الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | د ماجد بن عبدالرحمن آل فريان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن البطء والتثاقل والتروي والـتأني ينبغي أن يكون بعيدًا عن عمل الآخرة؛ لأن عمل الآخرة طريق صحيح، لا يحتاج إلى تأمل وتفكر، ويحتاج إلى المبادرة قبل الفوات؛ لأن كل يوم يمضي هو من الفوات، وبعد الفوات يكون الندم، والندم لا يغني عن العاقل شيئًا؛ ففي الحديث: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلا نَدِمَ". قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ" ..
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره...
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: في يوم من أيام الصيف الشديدة، وفي طرف من أطراف المدينة النبوية، وبين الجبال السود والحِرَارِ الملتهبة، كان عبدُ الله بنُ عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله تعالى عنه- في جملةٍ من أصحابه، وقد وضعوا سفرةً للطعام ليأكلوه، فمر بهم راعٍ يرعى الغنم بذلك المكان، فدعوه ليأكل معهم ويشاركهم على مائدتهم، فقال لهم الراعي لما دعوه معتذرًا: إني صائم، فعجب ابنُ عمر وقال: في مثل هذا اليوم الشديد حره، وأنت وحدك بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم؟! فقال الراعي: أبادر أيامي هذه الخالية.
فعجب منه ابن عمر، وحُقَّ له أن يعجبَ لأمرين ظاهرين في حياة هذا الراعي: وهما مشقة العمل، وعدم المعين؛ فهذا الراعي ليس في ظلال وارفةٍ، وحياةٍ هانئةٍ هادئةٍ، وإنما هو بين الجبال والوهاد والهضاب، وفي حرارة الصيف وتحت لهيب الشمس، فحياتُه شاقةٌ يصعبُ معها الصيام، وليس معتكفًا في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة؛ ليجد له على الحق أعوانًا، ولكنه منفرد في تلك الوهاد، ليس معه أنيس ولا معين إلا الله تعالى، ثم يحرص على الصيام مع هذه المعوقات!! إنها منزلة عالية سامقة.
ثم إنَّ العجب لا ينقضي من ذلك الجواب الذي ينطُف حكمةً ووعيًا ويقظةً بحقيقة هذه الدنيا وأيامها ولياليها عندما قال: "أبادر أيامي هذه الخاليةَ". فهو يعلمُ أنها غاديةٌ ذاهبةٌ ويصعبُ رجوعُها، والبقاءُ بعدها غيرُ مضمون، فيبادرها بعمل الخير لئلا تفوت، ولذلك قال أعرابيٌ حكيم للحجاجِ بنِ يوسفَ لما دعاهُ لطعامٍ بين مكةَ والمدينةَ: دعاني من هو خيرٌ منك فأجبتُه، قال: ومن هو؟! قال: الله تعالى دعاني إلى الصيامِ فصُمْتُ، قال: في هذا الحر الشديد؟! قال: نعم صمت ليومٍ أشدَّ منه حرًّا، قال: فأفطر وصم غدًا، قال: إن ضمنت ليَ البقاءَ إلى غدٍ أفطرتُ، قال: ليس ذلك إليَّ، قال: "فكيف تسألني عاجلاً بآجلٍ لا تقدر عليه؟!".
ولما نزل روحُ بنُ زنباعٍ منزلاً بين مكةَ و المدينةَ في حرِّ شديدٍ خرج عليه راعٍ من وراء جبلٍ، فقال له: يا راعٍ: هلمَّ إلى الغداءِ، قال: إني صائم، قال: أفتصومُ في هذا الحر؟! قال: أفأدع أيامي تذهب باطلاً؟! فقال روحٌ: لقد ضننتَ بأيامك يا راع إذ جادَ بها روحُ بن زنباع.
يا عباد الله: هؤلاء أناس يعيشون بين الجبال، وتتضاعف عليهم مشقةُ الصيام ولا يجدون معينًا على الخير، فكيف بمن يجد المعين ويتمتع بالعيش الرغيد؟! إنها المسارعةُ في الخيرات، واغتنامُ الأيامِ الخوالي؛ لأنَّ الإنسانَ كشجرةٍ ذاتِ أوراقٍ، إذا ذهبتْ ورقةٌ منه ذهب جزء من العمر والحياة.
