الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | علي باوزير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وبين الله -سبحانه وتعالى- أنه لا يريد ضلال الخلق، لا يحب لهم الكفر، لا يحب لهم العصيان والمخالفة؛ بل يريد أن يتوب عليهم، يريد أن يغفر لهم، يريد أن يعفو عنهم: (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:26-27].
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: أيها المسلمون عباد الله، الإنسان خلق وله طبائع عدة، جبل على أشياء وفطر على أمور، ومما جبل عليه الإنسان وفطر عليه الوقوع في الخطأ، والوقوع في الإثم والمعصية، والمخالفة لأمر الله -سبحانه وتعالى-، وهذا شيء من مقتضيات فطرة الإنسان؛ بل هو سبب رئيسي لبقاء الإنسان. إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم".
إن من أسماء الله -تعالى- "التواب"، ومن أسمائه "الغفور"، ومن أسمائه "الرحيم"؛ فإذا لم يكن هناك أصحاب ذنوب ومعاصٍ؛ فعلى من سيتوب؟ ولمن سيغفر؟ ومن سيرحم؟ فوجود الإثم في الإنسان أمر لا بد منه، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون". لاحظ: "خطّاء"، لم يقل: كل بني أدم يذنب أو يخطئ، بل قال: "كل ابن آدم خطاء"، أتى بصيغة المبالغة التي تدل على الكثرة، أي أنه كثير الخطأ؛ فوقوع الإنسان في الخطأ بحد ذاته ليس عيبا في الإنسان؛ فإن هذه هي فطرته، وهذه هي الطبيعة التي خلق عليها.
لكن الخطأ والعيب في الإنسان أن يستمر في معصيته، أن يستمر في بعده عن الله -سبحانه وتعالى-، أن يستجيب لداعي الشيطان فيسير في دربه ويسلك طريقه؛ وهنا يؤاخذ الإنسان على فعله، أما إن عاد إلى الله ورجع إلى ربه وخالقه وأناب إليه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
ربنا -تعالى- فتح باب التوبة على مصراعيه، وجعله مشرعا إلى يوم القيامة، باب عظيم يسع الخليقة كلها ويسع الناس كلهم، عند الترمذي من حديث صفوان بن عسال -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من قبل المغرب لَبابا مسيرة عرضه أربعون عاما أو سبعون عاما، فتحه الله للتوبة يوم خلق السماوات والأرض، ولن يغلقه حتى تطلع الشمس منه"، أي: حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذه علامة من علامات الساعة، من العلامات الكبرى التي تؤذن بتغير الكون، وأن القيامة قد آن أوانها.
فباب التوبة مفتوح لا يغلق أمام أي أحد من الناس إلى يوم القيامة، مهما كان هذا الشخص، مهما ارتكب من الجرائم، مهما فعل من الموبقات، مهما تجرأ على المحرمات؛ فلن يستطيع أحد أن يحول بينه وبين هذا الباب العظيم.
ولم يكتف الله -تبارك وتعالى- بأن فتح هذا الباب، بل دعا الناس وناداهم لأجل أن يدخلوا هذا الباب ويلجوا إليه، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
ونادى المسرفين من عباده الذين تجرؤوا على المحارم فأكثروا دعاهم وناداهم فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
بل دعا أعداءه الذين أشركوا به ونسبوا إليه الصاحبة والولد وكذبوا رسله وأنبياءه، دعاهم إلى التوبة، قال الله -سبحانه وتعالى-: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة:73]، ثم بعدما قالوا ما قالوا، بعدما أجرموا ما أجرموا، بعد أن أشركوا به وثلّثوا، يقول -تعالى-: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة:74].
لم يكتف الله -سبحانه وتعالى- بدعائهم بالتوبة، بل وعدهم بالمغفرة، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82].
وبين الله -سبحانه وتعالى- أنه لا يريد ضلال الخلق، لا يحب لهم الكفر، لا يحب لهم العصيان والمخالفة؛ بل يريد أن يتوب عليهم، يريد أن يغفر لهم، يريد أن يعفو عنهم: (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:26-27].
فانظر إلى هذا الرب الرحيم! وانظر إلى هذا الرب الكريم الذي يخاطب عباده بهذا الخطاب اللطيف! يتودد إليهم ويتلطف معهم ويقول لهم: (يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا)، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وهل اكتفى الرب الجليل العظيم بهذا؟ لا والله، بل زاد على هذا أنه في كل ليلة إذا كان ثلثها الأخير ينزل إلى السماء الدنيا فينادي عباده، ينادي مَن؟ ينادي العصاة، ينادي الآثمين، ينادي المذنبين، ينادي الشاردين الهاربين منه، يناديهم فيقول: "هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟"، فلا إله إلا الله!.
