الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ليس في الوجود لذة أعظم من لذة الأنس بالله -تعالى-، ولا لوعة أحر من لوعة الشوق إليه، وكل لذة حُدِّثتَ بها، أو تلذذت بها، فلتعلم أنها لا تعدل لذة الأنس بالله -جل جلاله-؛ فلذة الأنس به...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأحبة في الله: ليس في الوجود لذة أعظم من لذة الأنس بالله -تعالى-، ولا لوعة أحر من لوعة الشوق إليه، وكل لذة حُدِّثتَ بها، أو تلذذت بها، فلتعلم أنها لا تعدل لذة الأنس بالله -جل جلاله-؛ فلذة الأنس به فوق ما جربتَ، وأكبر مما تظن.
والأنس بالله -تعالى- حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة الرحمن، والشوق إلى لقائه, قال أحد السلف: "مساكين أهل الدنيا, خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها, قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: "محبة الله, والأنس به, والشوق إلى لقائه, والتنعم بذكره وطاعته".
إن قلب المستأنس بالله يسيح في حياة أخرى، فهو لله وبالله ومع الله وإلى الله؛ فبِرِبّك من كان الله معه فممَّ يخاف؟! ولمَ يستوحش؟!
قال إبراهيم بن أدهم: "أعلى الدَّرجات أنْ تنقطعَ إلى ربِّك, وتستأنِسَ إليه بقلبِك, وعقلك, وجميع جوارحك حتى لا ترجُو إلاَّ ربَّك, ولا تخاف إلاَّ ذنبكَ، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تُؤْثِرَ عليها شيئاً, ويكونُ ذكر الله عندكَ أحلى مِنَ العسل, وأحلى من المَاء العذبِ الصَّافي عند العطشان في اليوم الصَّائف". وقال الفضيل: "طُوبى لمن استوحش مِنَ النَّاسِ, وكان الله جليسَه".
عبد الله: لقد كنتَ تسمع بمن يقوم أكثرَ الليل أو نصفه أو ثلثه، ولعلك تساءلت: أي قوة عند هؤلاء؟! ألا يملّون ويتعبون؟! كلا؛ لأن سرّ المسألة في شعور خفي لا تراه أنت كما يرونه، ولا تستشعره كما يستشعرونه؛ إنه أُنسهم بالله الذي أنساهم ألم أقدامهم، بل جعل للألم لذة! فهم في سعادة لو يعلم بها الأثرياء لاسترخصوا في سبيلها كل ثمن.
لقد كنا نسمع تلك المقولة المشهورة عن علماء السلف فنُعظِّمُها ونصنفها في دائرة المبالغات، وهي قولهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف"، وإنما نستكثر ذلك ونستعظمُه لأننا لم نذُق تلك اللذة الإيمانية التي لم ينلها إلا أفذاذ الصالحين.. ولكنها حتماً ليست بلذة متصلةٍ بالمال ولا بالجاه ولا بالملك في شيء. إن الذي عندهم وليس عند أولئك الكبراء والسادة هو الأُنس بالله، فهم في حياة سعيدة.
أهل الأنس بالله والمشتاقون إلى لقائه قومٌ جعلوا من أوامر الله بالمسارعة والمسابقة إلى الخير منهجاً يومياً حتى "لو قيل لأحد هؤلاء: إن الساعة ستقوم غداً ما زاد في عمله شيئاً", وليس ذلك عن زهد في الطاعة، ولا عن تثاقل في العبادة؛ ولكن لأنه لم يعُدْ في وقت أحدهم متسعٌ لمزيد طاعة، فقد استغرقت الطاعة أوقاتهم كلها, فهم يتنقلون ما بين صلاة وذكر وتلاوة وصدقة وقضاء لحوائج الضعفاء وتفريج للكروب ومشروعات عظمى في الإحسان إلى الخلق صلةً وبراً.
أيها الإخوة: الأنس بالله نعمةٌ مَن رُزِقَها فقد رُزِقَ أعظم الفضل في الدنيا، لكنْ لتحقيق هذه النعمة أسبابٌ جعلها الله حقاً مبذولاً مشاعاً بين الخلائق, من ذلك:
مراقبة الله؛ فمنزلة المراقبة إذا تحققت في العبد حصل له الأنس بالله تعالى؛ وذلك أنه إذا حصلت المراقبة يحصل القرب من الرب -سبحانه-، والقرب منه -جل وعلا- يوجب الأنس
كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:" والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة.. وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب، فكلما كان القلب من ربه أقرب كان أنسه به أقوى، وكلما كان منه أبعد كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد".
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعليقًا على حديث-: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ": فهذان مقامان:
أحدهما: الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه.
والثاني: أن يعمل العبد على مشاهدة الله بقلبه، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان.. ويتولد عن هذين المقامين: الأنس بالله، والخلوة لمناجاته وذكره، واستثقال ما يشغل عنه من مخالطة الناس والاشتغال بهم".
تحقيق مقام المشاهدة والمعاينة لآثار أسمائه وصفاته في الكون؛ ومبدؤه التعبد بمقتضى أسمائه تعالى وصفاته، بعد التفهم لمعانيها بحيث يتنور قلبه، فيحصل الأُنس بالله تعالى؛ فهذا الأنس ثمرة من ثمرات معرفة أسماء الله وصفاته, قال ابن القيم: "هذا الأنس المذكور مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها، كاسم الجميل، والبر، واللطيف، والودود، والحليم، والرحيم، ونحوها".
