اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
في يوم القيامة يكون الناس فريقان؛ فريق في جنةٍ عرضها السماوات والأرض وفريق في النار، فيا حسرة وندامة من أدخله الله النار! ويا لبشرى من زحزحه الله عنها وأدخله الجنة!!..
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل في كتابه الكريم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)[غافر:40]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الجنة وجعلها درجات، بين كل درجتين منها كما بيننا وبين الكوكب الدري في السماء، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأطيعوا الله وأطيعوا رسوله.
معاشر المسلمين: إنَّ الجنة خلقها الله لعباده المؤمنين الذين أطاعوه وأطاعوا رسله -عليهم الصلاة والسلام-؛ جنة أعدَّها الله للمتقين وأمرهم بالمسارعة إلى طلب المغفرة والجنة؛ قال -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:133-134]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- عند قوله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)[آل عمران:133]، معناه: "بادروا إلى التوبة التي هي سبب المغفرة"(تفسير السمعاني1/357).
عباد الله: لقد أعدَّ الله الجنة لعباده الصالحين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ اللهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)"(أخرجه الشيخان)، في يوم القيامة مَن الناس آخِذ كتابه بيمينه وآخِذ كتابه بشماله، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الحاقة:19-24].
فمن أخذ كتابه بيمينه فأيُّ فوز فازه وأيُّ نعيم حصَّله وأيُّ سعادة رُزقها، يفرحُ ويُسرُّ ويقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه، فوزٌ ما بعده فوز، وفلاحٌ ونجاحٌ، في عيشةٍ راضية، كيف لا يكون كذلك، وربُّه برحمته سيُدخله جنة عالية لا موت فيها ولا بأس ولا خوف ولا حزن، بل فيها والأمنُ والفرحُ والرضا، وهذا الذي أخذ كتابه بيمينه، لم يأخذه إلا لأنَّه أطاع الله في الدنيا واتقاه، وفعل ما أمره به وانتهى عما نهاه عنه، فعبَده وحده ولم يشرك به شيئاً، وأقام الصلاة في مواقيتها في المسجد، وأدَّى زكاة ماله لمستحقها وتصدق نافلة زيادة على ذلك، وصام رمضان وحج بيت الله الحرام، وأحسن إلى الناس وصلى نافلة من سنن رواتب ومن قيام ليل، وحفظ لسانه وسمعه وفرجه عن الحرام (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[الذاريات: 15-19].
معاشر المسلمين: اعلموا أنَّ أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كلهم يدخلون الجنة إلا من أبى، عجيبٌ أمر ذلك الذي يأبى دخول الجنة، فمن هو ولماذا يأبى! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى"(أخرجه البخاري) فمن أطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يعصه ولم يَرُدّ شيئاً من سُنّته فهو الذي يدخل الجنة.
عباد الله: في يوم القيامة يكون الناس فريقان؛ فريق في جنةٍ عرضها السماوات والأرض وفريق في النار، فيا حسرة وندامة من أدخله الله النار ويا لبشرى من زحزحه الله عنها وأدخله الجنة (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران:185]، الذين يعملون في ديناهم لآخرتهم يعلمون أنَّ متاع الدنيا غرَّار، وأنها دار امتحان واختبار، وأنها فانية؛ فهم لا يأكلون إلا حلالاً فلا هم يرابون ولا يأكلون أموال غيرهم ظلماً ولا يطلبون إلا المكاسب الطيبة التي لا شبهة فيها ولا شائبة، ويحفظون فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فلا هم يزنون ولا إلى الحرام ينظرون، وعلى البلاء يصبرون، وعند السرَّاء يشكرون، ويذكرون الله كثيراً، يبرُّون بآبائهم وأمهاتهم، ويصلون أقاربهم وجيرانهم، ويحسنون إليهم ويُصدِّقون بوعد الله لهم (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 72].
هنيئاً لأهل الجنة عندما يبشَّرون بها (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[الحديد:12]، وهنيئًا لهم عندما يُساقُون إليها: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[الزمر:73-74].
وهنيئاً لهم عندما يقال لهم: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[الأعراف: 49]؛ فهم فيها آمنون مطمئنون فَرِحُون، يُحلَّون فيها بأساور الذهب والفضة ويلبسون حريراً، عاليَهم ثياب سندسٍ خضرٌ واستبرق (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)[الحج:23-24]، وقال -تعالى-: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)[الإنسان:21].
عباد الله: لقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من صفات أهل الجنة؛ فمنهم الإمام العادل المتصدق، ومنهم صاحب القلب الرحيم، يرحم قرابته ويرحم المسلمين، والعفيف المتعفف، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ"(أخرجه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ"(أخرجه الشيخان).
معاشر المسلمين: إنَّ للجنة أبواباً ثمانية، وأول من يُفتح له باب الجنة هو نبينا -صلى الله عليه وسلم- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ"(أخرجه مسلم).
وأول أمة تدخل الجنة هي أمته -صلى الله عليه وسلم- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ"(أخرجه مسلم).
ومن صفة تربة الجنة -يا عباد الله- ما رواه أبو سعيد -رضي الله عنه- أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ، سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: "دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ مِسْكٌ خَالِصٌ"(أخرجه مسلم)، والمعنى: "أنَّ ترابها دقيق أبيض رائحته مسك خالص"(ينظر شرح النووي على مسلم 18/ 52، وينظر تهذيب اللغة 10/ 233).
وفي الجنة من النعيم ما ورد وصفه في القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ففي الجنة بيوت وقصور وخيام واسعة وأنهار وحدائق وجنات ألفافًا، وفيها كؤوس الشراب الطيب المذاق، وفيها ثمار دانية وطيور لحمها أطيب اللحم، وفيها الأشجار ذات الظلال والثمار الطيبة، سدر وطلح وعنب وفاكهة ونخيل ورمَّان، وفيها حورٌ عينٌ قاصراتُ الطرف، خيراتٌ حسانٌ، كواعبٌ أتراب، أبكارٌ مثل اللؤلؤ المكنون، كأنهنَّ الياقوت والمرجان، زوجاتٌ طاهراتٌ عفيفاتٌ، جمالهنَّ يفوق الوصف، يُرى مخُّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"(أخرجه البخاري).
وأهل الجنة -يا عباد الله-: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)[الواقعة:17-21]؛ يتكئون على أَسِرَّة مصفوفة متقابلين، (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)[الطور: 20].
جعلني الله وإيَّاكم ووالدينا من أهل الجنة، وسنواصل الكلام عن الجنة ونعيمها في الجمعة القادمة إن شاء الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.