المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - الدعوة والاحتساب - الأديان والفرق |
ومذهب أهل السنة ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدَّر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: الإِيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإِيمان الستة، وقد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وإجماع سلف الأمة على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة، التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها، كما دلت على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة مستفيضة بل متواترة عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. منها ما قاله -صلى الله عليه وسلم-: "الإِيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(رواه مسلم).
ولا يتم إيمان العبد حتى يؤمن بالقضاء والقدر؛ بمعنى التصديق الجازم بأن كل ما يقع من الخير والشر فهو بقضاء الله وقدره، وأن جميع ما يجري في الآفاق والأنفس من خير أو شر فهو مقدر من الله، ومكتوب قبل خلق الخليقة، وكل شيء بإرادة الله -تعالى- ولا يخرج عن مشيئته في الأرض ولا في السماء، ولو أراد الله أن يعبده كل خلقه ما عصاه أحد، بيده كل شيء يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[الحديد:22-23]، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[القمر:49]، فهو -سبحانه- لا يخرج عن إرادته وسلطانه شيء، ولا يصدر شيء إلا بتقديره وتدبيره -سبحانه-، ولا يسأل عما يفعل؛ وذلك لكمال حكمته وقدرته وعظيم سلطانه.
قال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "الإِيمان بالقدر: هو أن تؤمن بتقدير الله -عز وجل- للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله -عز وجل- قدَّرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم؛ فالعلم سابِق على الكتابة".
وقد ورد الوعيد الشديد في إنكار القدر، وأن إنكاره كفرٌ مخرِج عن الملة، وجاءت أحاديث كثيرة في ذمّ القدرية، وأنهم مجوس هذه الأمة؛ فعن ابن عمر مرفوعًا: "القدرية مجوس هذه الأمة، وإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم"(الألباني).
ورُوِيَ من حديث حذيفة: "لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدَر"، يعني أن الأمر مستأنَف، لم يسبق به قدَرٌ ولا علمٌ من الله، وإنما يعلمه بعد وقوعه، ومذهب أهل السنة ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الله خالقُ كل شيء، وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدَّر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة.
عباد الله: يجب على العبد الإيمان بمراتب القدر الأربع التالية:
الأول: العلم؛ وذلك بأن يؤمن بأن الله -سبحانه- علم كل شيء جملة وتفصيلاً، فعلم ما كان وما يكون، وعلم أحوال العباد وأرزاقهم وآجالهم وغير ذلك من شئونهم، قال -تعالى-: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[الأنعام:59].
الثاني: الكتابة؛ كتابته -سبحانه- لكل ما قدَّره وقضاه في اللوح المحفوظ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحج:70]
الثالث: المشيئة؛ الإِيمان بمشيئته النافذة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال -تعالى-: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)[الأنعام:112] وقال -تعالى-: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس:82].
الرابع: الخلق؛ خلقه -سبحانه- لجميع الموجودات، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، فهو الخالق المدبِّر، ذو القوة والسلطان (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الزمر:62]، فالله -تعالى- علم الأشياء كلها قبل وجودها، وكتبها عنده، وشاء ما وجد منها، وخلق ما أراد خلقه.
قال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أُحُد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر"، ثم استدل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(رواه مسلم).
فقد بيَّن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن مَن أنكر القدَر، لا تُقبل منه أعماله ولو أنفق مثل جبل أُحُد ذهبًا في سبيل الله؛ لأن الله -سبحانه- لا يقبل الأعمال إلا من المؤمن.
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإِيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، يا بني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من مات على غير هذا فليس مني"(صححه الألباني).
عباد الله: إن القلم هو أول شيء خلقه الله قبل السموات والأرض، فأمره الله -سبحانه- أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا دليل على شمول علم الله وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق:12]
وفي رواية لابن وهب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار". بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الوعيد الشديد لمن أنكر القدر، واستحقاقه النار والعياذ بالله.