هل هناك من تسيء إليه، هل هناك من تعصيه، تخالفه، هل هناك من تتمرد على أوامره، ثم هو يتقرب إليك هذا التقرب، ويتودد إليك هذا التودد، ويتلطف معك هذا التلطف؟! (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135]، من يفعل هذا إلا الله؟ من الذي يفتح باب التوبة إلا الله؟ من الذي يدعو الناس إلى الرجوع إليه إلا الله؟ من الذي يعد بالمغفرة والتوبة على من رجع إليه إلا الله؟ (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
هل اكتفى الرب -تبارك وتعالى- بهذا فحسب؟ لا والله! بل زاد الله على هذا كرما وزاد على هذا فضلا عظيما، يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه، يفرح بتوبته فرحا شديدا يصفه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في الصحيح من حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لَله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة -أي: في وسط صحراء ممتدة- فانفلتت منه -هربت منه- وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ينتظر أن يأتيه الموت، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".
تخيل -يا عبد الله- عبدا قد أيقن بالموت وأيقن بالهلكة وصار ينتظر لحظة الفراق لهذه الدنيا، وفي هذه اللحظات الصعبة العسيرة يأتيه الفرج ويأتيه الغوث؛ فكيف تكون فرحته؟ وكيف يكون سروره؟ الله -عز وجل- حين يتوب عبده إليه يفرح أشد من فرح هذا الرجل.
هذه معاملة الله -سبحانه وتعالى- لمن عصاه، معاملته لمن خالف أمره، معاملته لمن تمرد عليه إذا رجع إليه؛ فكيف بمعاملته مع من أطاعه؟ كيف بمعاملته مع من اتقاه؟ إنه رب رحيم جواد كريم.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، عند حد الفرحة بتوبة التائبين؛ بل إن الله -سبحانه وتعالى- يزيدهم إكراما، ويزيدهم فضلا وإحسانا، ويبدل الله سيئاتهم حسنات. في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن ناسا من أهل الجاهلية قتلوا وأكثروا من القتل وزنوا وأكثروا، ثم جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا له إن الذي تقوله وتدعو إليه لحسن يا محمد، لكن؛ لو تخبرنا بأن لما فعلنا كفارة، هل هناك كفارة لما فعلناه؟ فنزلت آيات عظيمة من أجلّ آيات القرآن، وفيها من الوعد والبشارة ما ليس في غيرها من الآيات، نزلت أواخر سورة الفرقان، يقول الله -سبحانه وتعالى- فيها: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان:69]، هذه أعظم المنكرات: الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة، والزنا؛ ثم يقول -تعالى-: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا)، فماذا لهم يا رب؟ هل يغفر لهم؟ هل يعفو عنهم؟ هل يتجاوز عن سيئاتهم؟ بل أكثر من هذا! (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، الذين قتلوا فأكثروا قتلهم هذا يتحول إلى حسنات، الذين زنوا فأكثروا زناهم هذا يتحول إلى حسنات، الذين عصوا ربهم وتمردوا عصيانهم هذا يتحول إلى حسنات؛ أي فضل أعظم من هذا؟ وأي كرم وجود أكبر من هذا؟ (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفرقان:70].
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "يا رسول الله، أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إِلَّا أَتَاهَا"، قلب في ذهنك كل الذنوب التي يمكن أن تتصورها أو تتخيلها قد فعلها هذا الرجل، فيأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟"، فيقول له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟" قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: "نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ"، قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ كنت إنسانا غدارا، كنت إنسانا فاجرا، قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَعَمْ" قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ! فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى. وحق له أن يكبر! وحق له أن يستبشر بهذا الفضل العظيم من الله -سبحانه وتعالى-!.
