الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | أحمد عبدالرحمن الزومان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
وفي هذا السن مع شدة حاجتهما يحرم على الولد أن يؤذيهما ولو بالتأفف، وهذا أدنى مراتب الأذى، نبه به على ما سواه، بل الواجب التلطف لهما بالعبارة بلفظ يحبانه، وبكلام لين حسن تطمئن به نفوسهما، فاصبر على ما يبدر منهما في هذه السن كما صبرا عليك في صغرك، مع وجوب التواضع لهما ذلاً ورحمة واحتسابًا للأجر...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْر الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ –صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
عباد الله: يخاطبنا ربنا تعالى بقوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء [23، 24].
فبعد أن ذكر ربنا -عز وجل- حقه على خلقه، وذلك بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ذكر بعد ذلك حق الوالدين، دليلاً على عظم حقهما، فأمر بالإحسان إليهما، ويدخل في ذلك جميع وجوه الإحسان القولي والفعلي والبذل والمواساة، فالوالدان سبب وجود العبد، ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر، ويتأكد هذا الحق إذا وصلا إلى حد الكبر الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف.
وفي هذا السن مع شدة حاجتهما يحرم على الولد أن يؤذيهما ولو بالتأفف، وهذا أدنى مراتب الأذى، نبه به على ما سواه، بل الواجب التلطف لهما بالعبارة بلفظ يحبانه، وبكلام لين حسن تطمئن به نفوسهما، فاصبر على ما يبدر منهما في هذه السن كما صبرا عليك في صغرك، مع وجوب التواضع لهما ذلاً ورحمة واحتسابًا للأجر، لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لمالهما، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد، ومع القيام بحوائجهما والإحسان إليهما -ولاسيما في الكبر-، تذكر إحسانهما لك في الصغر، وأن هذا العنت الذي قد تجده حينما يردان إلى أرذل العمر قد حصل لهما مثله أو أكثر، فهما السابقان إلى الفضل والإحسان: (وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].
أخي الابن: بر الوالدين من أحب القرب إلى الله؛ فالجهاد في سبيل الله -على فضله وعلو منازل الشهداء- فبر الوالدين أفضل منه؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أقبل رجل إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، قال: "فهل من والديك أحد حي؟!"، قال: نعم، بل كلاهما، قال: "فتبتغي الأجر من الله؟!"، قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما". رواه مسلم (2549).
بر الوالدين من أسباب طول العمر، وسعة الرزق، وبسط الدنيا للبار؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن يمد له في عمره، وأن يزاد له في رزقه، فليبر والديه، وليصل رحمه". رواه أحمد بإسناد حسن (12988).
أخي الابن البار: تذكر أنك مهما بلغت من البر بأبويك فإنه يوجد من هو خير منك في البر، فلا يقع في نفسك أنك بلغت الكمال في البر بأبويك والإحسان بهما، تذكر بر إسماعيل بأبيه الخليل -صلى الله عليهما وسلم-؛ حيث بلغ به البر منتهاه، فجاد بنفسه برًّا بأبيه لتنفيذ وحي الله في المنام: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102]، وعن أبى بردة أنه شهد ابن عمر ورجلاً يمانيًا يطوف بالبيت –حمل أمه على ظهره- يقول:
إني لها بعيرها المذلل
ثم قال: يا ابن عمر: أترانى جزيتها؟! قال: "لا، ولا بزفرة واحدة". رواه البخاري في الأدب المفرد (11)، وهو صحيح الإسناد.
أخي الابن: ليست إساءة الأب وتقصيره في حقك مسوغًا لعدم البر أو مبيحًا للعقوق، فعلى أبيك ما حمل وعليك ما حملت من الواجبات، ولا أظنك -أخي الابن- ترى أنَّ حقك أعظم من حق الله، ومع ذلك فقد أمر الله ببر الأبوين وإن كانا كافرين: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15]، وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: وهي راغبة، أفأصل أمي؟! قال: "نعم، صلي أمك". رواه البخاري (2620) ومسلم (1003).
فلا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما، فيجب بر الوالدين وإن كان عليهما آثار الفسق والمعاصي، وإن كانا مصرين على الكبائر، بل وإن كانا مرتدين بقول أو بفعل يوجب الخروج من الإسلام، كترك الصلاة، إذا لم يأمرا بمعصية الله.
أخي الابن: اعلم أن من طاعة الأبوين الواجبة إعطاؤهما ما يطلبانه من مال إذا كان لا يضر بك، فعن أبي الدرداء –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "وأطع والديك، وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما". رواه البخاري في الأدب المفرد (18) بإسناد حسن لغيره، ويشهد له الحديث الصحيح: "أنت ومالك لأبيك".
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الذي يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر، ومن ذلك عقوق الوالدين؛ فالعقوق كبيرة من كبائر الذنوب، والعقوق كل ما يتأذى به الوالدان من ولدهما من قول أو فعل، فعلاً أو تركًا؛ فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور". رواه البخاري (6919) ومسلم (87).
فقرن الله طاعتهما بإفراده بالعبودية، وفي هذا الحديث قرن النبي –صلى الله عليه وسلم- معصيتهما بالشرك بالله، فدل ذلك على عظم جرم عقوقهما.
والعاق إذا لم يتَّق ربه ويبادر بالتوبة فهو على خطر عظيم، وعقوبته معجلة في الدنيا ومؤخرة في الآخرة؛ فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم". رواه الترمذي (2511)، وقال: حديث حسن صحيح.
أخي الابن: احذر أن تخرج من البيت أو تدخل أو تقوم أو تنام وقد أبكيت والديك؛ فبكاء الوالدين من العقوق، فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك، والشقي من عقهما، ولا سيما من بلغه عظم ذنب العقوق.
أخي الابن: لعلك أدركت تقصيرك في حق أبويك، وتريد تصحيح الخطأ، لكن يتبادر إلى ذهنك سؤال: ما ضابط بر الوالدين؟! متى تجب طاعة الوالدين ومتى لا تجب؟! فإليك الجواب من قول ابن عطية في تفسيره (5/268): "طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، وتستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر جهاد الكفاية". اهـ.
فإذا أمر الوالدان الولد بفعل محرم كشراء آلات لهو أو دخان، أو ترك واجب كترك الصلاة في المسجد، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أما إذا أمرا الولد بمباح فعلاً أو تركًا وجبت طاعتهما، كالنوم مبكرًا، أو ترك السفر، أو ترك مصاحبة فلان.
وإذا تعارض أمرهما مع أمر مندوب وجب على الولد أن يقدمهما على الأمر المستحب، كطلب العلم وحفظ القرآن؛ فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان جريج رجلاً عابدًا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتمثل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟! فجاءوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام: من أبوك؟! قال: فلان الراعي". رواه البخاري (3436)، ومسلم (2550).
فحينما لم يكلم جريج أمه واستمر في صلاة النفل دعت أمه عليه، واستجيب دعاؤها، فدل على تقديم إجابة الأم على صلاة التطوع؛ لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبرها واجب، والواجب مقدم على النفل.
أخي الأب: كن عونًا لأولادك على برك، وذلك بالعدل بينهم وعدم إيثار بعضهم على بعض من غير سبب، امدح ما يقوم به أولادك من بر تجاهك وأثن عليه، تجاهل ما يبدر منهم من تقصير، ولا سيما في مرحلة المراهقة، وإياك والدعاء عليهم، بل ألحَّ على الله بالدعاء لهم بالصلاح والاستقامة.
جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك، فشكا إليه بعض ولده، فقال: هل دعوت عليه؟! قال: نعم. قال: "أنت أفسدته".