التقرب إلى الله بالطاعات والبعد عن المعاصي؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: "فكل طائع مستأنس، وكل عاصٍ مستوحش", قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة؛ لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين، فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسارة المستوحشين".
قيل للعابد وهيب بن الورد -رحمه الله-: "هل يجد طعم العبادة من يعصيه؟ قال: لا، ولا من يهمّ بالمعصية".
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية". ولأجل ذلك كان السلف الصالح الكرام يتشوّقون إلى فعل الطاعات، ويحرصون على تقديم القربات، ولا يسأمون من العبادات لأُنسهم برب البريات.
الزهد في الدنيا وعدم التعلق بها؛ فمن تيقّن أن الدنيا إلى زوال، ونعيمها مهما طال إلى خراب، خفّ تعلق القلب بها، ومن عرف أن راحة النفس في تعبها، وأن عزها في إذلالها لربها، وأن سعادتها في قربها من ربها، وأن حياتها الحقة إنما هي بعد موتها، من عرف هذا وذاك، عرف أن لذته وسعادته في روحانية قلبه وقربه من ربه، فيأنس بذكره ويعظِّم أمره.
أيها الإخوة: والأنس بالله له بركاته في الدنيا قبل الآخرة، فهو يُورِث الرضا بقضاء الله، واطمئنان القلب لأقداره، والمناعة من الفزع والجزع عند المصائب؛ فأهل الأنس بالله هم أرضى الناس بقضاء الله وقدَره، يمضي فيهم كما يمضي في غيرهم؛ ولكنَّ الفرق في التلقي والأثر؛ يتلقون مصائب الدهر وكروبه بتسليم وصبر والتجاء إلى الله، فإذا أصابتهم مصيبة قالوا: "إنا لله وإنا إليه راجعون". وإذا اشتدت بهم الكروب تذكروا قوله تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87], فقلوبهم موصولة بالله، يشعرون بنفحاته المحيية، فهم لا ييأسون من روْح الله ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق, وهم في طمأنينة من ثقتهم بمولاهم، ولو في مخانق الكروب ومضايقها.
عباد الله: إن مفهوم الوحشة والشعور بالغربةِ مفهوم مغلوط يجب أن يُصحَّح، فأكثر الناس يتوهمون أن هذا شعورٌ لا يكون إلا بفقد الناس، أو بالإقامةِ في منأى عنهم، ويكفي في تخطئة هذا أن بعض الناس يشعر هذا الشعورَ الجالب للكآبة والضجر وهو لم يزل في مخالطة الناس كأشد ما تكون المخالطة، وقد تجد من لا يشعر بالكآبة والوحشة مع أنه في أغلب وقته معتزلٌ لمجتمعات الناس.
ذلك أن الوحشة الحقيقي هو فراغ القلب من محبة الله والأنس به، وأن الغربة الحقيقة هي غربة الروح.
إن المرء ليفتقد الأنس أحياناً، وهو في حشود الناس، ثم يجد تمام الأنس في وحدته يناجي ربه ويستغفره ويدعوه، ويتلو كتابه، ويتفكر في ملكوته.
وقد يُعزَّر المرء بالحبس الانفرادي؛ فيجد في ذلك أعظم الألم وأشد التعزير، ولكن المؤمن يجد في خلوته حلاوةَ الأنس بالله لا يجدها في مجتمع الناس, ورحم الله ابن تيمية حين قال: "إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة"، وكما يقول ابن القيم: " في القلب شعت لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنس بالله".
أقول ما سمعتم وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى, وصلاةً وسلامًا على عبده المصطفى, وآله وصحبه ومن اقتفى, وبعد:
عباد الله: فإن أعظم العبودية عبوديةُ القلب حين تُصرف لله وحده لا شريك له؛ من خوف ورجاء، ومحبة ورضا، وتسليم وتوكل، وإنابة واستعانة، وكلها أعمال تذلل القلوب لعلام الغيوب.
والجوارح لها عملها المبارك لتقوية الصلة بالله، وهي تقرِّب العبد من ربه، وكلما تقرب العبد من ربه أفاض الله عليه من فيوض رحمته وتوفيقه وحفظه، كما صحَّ بذلك الحديث القدسي: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه".
وللجوارح والحواس قنوات واسعة تُدخل المرء جوَّ الأُنس بالله، كالتفكر في ملكوت السموات والأرض، وذكر الله في الخلوات، وقيام الليل، والإلحاح بالدعاء وبثِّ الهم والشكوى لله.
فيا أيها المبارك: أكثر من ذكر الله، بل اجعل لك خلوات تفرغ فيها لذكر الله، فإن من أحب شيئًا أكثر من ذِكْره، واجعل لك من تلاوة كتابه ورداً يومياً لا يزاحمه شغل ولا عمل، وتذكر في هذا الشأن قول عثمان -رضي الله عنه-: "والله لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله".
واعلم أن كل طاعة تعملها بإخلاص نية تقرِّبك من الله -جل جلاله-, وكل معصية تعملها تبعدك عن الله، يقول بعض السلف: "استحِ من الله على قَدْر قربه منك، وخفْ من الله على قدر قدرته عليك".
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
المصدر: الأنس بالله؛ للشيخ د. سامي بن عبد العزيز الماجد