معاشر المسلمين: وقفت قبل أيامٍ على صورتين معبرتين لشيخنا العلامةِ عبدِ الله بنِ جبرينَ -تغمده الله بواسع رحمته-، فكانتا واعظًا صامتًا لكل من يشاهدهما.
وكانت في حياتك لي عظات
كنا نرى مسارعتَه في الخيراتِ في حياتِه، فكانتْ دروسُه في الأسبوعِ الواحدِ تربو على عشرةِ دروس، كأنه يسابق شيئًا، أو يخشى فواتَ شيءٍ، وكان يومُه مليئًا بالأعمال والمهمات، حتى يعجز الذين يصاحبونه في الأسفار والرحلات الدعوية عن الدأب كدأبه أو العمل كعمله.
ثم بعد وفاته رأينا له هاتين الصورتين، وكأنَّ لهما لسانين ناطقين يقولان للناس ويصيحان فيهم: اغتنموا حياتكم قبل موتكم، اغتنموا حياتكم قبل موتكم.
كانت الصورة الأولى له وهو منهمك في قراءة كتاب على فراشه في المستشفى في مرضه الذي مات فيه، وكانت الصورة الأخرى له في رحلة بريةٍ، والناس قد تشتتت بهم الاهتمامات وألهاهم الربيع، وهو منهمك على كتابه يقرأ فيه، كان رحمه الله يسابقُ شيئًا، أو يخشى فوات شيءٍ، وكان محقًّا ومصيبًا في مسابقته، حتى وُجد له اليومَ آلافٌ مؤلفة من الساعات الصوتية التي ألقاها، وآلافٌ مؤلفةٌ من الأوراق والفتاوى التي حررها.
إن هؤلاءِ العظماءَ قد عرفوا قيمةَ الحياةِ وأنها مزرعةُ الآخرة، فبادروا أيامهم الخوالي؛ ليقال لهم في الآخرة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24]، وعلموا أنَّ الله تعالى لا يضيعُ عمل عاملٍ من ذكرٍ أو أنثى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8].
معاشر المسلمين: جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم مع أصحابه فسألهم سؤالاً دون سابق إخبار فقال لهم: "من أصبحَ منكم اليوم صائمًا؟!"، قال أبو بكر الصِّدِّيقُ: أنا، قال: "فمن تَبِع منكم اليوم جنازة؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فَمَنْ أطعم منكم اليومَ مِسْكِينًا؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجْتَمَعْنَ في رجل إلا دخل الجنة". أخرجه مسلم.
لاحظْ أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه وأرضاه- لم يكن مستعدًا لذلك السؤال، ولكنه كان معتادًا أن يبادر أيامه الخوالي بالاستكثار من الباقيات الصالحات.
كان الصالحون ممن قبلنا يفقهون عن الله تعالى مراده في كتابه عندما حثَّ على المسارعة في الخيرات، ففهموا أنها مسابقة حقيقية تحتاج إلى تحفز وتشمير، كما يفعل المتسابق في الطريق.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ لأَصْحَابِهِ: "أَلا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فِي مَقَامٍ أَبَدًا، فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، فِي دُورٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ"، قَالُوا: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ". رواه ابن ماجه.
إنه التشميرُ للمسابقةِ الحقيقيةِ والفرارِ إلى اللهِ تعالى، كما قال سبحانه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50، 51].
معاشر المسلمين: لقد ذكر الله تعالى في سورة الواقعة أصنافَ الناس في سيرهم إلى الله تعالى، ودلت الآيات على أنهم يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، وجاء السياق القرآني محتفيًا بالمسارعين المسابقين الذين غلبوا غيرهم، وبزوا أقرانهم، وكان لهم مع السير إلى الله تشمير وسبق؛ قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة: 10-14]، ولما تكلم عن أصحاب اليمين ذكر أنهم: (ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ) [الواقعة: 39، 40]، ودلت الآيات على أن السابقين في الآخرين قليل وهم في رعيل الأولين كثير، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من ذلك القليل، وأن ييسر لنا أسبابه، وأن يدلنا طريقه.
فهلم نبادر -يا عباد الله- لنعرفَ نصوص المسابقةِ في الخيرات، ونطرحَ الكسلَ واللذات، ونشمرَ للفوز بالباقيات الصالحات.