ولا يقف الأمر عند هذا أيها الأحباب، قد يتوب العبد وتحسن توبته ويصدق توبته مع الله -عز وجل- فيغفر الله له، ثم تجرئه نفسه ويعود لما كان عليه؛ فهل يرفضه الله -عز وجل-؟ هل يطرده الله -عز وجل- من رحمته؟ لا والله! بل إنه يقبله كلما جاء إليه. في الصحيح، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ رَجُلا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، قَالَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، قَالَ: ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، قَالَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، قَالَ: ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، قَالَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ"، أي: إذا كان هذا حاله، كلما أذنب رجع إلى الله وبادر بالتوبة والاستغفار، إذا كان هذا حاله، فليفعل ما شاء، فإن ذنوبه لن تضره أبداً؛ لأنه يبادر بمحوها، ويسارع إلى إزالتها، مهما تردد على باب الله فلن يغلق أمامه هذا الباب، مهما أكثر من التوبة والاستغفار، مهما نكث من التوبات وأعاد غيرها مكانها فإن الله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يرده أبداً، بل يقبله، ويغفر له، ويرحمه.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانـا | واعص الهوى فالهوى مازال فتانا |
أما ترين المنــايا كيف تلقـطنا | لقـطا وتلحـق أخرانا بأولانـا |
في كل يوم لنـا ميت نشــيعه | نـرى بمصـرعه آثـار موتـانا |
ما بالنـا نتعامى عن مصــائرنا | ننسـى بغـفلتنا من ليس ينسانا |
نزداد حرصـا وهذا الدهر يزجرنا | كأن زاجرنا بالحـرص أغرانـا |
أين الملوك وأبنــاء الملوك ومن | كانت تخـر له الأذقـان إذعانـا |
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا | مستبدلـين من الأوطان أوطانا |
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
وبعد: أيها الأحباب الكرام، إذا جاء الحديث عن التوبة فإنه يقفز إلى الأذهان سؤال مهم، قد يقول قائل: من ماذا أتوب؟ أنا إنسان مصلٍّ أؤدي الفروض في وقتها، لا أزني ولا أشرب الخمر ولم أقتل نفسا محرمة، فمن ماذا أتوب؟ ولماذا هذا الحديث عن التوبة؟.
هذا -أيها الأحباب- من تلبيس إبليس على الإنسان، يعميه عن أخطائه ويطمس على بصيرته فلا يرى ذنوبه، يظن في نفسه الكمال، ويظن في نفسه استقامة الحال، وهو مليء بالذنوب من أخمص قدميه إلى أعلى رأسه، ومن ظن في نفسه أنه لا يحتاج إلى توبة فهو مغرور معجب، قد وقع في كبيرة من الكبائر، ووقع في مصيدة الشيطان وشركه.
هذا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن الذي يجاريه في زهده؟ ومن الذي يدانيه في تقواه؟ ومن الذي يقاربه في كماله وطاعته لربه -سبحانه وتعالى-؟ المعصوم الذي عصمه الله -تعالى- من كبائر الذنوب، ومن السيئات والفواحش، ماذا يقول محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ يقول: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة"، هذا محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول: "فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة".
بالله عليكم -أيها الأحباب-: من منا نحن اليوم يتوب في يومه وليلته إلى الله مائة مرة؟ من الذي يتوب تسعين مرة؟ من الذي يتوب خمسين مرة؟ من الذي يتوب عشرين مرة؟ بل من الذي يتوب لله في كل يوم مرة؟!.
غرتنا أنفسنا، وأعجبنا بأعمالنا، وظننا في ذواتنا الكمال، فانصرفنا عن التوبة إلى الله -سبحانه وتعالى-، كثيرة هي الذنوب التي تستوجب التوبة إلى الله -سبحانه وتعالى-، أليس هناك من يشرب الخمر؟ أليس هناك من يرابي ويأكل المال الحرام؟ أليس هناك من يغش ويخدع ويتحايل في البيع والشراء؟ أليس هناك من يأخذ الرشوة باسم الهدية وباسم الحق والمستحق؟ أليس هناك من يفرط في الصلوات الواجبات؟ بل أليس فينا -أيها الأحباب- من يتجرأ على قتل النفس المحرمة بغير حق؟ أليس هناك السارق؟ وما أكثر السراق الذين نشتكي منهم!.
كثيرة هي الذنوب التي تتعلق باللسان فحسب، بهذه الجارحة وحدها، ولا يسلم من إثمها أحد منا: السب، والشتم، واللعن، والكذب، والغيبة، والنميمة، والسخرية، والاستهزاء؛ هذه آثام هي فقط جزء من آثام اللسان، ولا يسلم منا أحد منها!.
