الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
والتفضيل عند الله تعالى لم يكن بالجاه ولا السلطان ولا المال، ففرعون ما نفعه سلطانه، وهامان ما سرته وزارته، وقارون ما أغنى عنه ماله. ولم يكن القرب من الله بالأحساب والأنساب، فكبار قريش وسادة مكة الذين كانوا أميز الناس حسباً، وأوسطهم نسباً، يتحلقون حول الكعبة ينتظرون ذلك العبد الحبشي بلال بن رباح -رضي الله عنه- وأرضاه يصعد على ظهر الكعبة، وأقدامه فوق هام السادات ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن التقوى منقبة جامعة لصنوف البر و الخير؛ لذلك عظمت عناية القرآن بها، وحسبك أن المواطن التي ذكرت فيها التقوى ومشتقاتها في كتاب الله العزيز قد نيّفت على أربعين ومائتي موطن، تؤمل بالتقوى، وتحث عليها، وتربط الفلاح بها، وتبرز منزلة المتقين في الدنيا والآخرة، عند الله وعند الناس: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [البقرة:189].
فالتقوى خير، ولباسها خير لباس، وزادها أنفع زاد، ويكفيها شرفاً أن الله تعالى أمر عباده بها: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) [الزمر:10]. وفي آية أخرى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197]، وفي ثالثة: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف:26]، وهي وصية الله لنا لمن قبلنا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) [النساء:131].
وللتقوى ثمرات عظيمة، ونتائج كبيرة؛ لأن الله تعالى ما أمر العباد بها وكرر ذلك إلا لعظيم مكانتها عنده تعالى وتقدس؛ لذا كان الجزاء عليها متناسباً مع عظيم منزلتها. ثمراتٌ وفوائد في الدنيا والآخرة، فالعاقبة والنصر لأهلها، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طـه:132]، (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128].
وبالتقوى يفرق العبد بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الضار والنافع، وتغفر له خطيئاته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29].
لا يزال النور يلازم أهل التقوى، نور البصائر مع نور الأبصار؛ لأن البصائر هي التي تعمى، (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]. لكن المتقين حُفِظوا بتقواهم من عمى البصائر، فهم بنور التقوى يوفقون في أعمال دنياهم، وأعمال أخراهم.
وقد جاء النداء القرآني آمراً بالتقوى من أجل الحصول على ذلك النور حتى تستنير به البصائر مع نور الأبصار، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [الحديد:28].
والتفضيل عند الله تعالى لم يكن بالجاه ولا السلطان ولا المال، ففرعون ما نفعه سلطانه، وهامان ما سرته وزارته، وقارون ما أغنى عنه ماله. ولم يكن القرب من الله بالأحساب والأنساب، فكبار قريش وسادة مكة الذين كانوا أميز الناس حسباً، وأوسطهم نسباً، يتحلقون حول الكعبة ينتظرون ذلك العبد الحبشي بلال بن رباح -رضي الله عنه- وأرضاه يصعد على ظهر الكعبة، وأقدامه فوق هام السادات؛ ليعلن النداء بالتوحيد بعد الفتح؛ ما كان بين عبوديته وبين مكانته تلك إلا سنوات قلائل، وعم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو لهب، في نار ذات لهب.
إنه العدل الرباني في إلغاء وسائل التفاضل بين البشر كلها إلا وسيلة التقوى، وهي التي يستطيع أن ينالها كلُ أحد متى ما تخلى عن الشهوات، وسارع إلى الطاعات (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13] أتقاكم! وليس أعزكم حسباً، ولا أوسطكم نسباً، ولا أوفركم مالاً، ولا أعظمكم جاهاً، ولا أقواكم سلطاناً؛ بل أكرمكم أتقاكم، وحسب.
ويكفي المتقين شرفاً معية الله تعالى لهم يحوطهم ويرعاهم ويحفظهم (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) النحل:128، ثم إنهم نالوا ولاية الله تعالى (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الأنفال: من الآية34، فكانت النجاة لهم يوم القيامة، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) [مريم:71-72]، (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61].
