الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الإيثار رحمةٌ من الله أنزلها على قلوب عباده المؤمنين، فبذلت ما في يدها، وجادت بما تملكه من دنياها، اقتحم أصحابُها العقبة، ففكوا الرقبة، وأطعموا في كل يومٍ ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، تهتز قلوب...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض، وزوده بصفات بها يستطيع التعايش مع ما حوله، فتفاوت الناس في اكتسابها؛ فمنهم المقل ومنهم المكثر فاكتسب بعضهم صفات جميلة، وخصالًا حميدة، كالبذلُ والسخاء، والجودُ والعطاء، وهي أخلاقٌ فاضلة، وصفاتٌ عظيمة، ما تحلى بها رجلٌ إلا أصبحَ محلَّ المدحِ والثناءِ عندَ جميعِ العُقَلاء.
وفي الأخلاقِ خلقٌ أرْفَعُ من هذِه الخصالِ مَرْتَبَة، وأَسمى مَنْزِلَة، وأعلى مَكانة، وهو أَنْ يُؤْثِرَ الإنسان غَيْرَهُ بالشيء مع حَاجَتِه إليه، ويقدم الغير على النفس في حظوظها الدّنيويّة رغبة في الحظوظ الدّينيّة؛ إنه الإيثار.
صِفَةٌ اتَّصَفَ بها المُتقونَ الأبرار، وأَفْلَحَ بها الصحبُ من الأنصار، وأثنى عليهمُ اللهُ بها في كتابِه فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9].
الإيثار رحمةٌ من الله أنزلها على قلوب عباده المؤمنين، فبذلت ما في يدها، وجادت بما تملكه من دنياها، اقتحم أصحابُها العقبة، ففكوا الرقبة، وأطعموا في كل يومٍ ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، تهتز قلوب أهل الإيثار لما يصيب المسلمين، فيسعون في عونهم محبة فيما في يد خير الرازقين، صافية قلوبهم، راضية نفوسهم، نقية من البخل والشح.
عباد الله: وصاحبُ الإيثارِ موعودٌ بخيرٍ مما آثَرَ به غيرَه، قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المزمل:20].
بالإيثار ينال الإنسان البر، ويترقى في سلم القرب من الله، قال تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[آل عمران: 922]، فالمؤثر يصل إلى حَقَيقَة الإيمانِ بِصِدْقِ مَحَبَّتِهِ لغَيرِهِ ما يُحبُّهُ لِنَفْسِهِ، قال النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(متفق عليه).
بالإيثارِ تَتَأَلَّفُ القلوب، وتَقْوَى أَوَاصِرُ الأُخُوَّة، وتَعْظُمُ المَحَبَّة، وتَظْهَرُ الرَّحْمَة، ويسُودُ الإِلْفُ بَيْنَ أفرادِ المُجتمع، وتَخْفُتُ نَارُ التَنَازُعِ، وتَزُولُ الشّحْنَاء، قال ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله-: "الدينُ كُلُّهُ والمعاملةُ في الإيثار"؛ بل هو أفضل الصدقة؛ كون المؤثر يتصدق بالشيء مع محبته له وحاجته إليه؛ فعن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ"(متفق عليه).
والإيثارُ أنواعٌ وصُوَر، مِنْهَا ما يَتَعَلَّقُ بالخالق، ومِنْهَا ما يَتَعَلَّقُ بالخَلْق، وأَعْظَمُ أنواعِه وصُوَرِه:
إيثارُ رِضَا الخَالِقِ على رِضا المخلوق، قال -عليه الصلاة والسلام-:"مَن الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مؤونَةَ النَّاسِ، وَمَن الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ"(رواه الترمذي).
ومِنْ صُوَرِ الإِيْثَار: التَّضْحِيَةُ بالنَّفْسِ في سبيلِ الله؛ لأَنَّ مَنْ أَرَاقَ دَمَهُ لِنُصْرَةِ دِينِ اللهِ فَقَدَ آثَرَ آخِرَتَهُ على دُنْيَاه، وفَضَّلَ مَوْتَهُ في سبيلِ إعلاءِ كَلِمَةِ الله.
وتَجَرُّد النفسِ عن هَواهَا، واتِّبَاعُهَا الحّقَّ ولو خَالَفَ مُبْتَغَاهَا مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ الإِيْثَارِ وأَعْلَاها، وأَعْظَمُهُ إِيْثَارُ الحَقِّ ولو كان فيه هَلَاكُ النَّفْس، كما فَعَلَ السَّحَرَةُ الذين آمنوا بموسى فقالوا لفرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[طه:72].
أيها الناس: لقد كان نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- إِمَامُ المُؤْثِرِيْن وسيدهم، ورَبَّى أَصْحَابَه على الإِيْثَارِ، ودَعَا إِلَيْه قَوْلَاً وَعَمَلاً، فأَصْبَحَ هَدْيَاً نَبَوِيَّاً يَتَمَثَّلُهُ السَّلفُ في حَيَاتِهِم، ومَنْ تَأَمَّلَ الأحاديثَ والآثارَ وجَدَ أَرْوَعَ صُوَرِ الإِيثار؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ فقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُكْسُنِيهَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ"(رواه البخاري)؛ فأي إيثار هذا؟! يعطيه إياها وهو محتاج لها؛ إذ هي إزاره، لكنه صاحب الخلق العظيم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلاَهُ، وَأَيُّكُمْ تَرَكَ مَالاً فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ"(رواه مسلم).