يقول الله -عز وجل- مثنيًا على عباده الصالحين: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 60، 61]، وذكر الله سبب استجابته لدعاء عبده زكريا أنه كان يسارع في الخيرات فقال: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 89، 90].
وفي آيتين من كتاب الله تعالى يحث الله عباده على المسارعة والمسابقة إلى المغفرة؛ فيقول في سورة آل عمران: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]، وفي سورة الحديد يقول: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
وهذه المسارعة والمسابقة -يا عباد الله- متعلقة بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة، وهي الأعمال الصالحة، فالمسابقة والمنافسة تكون فيهما ولا تعدوهما.
وفي آيتين أخريين جاء الحث على المسارعة بعبارة بليغة عظيمة وهي عبارة استباق الخيرات، كأنَّ المسلم يسبق الخيراتِ نفسَها من العجلة في السير إلى الله تعالى، وفيها دلالة على الاستباق في الوصول إلى الخيرات، والاستباق في الخيرات نفسها بعد الوصول إليها؛ فليس معناها أن تقف إذا وصلت إلى الخير، بل إذا وصلت إلى الخير فسابق في نفس فعل الخير.
جاء في سورة البقرة قول الله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 148]، وفي سورة المائدة جاء قول الله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48].
إنها المسارعة في السير إلى الله تعالى، والتي تكون عاقبتها الرضا من الله تعالى، كما قال موسى -عليه السلام-: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
إنها المسارعة والمسابقة في السير إلى الله تعالى، ولا مجال فيها للروية والتؤدة والأناة؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلا فِي عَمَلِ الآخِرَةِ". رواه أبو داود.
إن البطء والتثاقل والتروي والـتأني ينبغي أن يكون بعيدًا عن عمل الآخرة؛ لأن عمل الآخرة طريق صحيح، لا يحتاج إلى تأمل وتفكر، ويحتاج إلى المبادرة قبل الفوات؛ لأن كل يوم يمضي هو من الفوات، وبعد الفوات يكون الندم، والندم لا يغني عن العاقل شيئًا؛ يَقُولُ رَسُولُ الهدى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلا نَدِمَ". قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ". يعني تاب ورجع. أخرجه الترمذي.
ومقامات الناس في الآخرة –يا عباد الله- مبنية على مقاماتهم في السير إلى الله تعالى في الدنيا، وإذا كان الناس يتفاوتون في طبقاتهم في الدنيا فإن تفاوتهم سيكون في الآخرة أكبر وأوضح.
يقول الله تعالى: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [الإسراء: 21]، يعني في الدنيا، ثم قال عن الآخرة: (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)، نسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعًا الفردوس الأعلى من الجنة.
معاشر المسلمين: ولا يكون العبد سابقًا بالخيرات إلا بالمبادرة إليها قبل غيره، وانتهاز الفرص حين يجيء وقتها ويعرض عارضها، فأوَّلُ دفعة ينهون صيام رمضان وينهون صيام الست من شوال في اليوم السابع منه يكتب لهم أجر المسارعين في الخيرات إذا احتسبوا نية ذلك، والأمثلة في ذلك كثيرة.
وأعظم أنواع المسارعة إلى الخيرات الديمومة والثبات عليها؛ لأن الانقطاع فوات عظيم، وهو أعظم خلل تربوي يعاني منه أهل هذا العصر، وهو مخالف لمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث كان إذا عمل عملاً أثبته، وكان عمله ديمةً أي دائمًا مستمرًا، وكان -عليه الصلاة والسلام- يقول: "أحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل".
واحتساب الأجر في المباحات يعين على السبق في الخيرات؛ فقد يبلغ الإنسان بالنية الصالحة منزلةً سامقةً ما كان له أن يبلغها بعمله، فيحتسب نومته للتقوي على الطاعة، ويحتسب عمله وتجارته لإعفاف نفسه والنفقة على عياله، ويحتسب نفقته على عياله صدقة لله تعالى وفريضة يؤديها، فيكون متقلبًا في العبادات بسبب النيات، وتذكروا يا عباد الله: "وإنما لكل امرئ ما نوى".
