ فَفَتَحَ عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ هَذِهِ الاستِكْشَافَاتِ الطِّــبِــيَّــةَ، الَّتِـي قَضَتْ عَلَى كَثِيـرٍ مِنَ الأَمْرَاضِ. وَتِلْكُ الاِخْتِـرَاعَاتُ الْعِلْمِيَّةُ الَّتِـي سَهَّلَتْ لَـهُمْ أُمُورَ الْـحَيَاةِ، فَجَمِيعُ أَنْواَعِ الصِّنَاعَاتِ وَالْمُخْتَـرَعَاتِ مَا هِيَ إِلَّا فَتْحٌ مِنَ اللهِ، فَتَحَهَا عَلَى النَّاسِ بِتَيْسِيـرِهِ لِبَعْضِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ.
مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمُخْتَـرَعَاتِ لَوْ سَأَلْتَ مُـخْتَـرِعِيهَا قَبْلَ اختِـرَاعِهِمْ لَـهَا لَـجَاءَكَ الْـجَوَابُ مِنْهُمْ بِأَنْ تِلْكَ الْمُخْتَـرَعَاتِ لَـمْ تَـخْطُرْ عَلَى بَالِـهِمْ فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ، لَكِنَّ الْفَتَّاحَ يَفْتَحُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُمْ مَا فِيهِ رَحْـمَةٌ وَخَيْـرٌ لَـهُمْ؛ قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، فَلَو أَنَّـهُمْ امتثلُوا لأمرِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي السرِّ والعلانِيَةِ؛ لَكانَ مِنْ جَزَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَفتَحَ لَـهُمْ مِنْ رَحْـمَتِهِ، وَأَنْ يُنَزِّلَ عَلَيهِمْ مِنْ فَيضِ رِزْقِهِ: (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
وقَالَ تَعَالَى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) [فاطر: 2]، فَيَا مَنْ يَئِسَ مِنْ بَعْضِ أُمُورِ دِينِهِ؛ فَظَنَّ بِأَنَّ الأَبْوَابَ مُغْلَقَةٌ، وَالطُّرُقَ غَيْـرَ سَالِكَةٍ؛ أَبْشِرْ وَأَمِّلْ خَـيْـرًا؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْفَتَاحُ، الَّذِي يَفْتَحُ الأَبْوَابَ الْمُغْلَقَةَ الْمُسْتَعْـصِيَةَ عَلَى الْـخَلْقِ، وَيُيَسِّرُ لَـهُمُ الطُّرُقَ غَيْـرَ السَّالِكَةِ، فَمَفَاتِيحُ الْـخَيْـرِ كُلُّهَا بِيَدِهِ، وَمَغَالِيقُهُ كُلُّهَا بِيَدِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ رَدَّ أَمْرِهِ أَحَدٌ؛ فَمَا شَاءَ كانَ، وَمَا لَـمْ يَشَأْ لَـمْ يَكُنْ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعَ، فَلَو فَتَحَ اللهُ تَعَالَى الْمَطَرَ عَلَى النَّاسِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَـحْبِسَهُ عَنْهُمْ؟ وَلَو حَبَسَهُ عَنْـهُمْ لَمَا اِسْتَطَاعُوا أَنْ يَفْتَحُوا مَا أَغْلَقَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام: 17]، فَسُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْـخَيْـرُ كُلُّهُ؛ فَلَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ، فَمَا قَدَّرَ اللهُ للعِبَادِ مِنْ رِزْقٍ؛ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَـمْنَعَهُ، وَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ.
• فَالرَّبُّ هُوَ الْفَتَّاحُ الَّذِي يَفْتَحُ لِـخَلْقِهِ خَزَائِنَ جُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَكَافَّةَ أَبْوَابِ الْـخَيْـرِ في مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهْمِ؛ إِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَإِنْعَامًا عَلَيْهِمْ؛ لِيَكُونُوا مِنْ عِبَادِهِ الشَّاكِرِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِيـنٍ، وَلِيَتَعَرَّفُوا عَلَيْهِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ؛ لِيَعْرِفَهُمْ فِي حَالِ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ.