وبهذا الخلق ربى أصحابه، وعلى طريقه ساروا، فقد زرع فيهم الإيثار الجم مع ضِيْقِ العيشِ، وقِلَّةِ ذات اليد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ!. فَقَالَ: مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئي السِّرَاجَ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ. قَالَ: فَقَعَدُوا، وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ"(متفق عليه).
وامْتَدَحَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الأَشْعَرِيِّينَ، وهمُ قَبِيلةُ أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- فقال: "إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا -أي: فَنِيَ زادُهم- فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"(متفق عليه).
وما زَالَ في المسلمين اليومَ مَنْ حَالُهُ كحَالِ الْأَشْعَرِيِّينَ، يتقاسَمُونَ الرَّغِيفَ والمَأْوَى، ويُمَثِّلُونَ الجَسَدَ الواحِد، ويَضْرِبُونَ أَرْوَعَ الأَمثِلةِ في الإيثارِ، لا سيما في أوقاتِ الأَزَمَات، والحروبِ، والكوارثِ والمُلِمَّاتْ، وفي مقابلهم قوم طغى عليهم حب المال، واستوثق من قلوبهم التعلق بالدنيا، فلأجلهما يسعون، ومن خلالهما يعادون ويوالون.
المال للرجل الكريم ذرائعٌ | يبغي بهن جلائل الأخطار |
والناس شتى في الخِلال وخيرُهم | من كان ذا فضلٍ وذا إيثار |
نَسْألُ اللهَ العظيم من فضله، وأن يقينا شح أنفسنا، ويجعلنا من عباده المتقين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المؤمنون: ما من خلق إلا وله سبيل يوصل إليه؛ فالإيثار له عوامل وأسباب يمكن التوصل بها إليه؛ فمنها:
استشعار ما عند الله من الفضل العظيم لعباده المؤثرين، فقد قال في وصفهم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا)[الإنسان: 8-14].
ومنها: تذكر الموت ومفارقة الأهل والولد والمال، وأن هذه الدنيا فانية، ولن يبقى للإنسان إلا ما قدمه لآخرته، حينها تهون في عينه الدنيا، ويدرك أنه جامع للمال لغيره إذا لم يقدمه أمامه، وأن سيفارق أمواله وتجاراته، ولن يبق معه إلا ما أنفقه؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا. قَالَ: بَقِيَ كُلُّهَا، غَيْرَ كَتِفِهَا"(رواه الترمذي).
يا جامعَ المالِ في الدنيا لوارثه | هل أنتَ بالمالِ بعد الموتِ منتفعُ؟ |
قدِّمْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ في مَهَل | فإِن حظكَ بعد الموتِ منقطعُ |
ومنها: أن يستشعر الإنسانِ أن تَفْضِيل نَفْسه على غَيْرِهِ بِحَيْثُ لا يَهْدِفُ إلا لِنَفْعِهِ الخَاصِ يُعَدُّ أَثَرَةً قَبِيْحَةً، وصِفَةً ذَمِيمَة، حَذَّرَ منها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ! فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا"(رواه أبو داود).
فالشُحُّ سِمَةٌ من سِمَاتِ المنافقين، قال تعالى في مَعْرِضِ ذَمْهِّم: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[الأحزاب:19]. ولا يمكن أن يجتمع الشُّحُ والإيمانُ في قلبِ عَبْدٍ أبداً.
عبادَ الله: إن إيثارُ المُؤْثِرِين، وسَخَاءُ الصالحين يُقَابَل بِنَفْسٍ مُتَعَفِّفَةٍ غَيْرِ مُسْتَشْرِفَة؛ فعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: أنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ؛ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ"(متفق عليه).
وتَأَمَّلْ كَيْفَ قَابَلَ عَبْدُ الرحمن بن عَوفٍ -رضي الله عنه- إِيْثَارَ أَخِيْهِ سَعْدِ بنِ الرَّبِيْع حِيْنَ عَرَضَ عَلَيْهِ أن يقَاسِمه مَاله نِصْفَيْنِ، وَأن يطلق إحدى زوجاته ليتزوجها، فكانَ جَوابُ عَبْدِ الرحمن: "بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ. دُلّنِي عَلَى السُّوقِ"(رواه البخاري).
والإيثارُ -عبادَ الله- إنما يكون في أمورِ الدنيا وحظُوظِ النفس، وأما القُرُباتُ والطاعات فلا إيثارَ فيها؛ لأن الحقَّ فيها لله تعالى، بل الأصل أن يكون مسابقاً إليها؛ ولذا قال ربنا –سبحانه-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[المائدة: 48]، وقال عز وجل: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين:26]؛ فكيف يؤثر بالقرب من الله ليبقى بعيداً؟.
اللهم اجعلنا لطاعتك من السابقين، ولجنتك من الوارثين، ولعبادك من المؤثرين، ولك من الشاكرين الصابرين، يا رب العالمين.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...
المصدر: الإيثار؛ للشيخ د. ياسر الطريقي