عباد الله: وفي المسند، والسنن عن ابن الديلمي، قال: "أتيت أبيَّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يُذهبه من قلبي. فقال: لو أنفقت مثل أُحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار". قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت؛ فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-"(رواه الحاكم).
يخبر ابن الديلمي -رحمه الله- أنه حدث في نفسه إشكال في أمر القدر فخشي أن يُفسد عليه دينه، فذهب ليسأل بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينوا له: "أنه لو أنفق مثل جبل أُحُد ذهبًا في سبيل الله؛ ما قبله الله منه حتى يؤمن بأن جميع الأمور كائنة بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ما قدر من الخير أو الشر فلن تجاوزه إلى غيره، وما لم يُقَدَّر عليه فلن يصيبه، وأن مَن مات على غير هذا كان من أهل النار".
وفي هذا الأثر دلالة على أنه ينبغي للمؤمن أن يسأل أهل العلم عما أشكل عليه؛ عملاً بقوله -تعالى-: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[النحل:43]
قال أحمد: "القدر: قدرة الرحمن"، وقال شيخ الإِسلام: "يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله، وأنه يتضمن إثبات قدرة الله على كل شيء".
عباد الله: من ثمرات الإِيمان بالقضاء والقدر:
الطمأنينة للقلب: لأن المؤمن بالقدر يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
والثاني: منع إعجاب المرء بعمله؛ لأن الله هو الذي منَّ عليه وقدره له وأعانه عليه.
الثالث: ثباته وصبره وعدم تسخُّطه على ما أصابه من الأقدار المؤلمة؛ لأنه يعلم تدبير العليم الحكيم.
فالواجب على العبد الإِيمان بالقدَر خيره وشره؛ لأنه ركن من أركان الإِيمان الستة، ومن أنكرها فقد كفر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله ووصف بعض العلماء القدر فقالوا: "إنه سر من أسرار الله، وهو كذلك لم يُطِلع الله عليه أحدًا؛ لا ملكًا، ولا نبيًّا مرسلاً؛ إلا ما أوحاه الله -عز وجل- إلى رسله، أو وقع فعلم به الناس، وإلا فإنه سر مكتوم"، قال -تعالى-: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا)[لقمان:34] الآية.
وإذا قلنا: إن القدر سرٌّ مكتوم؛ فإن هذا القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته؛ لأننا نقول لهذا الذي عصى الله -عز وجل- وقال: "هذا مقدر عليَّ" ما الذي أعلمك أنه مقدَّر عليك حتى أقدمت؟!؛ أفلا كان الأجدر بك أن تُقدِّر أن الله -تعالى- قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة؛ لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك؟
يوقن المسلم بأن كل ما يجري من أحداثٍ إنما يقع بقضاء الله وقدره (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحديد:22]، فما شاء الله كان وما لم يشأ الله لم يكن.
ثمّ المؤمنُ يعلم أنه لا مصيبةَ في الإنسان في نفسه ولا في أمته إلاَّ والمصائبُ سببُها الذنوبُ والمعاصي فلا ينسب الشرور إلى الله، قال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى:30]، وقال: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا)[الروم:41] أي: لا كلّه، وقال: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)[فاطر:45]، فالشر لا يُنسَب إلى الله؛ لأن ما يجرِي فبِذنوب العِباد، ولا يرفَع البلاءَ إلاَّ التوبةُ والندمُ والاستغفار واللجوءُ إلى الله.
إنَّ كلَّ مسلم حقًّا يسعَى فيما يُصلح دينَه ودنياه، ويبحَث عن الحقِّ أين هو فيسلكُه، والباطلِ فيبتعد عنه، ولا ينخدع ويغترّ، ولا يلجّ في باطله ويستمرّ في أخطائه، فإنّ المسلمَ كلَّما استبان له طريق الرّشد سعَى إليه، كلّما تبيَّن الهدى اتَّبعه، وهذا من الفهم السليم لموضوع القدر، نسأل الله أن يرضينا بقضائه ويبارك لنا في قدره.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
المصدر: ما جاء في منكري القدر للشيخ د. عبد الملك بن محمد القاسم