أليس فينا عقوق الوالدين، والتقصير في صلة الأرحام، والإساءة والأذى للجيران؟ أليس من الذنوب التجسس وسوء الظن بالمسلمين؟ أليس من الذنوب الحسد والبغضاء والشحناء والعداوة؟ أليس من الذنوب التهاجر والتقاطع والتدابر؟ أليس من الذنوب أن يبيع المرء على بيع أخيه، وأن يخطب على خطبة أخيه، وأن يخدعه، أو يغشه في بيعه وشرائه؟ أليس من الذنوب الكبر والتعالي، الافتخار بالأحساب والأنساب، واحتقار الناس وازدراء الآخرين؟ أليس من الذنوب التقصير في حقوق الأولاد والزوجات، وعدم القيام بحقهم ونفقتهم وما يجب لهم؟ أليس من الذنوب التوكل على غير الله، والاعتماد على غيره، والخوف من غيره، وتعلق القلب بغير الله، سوء الظن بالله، الرياء والسمعة، والعُجب، والغرور؟.
أليس من الذنوب التعلق بالسحرة والمنجمين والعرافين وتصديقهم؟ أليس من الذنوب تصديق ما يسمى بأبراج الحظ التي يصدقها كثير من الناس؟ أليس من الذنوب اليمين الغموس والحلف بغير الله؟ الحلف كاذبا والحلف بغير الله والحلف بملة غير الإسلام؟ أليس من الذنوب شهادة الزور والشفاعة في إبطال الحق أو في إحقاق الباطل؟ وما أكثر هذه الشفاعات في أيامنا هذه! أليس من الذنوب اتباع الهوى والأمن من مكر الله واليأس من رحمة الله؟ أليس من الذنوب محبة الظلمة وتعظيمهم وتقديسهم ومعاونتهم ومساعدتهم؟ أليس من الذنوب الإسراف والتبذير وصرف المال في غير محله؟ أليس من الذنوب حرمان النساء من الميراث الذي يجب لهن والذي قدره الله -عز وجل- لهن؟ أليس من الذنوب تعاطي المسكرات والمفطرات والمخدرات؟.
هذا جزء من الذنوب التي يكذب من يدعي أنه قد سلم منها كلها، لكل واحد منا نصيب من هذه الذنوب، لكل واحد منا شيء من هذه السيئات، فكلنا بحاجة إلى التوبة، كلنا بحاجة إلى الرجوع الله -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا اتفق العلماء على أن التوبة واجبة على كل مسلم، واجبة وجوبا عينيا على كل مسلم، ووجوبها وجوب فوري، لا يجوز تأخيرها، ومن أخر التوبة فإن تأخيره للتوبة معصية تستوجب التوبة، لا يدري الإنسان متى يأتيه أجله، لا يدري متى يموت، لا يدري متى يأتيه ملك الموت، لا يدري متى يفارق هذه الدنيا.
والتسويف جند من جند الشيطان يغر به الإنسان، يجعله يؤمل في البقاء وفي طول الحياة، فلا يدري إلا وقد فجأه الموت وقد باغتته الوفاة وهو لم يستعد بعد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك".
وإذا نزل الموت بساحة الإنسان فلا ينفعه بعد ذلك توبة ولا استغفار، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، أي: ما لم تبلغ الروح الحلقوم.
هذا فرعون حين أدركه الغرق تاب وأناب، (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، فجاءه الجواب من الله -تبارك وتعالى-: (آلآنَ)؟ أفي هذه اللحظات وقد جاءتك البينات؟ أفي هذه الأوقات وقد طرقتك النصائح والمواعظ؟ أفي هذه الساعة تتوب إلى الله -تبارك وتعالى- وقد عشت قبله عمرا مديدا؟ (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:91]؟ فلا ينتظر الواحد منا حتى يقال له كما قيل لفرعون: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)؟!.
فالبدارَ البدارَ إلى التوبة! والمسارعةَ المسارعةَ إلى الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-! وليعلم كل واحد منا أن التوبة ليست مجرد استغفار يقال باللسان، بل لا بد من الشعور بالندم، لا بد من التحسر على ما فات من الأعمال، لا بد من الشعور بالألم والتوجع على ما فرط الإنسان في حق الله -تبارك وتعالى-، وإن كانت عنده حقوق لأحد من الخلق فليبادر بإرجاع الحقوق إلى أهلها؛ فإن الذنوب متى ما كانت متعلقة بحقوق الخلق فلا ينفع صاحبها أن يتوب منها إلا بإرجاع الحقوق، حتى وإن سالت دموعه على الأرض أنهارا فلن ينفعه هذا عند الله -عز وجل- حتى يعيد الحقوق إلى أهلها.
اللهم انك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا...