المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - |
ألا فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن مَنْ كان يعبد رمضان، فإن رمضان قد ولَّى وفات، ومَنْ كان يعبد اللهَ فإن الله حيٌّ لا يموت، فالكيِّسُ مَنْ دانَ نفسَه فَعَبَدَ اللهَ وَعَمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانيَّ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، المتوحِّد في الجَلال بكمال الجَمال تعظيمًا وتكبيرًا، المتفرِّد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المتعالي بعظمته ومجده، الذي نزَّل الفرقانَ على عبده ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، سيد المرسلين، وقائد الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، عليه من الله أفضل صلاة وأزكى تسليم، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغُرِّ الميامينَ، وعلى التابعينَ وَمَنْ تبعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، اتقوا الله ما دمتُم في زمن المهلة؛ فإن الزمن وَحِيُّ التقضيِّ، بَطِيءُ الرجوعِ، ولا تلهيَنَّكم دنيا زائلةٌ عن أخرى باقية، فإن ما عندكم ينفد، وما عند الله باقٍ، وإن العاقبة للمتقين.
عباد الله: إن حركة الليل والنهار لَتُؤَكِّدُ تقارُبَ الزمان وتسارُعَه؛ حيث تمرُّ الأوقاتُ فيه مرَّ السحابِ، حتى إن أحدَنا لَيرى من سرعة انقضائها أن الشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، والسنة كالشهر، وإن مما نعلمه من ديننا أن ذلكم التسارُع إنما هو من أشراط الساعة، كما صحَّ بذلكم الخبرُ عن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا كلُّه -عباد الله- يُعَدُّ فرصةً عظمى لإيقاظ ذوي الفِطَن وأصحاب الحِجَا لفعل الخير والتوبة النصوح وإسداء المعروف وترك ما يشين، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الْفُرْقَانِ: 62].
عباد الله: إذا كان فعلُ السيئةِ قبيحًا فما أشنَعَه وأقبَحَه بعد فعل الحسنة، وإن كانت الحسنات يُذهبن السيئاتِ فإن استئنافَ السيئاتِ يُعَكِّر الأعمالَ الصالحةَ ويزاحمها، ولقد استعاذ نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- من الحَوْر بعد الكَوْر، وقد قال الله -جل وعلا-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النَّحْلِ: 92]، ولذا -عباد الله- فإنَّ مَنْ وقَع في التقصير بعد التمام، أو تمكَّنت منه الذنوبُ بعد الإقلاع عنها لَهُوَ ممن أفسَد على نفسه الفوزَ بالطاعة، ولو غشَّ نفسه بعبادات موسمية يسيرة إلا أنها لا تبرح مكانَها، هذا إن لم يكن حين أدائها مسلوبًا لذةَ المناجاةِ وحلاوةَ التعبُّدِ، لعزمه على العود إلى ما كان قبل الطاعة، فتأمَّلْ يا عبدَ اللهِ أنَّكَ قد ذقتَ شيئًا من طعم العبادة في شهر رمضان، فلا تُفْسِدَنَّ هذا الطعمَ بما يشينه، وعليكَ بالدوام وإن قلَّ، فليست العبرةُ بالكَمِّ وإنما هي بالكَيْفِ، فقد قال الله -سبحانه-: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ)[الْمُلْكِ: 2]، ولم يقل: أكثر عملًا، فإن المداومة على القليل تحرس -بإذن الله- من الفترة بعد الشِّرَّةِ، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم مِنَ العملِ ما تُطيقونَ، فواللهِ لا يملُّ اللهُ حتى تَمَلُّوا"، "وكان أحبُّ الدينِ إليه ما داوَم عليه صاحِبُه"(رواه مسلم).
ألَا إن المرء الموفَّق -عبادَ اللهِ- هو مَنْ لا ينفكُّ عن طاعة الله في جميع أوقاته، يعبد الله قائما، وماشيا، وقاعدا، وعلى جنبه، يعرف خالِقَه في كل حين، في رمضان وشوال وغيرهما من شهور السنة، التي هي أزمنة العام وأوقاته، والتي سيُسأل عنها المرءُ جميعا دون تفريق بينها، فما شهور السنة كلها إلا وقت من عمر الإنسان يمضي، وهو مسئول عن عمره هذا دون شكٍّ أو ريبةٍ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال -وهو الصادق المصدوق-: "لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسْأَلَ عن أربعٍ: -وذكر منهن- عن عُمْرِهِ فيما أَفْنَاهُ"(رواه ابن ماجه)؛ لذلك كان المرء الموفَّق هو من لا يحصر العبادةَ في شهر دون غيره؛ لعلمه بأن ربَّ رمضانَ هو ربُّ شوالٍ وبقيةِ الشهورِ.