• فَكَمْ مِنْ فَقِيـرٍ مُـعْـدَمٍ؛ أَفَاضَ اللهُ عَلَيهِ مِنْ رِزْقِهِ فَأَغْنَاهُ؛ حَتَّـى حَارَ عَقْلُهُ: كَيْفَ أَصْبَحَ غَنِيًّا بَعْدَ فَقْرِهِ؟!
• وكمْ مِنْ أُسْرَةٍ كَانَتْ فَقِيـرَةً لَا تَكَادُ تَـجِدُ قُوتَ يومِهَا؛ وأَصبَحَتْ صَدَقَاتُـهَا بِالْمَلَايِيـنِ، فَضْلًا عَنْ زَكَوَاتـِها!
• وَكَمْ مِنْ تَاجِرٍ كَسَدَتْ تِـجَارَتُهُ، وَخَسِرَ أَمْوَالَهُ، بَلْ وَدَخَلَ السُّجُونَ بِسَبَبِ الدِّيُونِ الَّتِـي لَـحِقَتْهُ ؛حَتَّـى ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَلَنْ تَقُومَ لَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْـخَسَارَةِ، وَذَلِكَ الاِنْكِسَارِ قَائِمَةٌ؛ فَفَتَحَ اللهُ لَهُ مِنْ أَبْوَابِ رِزْقِهِ وَفَضْلِهِ؛ فَـخَرَجَ مِنَ السِّجْنِ، وَبَاشَرَ تِـجَارَتَهُ، وَعَادَتْ إِلَيْهِ أَضْعَافُ ثَرْوَتُهُ.
• وكمْ مِنْ عَالِـمٍ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ؛ فَأَلَّفَ الْمُؤَلَّفَاتِ الْعِظَامِ، الَّتِـي نَفَعَ اللهُ بِـهَا الأَنَامَ.
• فَهُوَ يَفْتَحُ لِعِبَادِهِ مِنْ أَبْوَابِ الأَرْزَاقِ وَأَسْبَابِـهَا مَا لَا يَـحْتَسِبُونَ. فَخَزَائِنُ اللهِ جَلَّ وَعَلا مَلآى، وَكَمْ مِنْ عَقِيمٍ وَعَاقِرٍ ظُنَّ أَلَّا يُرْزَقَ بِالأَوْلَادٍ؛ فَفَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ وَاسِعِ فَضْلِهِ، وَرَزَقَهُ مِنْ وَاسِعِ عَطَائِهِ! وَكَمْ مِنْ أَيِّـمٍ تَقَادَمَ بِـهَا الزَّمَنُ حَتَّـى ظَنَّ مَنْ ظَنَّ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ لَنْ تُرْزَقَ بِزَوْجٍ؛ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهَا وَرَزَقَهَا بِزَوْجٍ بَلْ وأَوْلَادٍ.
• وَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ أُصِيبَ بِـمَرَضٍ عُضَالٍ، أَعْلَنَ الأَطِبَّاءْ تَوَقُّفَهُمْ عَنْ عِلَاجِهِ، وَاِسْتِسْلَامَهْمْ أَمَامَ مَرَضِهِ، وَيَأْسَهْمْ مِنْ شِفَائِهِ، وَلَا أَمَلَ يُرْجَى عِنْدَهُمْ فِي بُرْئِهِ؛ فَجَاءَ الْفَتْحُ الرَّبَّانيُّ، والأَمْرُ الإِلَـهِيُّ بِأَنْ يُشْفَى! فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ. وَكَمْ مِنْ أَعْمَى يَئِسَ مِنْ عَوْدَةِ بَصَرِهِ؛ فَفَتَحَ اللهُ عَلَى طَبِيبٍ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا؛ فَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ!
• فَهُوَ الذِي يَفْتَحُ عَلَى خَلْقِهِ مَا اِنْغَلَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِهِمْ؛ فَيُيَسِّرُهَا لَـهُمْ، فَخَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بِيَدِهِ، فَاسأَلُوهُ مِنْ كُلِّ خَيْـٍر خَزَائِنُهُ بِيَدِهِ، وَاِسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ خَزَائِنُهُ بِيَدِهِ، فَهُوَ الَّذِي بِرَحْـمَتِهِ يَفْتَحُ كُلَّ مُغْلَقٍ، وَيُزِيلُ كُلَّ مُشْكِلٍ، بِيَدِهِ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، يَفْتَحُ عَلَى الْعُصَاةِ فَيَتُوبُوا.