معاشر المسلمين: وأعظم معين للفوز في المسابقة في السير إلى الله تعالى: الاستعداد للفرص قبل نزولها، والتمرن على العبادة الموسمية قبل دخولها، فكما يسخِّن المتسابق في الميدان الدنيوي ويتمرن ويتدرب، فكذلك السابقون من المؤمنين يتدربون ويتمرنون؛ حتى إذا جاء السباق وإذا هم أكثر لياقة وقدرة على العبادة نشاطًا لها وتفاعلاً معها، وتأمل في ذلك حال الناس في استعدادهم لرمضان؛ فمنهم من يسافر ويغفل ولا يستوعب دخول رمضان إلا في اليوم العاشر منه، ومنهم من استعد بكثرة الصيام والقيام وتلاوة القرآن في شعبان، فلما جاء رمضان إذا هو مستعد تمام الاستعداد للسباق والمنافسة في الخيرات.
معاشر المسلمين: ولو لم يكن من فضائل المسابقة إلى الخيرات إلا أن كل من اقتدى بك أو تذكر الخير بعملك أخذت مثل أجره لكان ذلك محفزًا؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا"، والعمل أبلغ من القول، والناس يتأثرون بالأعمال أكثرَ مما يتأثرون بالأقوال.
نسأل الله تعالى أن يبلغنا فيما يرضيه آمالنا، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يجعلنا من مستبقي الخيرات ومن المسارعين والمنافسين في الباقيات الصالحات: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57-61].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلاة الله وسلامه على أشرف رسله وخاتم أنبيائه، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عبد الله: في طريقك إلى اللهِ تعالى لن تجدَ لوحاتٍ تطالبُك بتهدئة السرعة، وتحددُ لك السرعةَ القصوى! وتحذِّرك بمراقبة الرادار، بل ستجد مجموعةً من اللوحات في الطريق، مكتوبًا على إحداها: (سَابِقُوا)، وعلى الأخرى (سَارِعُوا)، وعلى الثالثة (اسْتَبِقُوا).
وستجد مجموعةً أخرى من اللوحات مكتوبًا على إحداها: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ"، وستجد لوحة أخرى مكتوبًا عليها: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ"، وستجد لوحة ثالثة مكتوبًا عليها: "اغتنم خمسًا قبل خمس: اغتنم حياتك قبل موتك..."، وستجد لوحة رابعة مكتوبًا عليها: "خُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"، وستجد لوحة خامسة مكتوبًا عليها: "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ حَرَّ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ".
ولذلك -يا عبد الله- إن استطعت أن تسارعَ وتسابقَ وتبادرَ وتغتنمَ حياتك قبل موتك فافعل، واعلم بأنك ستجدُ أولَ الطريق مزدحمًا، وأما في آخره فلن تجد إلا قِلَّةً مختارةً مصطفاة، فاحرص على أن تكون منهم: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
يَنْبَغِي عليكَ -يا عبد الله- أنْ تَدْخُلَ السِّبَاقَ اليومَ، وذلك بالتوبةِ النصوحِ، والاستعدادِ لرمضانَ والاجتهادِ فيه، ولا تَظُنَّ أنَّ العَدَدَ محدودٌ، وأنَّ المنافسةَ قد انتهت من عَصْرِ الصَّحابَةِ والقُرُونِ المفضَّلةِ! فالسِّباقُ فسيحُ الأرجاءِ، ولَمْ يُحدِّدْهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بزمانٍ أو مكانٍ، فَهَلاَّ شَمَّرتَ عن سَاعدِ الجدِّ، وأخذتَ في بلوغِ العزائمِ، وتَنَافَسْتَ نحو اللهِ تعالى والدَّارِ الآخرة كما كانُوا يَفْعلُون؟!
قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "السَّابِقُونَ في الدُّنْيا إلى الخَيْراتِ هُمْ السَّابِقُونَ يومَ القَيامةِ إلى الجنَّات".
وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل".
وقال عمر بن عبد العزيز في حجةٍ حجها عند دفع الناس من عرفةَ: "ليس السابقُ اليومَ من سبقَ به بعيرُه، إنما السابقُ من غُفر له".
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المسارعين المسابقين إلى مغفرة ربنا وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وأن يبلغنا رمضان ويوفقنا فيه للصيام والقيام ومغفرة الذنوب والآثام.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...