وهذا المرء الموفَّق -عباد الله- يُدرك في الوقت نفسِه أن مواسم العبادة تتفاضَل وتتواصَل لكنها لا تتفاصَل، وأنه من الجهل المطبِق ظنُّ الأغرارِ من الناس أن شهر رمضان شهر استثنائيٌّ فاصلٌ بين المعصية قبل رمضان والمعصية بعدَه، وهذا لَعَمْرُ اللهِ جهلٌ وزيغٌ وقلةُ بصيرةٍ، كما أن المرء الموفَّق أيضا يعلم أن فرحَه بالعيد المشروع عبادةٌ كما أن صومَه المشروعَ عبادةٌ، وإذا كان شهر رمضان قد اختُصَّ باجتماع جملة من العبادات في شهر واحد؛ ليجمع فيه المرءُ بين التحلية والتخلية، فإن تلك الطاعات المجتَمِعة سيجِدُها متفرقةً أمامَه في بقيةِ شهورِ السنةِ، فما الذي يحجزه عن الصوم في شوال يَوْمَيِ الإثنينِ والخميسِ، وأيام البيض الثلاثة، وما الذي يحجزه عن الصدقة والذِّكْر وقراءة القرآن، وقولوا مثل ذلكم في بقية شهور السنة، غيرَ أن المصطفي -صلى الله عليه وسلم- قد اختَصَّ شَوَّالًا بصيام ستٍّ منه كما صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ"(رواه مسلم).
وحاصلُ ذلكم -عباد الله- أن الحسنة بعشر أمثالها، وصيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ست من شوال بستين يوما، فصارت العدةُ اثني عشر شهرا، أَيْ دَهْرًا كاملًا، والدهر هو السنة.
وإن من رحمة الله بعباده أنه لَمَّا نهاهم عن صيام الدهر كما صحَّ بذلك الخبرُ عن المصطفي -صلى الله عليه وسلم- جعَل لهم في صيام رمضان وستٍّ من شوالٍ ما يحصِّل أجرَه دون الوقوع في النهي عن صومه؛ وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقد خصَّ شهر شوال بخصائص ليست في غيره من شهور السنة؛ وذلك لأنه أول الأشهر المعلومات التي يُفرض فيهن الحجُّ، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، واختص شهر شوال بأن فيه عيد الفطر المبارك، كما اختصَّ أيضا بصيام ستٍّ منه، وحاصلُ الأمرِ -عبادَ اللهِ- أن المرء المسلم يعبد اللهَ في كل أحيانه وشئونه، حتى اللقمة يضعها في فم زوجه له بها أجرٌ، ولا أعظم في محو السيئات من توحيد خالص لله، ثم كثرة حسنات يُضيفها المرءُ إلى صحائفه، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)[هُودٍ: 114].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتُوبُوا إليه، إنَّ ربي كان غفورًا رحيمًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فإن أحسنَ الحديثِ كلامُ اللهِ، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ اللهِ على الجماعة، ومن شَذَّ شَذَّ في النار.
ألا فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن مَنْ كان يعبد رمضان، فإن رمضان قد ولَّى وفات، ومَنْ كان يعبد اللهَ فإن الله حيٌّ لا يموت، فالكيِّسُ مَنْ دانَ نفسَه فَعَبَدَ اللهَ وَعَمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانيَّ.
ألا فلا يضيعنَّ امرؤٌ عمرَه فيما لا يُرضي ربَّه، ولا يُفَرِّطَنَّ في اغتنام الخير في جميع الشهور، وليسأَلِ اللهَ إعانتَه على تحصيله، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه المشهور: "وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ"؛ إذ لم يَقْصُرِ الخيرَ على شهر رمضان فحسب، بل إنه في كل الأزمان، والْتِمَاسُهُ مطلوبٌ في كل آنٍ، هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه -جل وعلا- بقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الْحِجْرِ: 99]، فلا منتهى للعبادة ولا للتقرب إلى لله إلا بالموت.
فاللهَ اللهَ -عبادَ اللهِ- في مداوَمة الطاعة والثبات على التماس رضا الله -جل شأنه-، وحذارِ من العجز والكسل عن متابَعة طريق الخير والبِرِّ والإحسان، والصبر على ذلكم، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزُّمَرِ: 10]، فلا تُفَرِّطُوا في اغتنامِ الأوقاتِ بما يُرضي اللهَ ما دام المرءُ في دار الإمهال، ولا تلهينَّكم أموالُكم ولا أولادُكم ولا أعيادُكم عن طاعة ربكم؛ فإن الأجل مباغِت والحساب عسير، والندم كبير، ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْمُنَافِقُونَ: 9-11].
هذا وَصَلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمرَكَم اللهُ بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بِقُدْسِه، وَأَيَّهَ بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعينَ، وَمَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركينَ، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنينَ.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَكَ واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لِمَا تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في دينهم في سائر الأوطان يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع مجيب الدعوات، اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.