• فَكَمْ مِنْ عَاصٍ فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ مِنْ أَبْوَابِ مَغْفَرَتِهِ؛ فَتَابَ! وَيَفْتَحُ عَلَى ضَعِيفِ الْفَهْمِ فَيَفْهَمُ، وَعَلَى ضَعِيفِ الْـحِفْظِ فَيَحْفَظُ، وَعَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَغْتَنُوا، وَعَلَى الضُّعَفَاءِ فَيَتَقُووا، وَعَلَى الضَّالِّيـنَ فَيَهْتَدُوا، وَعَلَى الْعَّاقِّيـنَ فَيَبَـرُّوا، وَعَلَى الْقَاطِعِيـنَ فَيَصِلُوا، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ الْـخَيْـرِ كُلِّهِ، وَدُخُولُ الْـجَنَّةِ بِيَدِهِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ بِيَدِهِ، وَوُلُوجُ النَّارِ بِأَمْرِهِ وَعَدْلِهِ.
• كَمْ مِنْ رَجُلٍ تَاهَتْ أَمْوَالُهُ، وَضَاعَتْ؛ حَتَّـى يَئِسَ وَقَنَطَ؛ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، بِدُعَاءٍ؛ فَعَادَتْ إِلَيهِ! وكَمْ مِنْ طَالِبٍ أُغْلِقَ عَقْلُهُ، وَارْتُجَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ؛ حَتَّـى ظَنَّ أَلَّا يَـجْتَازَ اِخْتِبَارَهُ، وَيَتَخَطَّى مَرْحَلَتَهُ؛ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيهِ، فَتَذَكَّرَ وَأحْسَنَ الْـجَوَابَ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْتَحُ لأَرْبَابِ مَـحَبَّتِهِ عُلُومًا رَبَّانِيَّةً، وَأَنْوَارًا سَاطِعَةً، وَفُهُومًا وَأَذْوَاقًا صَادِقَةً.
• وكَمْ مِنْ مَكْرُوبٍ نَفَّسَ عَنْهُ وَفَرَّجَ! وَكَمْ مِنْ مَهْمُومٌ أَزَالَ عَنْهُ حُزْنَهُ!
عِبَادَ اللهِ، اِعْلَمُوا أنَّ للإِيـمَانَ بِاسمِ اللهِ الفَتَّاحِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْـمُسْلِمِ؛ مِنْهَا:
1- الطُّمَأْنِينَةُ والسَّكِينَةُ: فَإِنَّ مَنْ يُؤْمِنُ حَقًّا بِأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي فَتَحَ عَلَيْهِ أَبْوَابَ الرِّزْقِ؛ لَا يَـخَافُ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَسْلُبَ مَا رَزَقَهُ، وَلَا يَـخْشَى مِنْ فَقْرٍ؛ طَالَمَا أَنَّ الْغِنَـى بِيَدِ مَنْ خَزَائِنُهُ مَلآى. فَطَالَمَا أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْفَتَّاحُ؛ فَاطمَئِنَّ وَلَا تَقْلَقْ؛ فَهُوَ الَّذِي يَفْتَحُ الأَبْوَابَ الْمُغْلَقَةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ قَنَطَ النَّاسُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَصَابَـهُمُ الْيَأْسُ. فَمَا عِنْدَ اللهِ لَيْسَ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَمَا بِعِلْمِ اللهِ لَا يَعْلَمُهُ الْعَبْدِ، فَكَمْ جَفَّتْ آبارٌ، وَنَضَبَتْ أَنْـهَارٌ! حَتَّـى قَنَطَ مَنْ حَوْلَـهَا وَيَئِسُوا؛ فَإِذَا بِهِ عَزَّ وَجَلَّ يَفْتَحُ عَلَيْهِمْ مِنْ وَاسِعِ فَضْلِهِ، فَيُعِيدُهَا أَنْـهَارًا، وَيَـجْعَلُ مَا حَوْلَـهَا مُرُوجًا.
