العربية
المؤلف | سالم بن محمد الغيلي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
الآجال قاضية، والآمال فانية، ولكلٍ أجل محتوم، وأمر مقسوم. لم نخلق للبقاء في الدنيا، وإن تراخى العمر، وامتد المدى، ودام الخير، وتُلذذ بالعافية والستر والقوة؛ لابد من الرحيل، والرجوع إلى الله، والوقوف بين يديه، وملاقاة الحساب، وأخذ الكتاب. نرى...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم ما سُجد للرحمن، وما تلي القرآن، وما طلع النيران، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 10]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[الأحزاب: 70].
عباد الله:
ولابد من موت ولا بد من بلى | ولابد من بعث ولا بد من حشرِ |
وإنا لنبلى ساعة بعد ساعة | على قدر لله مختلف يجري |
ونأمل أن نبقى طويلاً كأننا | على ثقة بالأمن من غِير الدهرِ |
الآجال قاضية، والآمال فانية، ولكلٍ أجل محتوم، وأمر مقسوم: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34[
نموت جميعاً كلنا غير ماشكِّ | ولا أحد يبقى سوى مالكِ الملكِ |
(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88]، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27].
كان النبي ولم يخلد لأمته | لو خلد الله خلقاً قبله خلدا |
للموت فينا سهام غير خاطئةٍ | من فاته اليوم سهم لم يفته غدا |
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء: 34- 35].
اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي | وغداً تموت وترفع الأقلام |
لم نخلق للبقاء في الدنيا، وإن تراخى العمر، وامتد المدى، ودام الخير، وتُلذذ بالعافية والستر والقوة؛ لابد من الرحيل، والرجوع إلى الله، والوقوف بين يديه، وملاقاة الحساب، وأخذ الكتاب.
نرى الناس يتغيرون عاماً بعد عام، الشباب يهرم، والصحيح يسقم، والقوي يضعف، والجمع يتشتت، وهكذا... يموت الكبير، ويموت الصغير، ويموت القوي، ويموت الضعيف، ويموت الرئيس، ويموت المرؤوس.
ساعة الموت لابد منها، حتى لو غفلنا أو نسينا أو تناسينا، حتى لو غرتنا الصحة والشباب والغنى، حتى لو طال الأمل، ولو اشغلتنا المشاغل، ستأتي ساعة الموت جربها من مات ولم يجربها الأحياء.
أصعب ساعة ولحظة يمر بها الإنسان ساعات الضيق ولحظات الكرب التي يمر بها الإنسان في حياته كلها لا تساوي ساعة الموت، وفراق الدنيا والأحبة.
ساعة ما جربناها ولا وقعنا فيها، ولا ندري متى تكون.
ساعة، ولكنها تختلف من شخص لآخر، فأهل الصلاة، أهل المساجد، أهل الخير والطاعة والتقوى لا خوف عليهم فيها، ستأتي أعمالهم تحيط بهم وترافقهم وتؤنسهم وتواسيهم، تكون معهم ساعة الاحتضار وفي القبور ويوم القيامة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) في ساعة الموت تقول لهم وتطمئنهم (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ)[فصلت: 30-32].
وأما من فرط وبارز الله بالمعاصي وغفل عن تلك الساعة فلا تسأل عنه، قالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ علَى أعْنَاقِهِمْ، فإنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وإنْ كَانَتْ غيرَ صَالِحَةٍ قالَتْ: يا ويْلَهَا، أيْنَ يَذْهَبُونَ بهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شيءٍ إلَّا الإنْسَانَ، ولو سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ"(صحيح البخاري).
ما أقسى قلوبنا؟ أين نحن من تلك الساعة؟ أين مكانها في قلوبنا وفي أعمالنا وفي أقوالنا وفي تصرفاتنا وفي علاقاتنا؟ أين هي هل على قلوبنا حجاب أم غَشَ؟ أم على أعيننا كَمَة أم عَشى؟
من رأى غفلتنا وتصرفاتنا وصدودنا وأعمالنا، يقول: هؤلاء لا يؤمنون بالموت ولا القيامة، يقول هؤلاء يسعون للخلود في الدنيا.
مات من هو أشرف منا وأقوى، وأكثر أموالاً وأولاداً وجيشاً وعسكراً، كانت مفاتيح قارون لا تستطيع حملها عصبة الرجال، فظن أنها ستخلده على الدنيا، وما شكر المنعم، وفجأة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)[القصص: 81].
وكان فرعون يقول: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري، وظن أن ملكه ملك الخلود والقعود، وفجأة: (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا)[الإسراء: 103]، (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)[الدخان: 25-29].
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحسن ختامنا وعاقبتنا، وأن يجيرنا من الغفلة والنسيان والعصيان.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحب ربنا ويرضى.
عباد الله: إذا ذكرنا ساعة الموت فإن ذكرها لا يقرب الأجل ولا يبعده، لكن ذكرها يحي القلوب، ويبعد الغفلة، ويحث النفوس على اغتنام العمر، وساعاته ودقائقه.
اغتنامها في الطاعة، في الزرع للآخرة، في الاستعداد لتلك الساعة، فإنه لابد منها سواءً تذكرناها أم غفلنا عنها: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النساء: 77]، (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 64].
إن ثمرة الاستماع الاتباع، فلنكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
إننا نعجب من غفلتنا عن تلك الساعة لا نجد من يذّكرنا لا في المساجد ولا في الاجتماعات والمناسبات ولا في المجالس، جميع حديثنا عن السياسة وعن وسائل التواصل وعن العقارات والملذات والاسفار، أما ساعة الموت فلا تذكر ولا يُذكر بها غفلة، والله حذرنا من الغفلة: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يونس: 7-8]، (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28]، (وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)[الأعراف: 205].
اللهم وفقنا لهداك، واجعل أعمالنا في رضاك.
اللهم إنا نعوذ بك من الغفلة والإعراض ونسيان الآخرة.
اللهم ثبت قلوبنا على طاعتك، وعلى دينك، وعلى هدي نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
صلوا وسلموا...