2- وَمِنَ الآثَارِ الطَّيِّبَةِ: تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِاللهِ وَحْدَهُ: فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أنْ يَنْفَعَ الْعِبَادَ؛ فَلَا ُقُوَّةَ تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ، وَلَا يَـحُولُ أَحَدٌ بَيْـنَ أَمْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَقُوَى الأَرْضِ جَـمِيعًا عَاجِزَةٌ أَنْ تَرُدَّ أَمْرَهُ، أَوْ أَنْ تَفْتَحَ مَا أَغْلَقَهُ، أَوْ أَنْ تُغْلِقَ مَا فَتَحَهُ سُبْحَانَهُ. فَمَا الْبَشَرُ إِلَّا أَسْبَابٌ، فَلَا يَسْتَطِيعُ كَائِنٌ مَنْ كَانَ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا إِلَّا بِتَدْبِيـرِهِ؛ قَامَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الصَّفَا، فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
فَإِذَا كَانَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْنَعَ لأَهْلِهِ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللهِ؛ فَكَيفَ بِغَيْـرِهِ؟! لِذَلِكَ يُعَلِّقُ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- قُلُوبَـهُمْ بِاللهِ. وَأَمَّا مَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِفُلَانٍ كَيْ يَرْزُقَهُ؛ فَسَيَظَلُّ طُوَالَ حَيَاتِهِ قَلِقًا مُضْطَرِبًا؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ لَا يُـحِبُّ الإِنْفَاقَ، فَيُقَتِّـرُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى غَيِـرِهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) [الإسراء: 100].
3- وَمِنْ آثَارِ اِسْمِ الفَتَّاحِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رَبِّهِ قَبْلَ الأَخْذِ بالأَسبَابِ، وَأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ وَحْدَهُ مَفَاتِحَ الْـخَيْـرِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِـحُسْنِ تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، وَرُكُونِهِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَـحْذَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْهِ، قَامَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَـرِ فَقَالَ: "إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، وَلِـجَمِيعِ الْمُسْلِمِـيـنَ فَاِسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْـخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أمَّا بَعْدُ.. فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
4- عِبَادَ اللهِ، وَمِنْ آثارِ الإِيـمَانِ بِاسمِ اللهِ الْفَتَّاحِ؛ أَنْ يُوقِنَ الْـمُسْلِمُ أَنَّ الْفَتْحَ وَالنَّصْرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَهُوَ يَفْتَحُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، بِالنَّصْرِ، وَقْدْ نَسَبَ اللهُ تَعَالَى الْفُتُوحَ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِــيُنَبِّهَ عِبَادَهُ إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ مِنْهُ، لَا مِنْ غَيْـرِهِ، لِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1]، وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) [المائدة: 52]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف: 13]، إِذًا، فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِلَّا أنْ نَـجْتَهِدَ وَنَأخُذَ بِالَأسْبَابِ، أَمَّا النَّصْرُ فَهُوَ مِنْ عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
5- وَمِنْ آثَارِ الإِيـمَانِ بِذَلِكَ الاسمِ الْعَظِيمِ: تـَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ والْمُتَابَعَةِ للنَّبِـيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- بِالثَّقَةِ بِاللهِ.
6- وَمِنْ آثارِ الإِيـمَانِ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْفَتَّاحُ: مَا يُـحَصِّلُهُ بَعْضُ الْعِبَادِ مِنَ الأُجُورِ الْعَظِيمَةِ بِالأَعْمَالِ الْقَلِيلَةِ، وَذَلِكَ مِنْ تَوفِيقِ اللهِ لَـهُمْ، وَفَتْحِهِ عَلَيهِمْ، فَيَحْفَظُونَ جَوَامِعَ الدُّعَاءِ، وَالأَدْعِيَةَ عَظِيمَةَ الأَجْرِ، وَيَغْــتَنِمُونَ الْمَوَاسِمَ عَظِيمَةَ الأَجْرِ؛ كَليلَةِ القَدْرِ، وَعَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ؛ فَيَحْصُدُ فِي سُوُيعَاتٍ قَلِيلَةٍ مَا قَدْ يَعْجَزُ غَيْـرُهُم عن تـحصيله فِي سَنَوَاتِ كَثِيـرَةٍ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظِيمِ، فَمَنْ وُفِّقَ لِـجَوَامِعِ الدُّعَاءِ، وَاِغْتِنَامِ مَوَاسِمِ الْـخَيْـرِ؛ فَذَلِكَ فَتَحٌ مِنَ اللهِ عَلَيْهِ.
الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ.
الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، ونَسْتَعِيذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ .وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..