ولما كانت النجاة نصيبهم في القيامة كانوا أبعد الناس عن الخوف والحزن، (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف:35]. بُشروا بالجنة، وهل أعدت الجنة إلا لهم؟ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الشعراء:90]، (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً) [مريم:63]، (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد:35]، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133].
ولا تسل عن ندم أهل النار على تقصيرهم في حق التقوى حينما يقول قائلهم: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر:56-57].
والتقوى سهلة النيل لمن وفق الله من عباده؛ لكن، ما أعسرها على من كان عن الرحمة مبعداً! يحصل العبد عليها متى ما تخَلَّى عن الشهوات، وسارع إلى الطاعات. ومَن يستطيع ذلك إلا من كان مِن عباد الله موفقاً؟.
عرف التقوى طلقُ بن حبيب بكلمات مختصرات فقال -رحمه الله تعالى-: "هي العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله؛ وترك معاصي الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله". وقال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه".
أيها الإخوة: ورمضان من أعظم مواسم التقوى، والصيام مسلك من مسالكها؛ لذا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصيام جُنَّةٌ، أي: وقاية يقي أصحابه الفحش والمحرمات، وقد علل الله الصيام بالتقوى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]. فمن أجَلِّ حِكَمِ الصيام الحصولُ على التقوى، ولكن هل فهم المسلمون هذا المعنى من الصيام؟!.
إن كثيراً منهم -وللأسف!- لم يفهموا منه إلا الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح؛ لكنهم عن كثير من الشهوات لم يمسكوا! أمسكوا عما أحل الله لهم لكنهم أفطروا على ما حرم الله عليهم! فأي معنى لهذا الصيام؟ وأي تقوى تنال به؟ يجمع واحدهم حسنات كثيرة من ذكر وقرآن، وصلاة وقيام، وصدقة وإحسان، فما يبرح إلا قليلا حتى ينفق ما جمع من حسنات، ويستزيد عليها سيئات وخطيئات؛ وذلك حين تغرب شمس ذلك اليوم الذي صامه، وتنقضي تراويحه، فينطلق في ميادين الشهوات مع جلساء السوء وأهل الفراغ، في لهو وغفلة، وقيل وقال، وجهل وزور، ونبيكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أ يدع طعامه وشرابه".
ووالله الذي لا يُحلف بغيره! إن ما يُعرض في الفضائيات وغيرها لمن أشد الجهل وأعظم الزور، هدمٌ للعقيدة، ونيل من التوحيد، وتشويه للشريعة، وتمييع للنصوص، وضرب لبعضها في بعض، وأخذ بعضها دون بعض.
جعلوا رمضان مجرد طقوس وعادات، من تعليق الفوانيس، وصنع الحلوى، والاجتماع على البدعة. عرضٌ لنداءات وحداءات وابتهالات تُغني على أنغام الأوتار، في بعضها شرك، وفي سائرها بدعة وعصيان؛ وأما مسابقاتهم فهي الميسِر عينه، وفيها استقسام بالأزلام. هذا ما يخص جانب العبادة عندهم.
أما جوانب الفحش والسوء فلا تسل عنها من عري وانحلال، أوغل في مداعبة الغرائز، حتى نقل الفاحشة من درك المعصية والكبيرة إلى منزلة الفكر والكفر، الفكر تحت شعار الحرية، والكفر بالانطلاق من قيود الدين وتعاليمه؛ لم يكفهم ما يعيشونه من فساد وانحلال، إنما يريدون فرضه على الأمة.
لم يتركوا العباد في محاريبهم حتى نالوا منهم تحت مصطلح الأصولية، ولم يفتؤوا عن تغريب الشعوب المسلمة، وإفساد المرأة المسلمة، والطفل المسلم، وتدمير البيت الآمن.
إذا أراد الناس الفساد بادروا بعرضه، وإذا أرادوا الدين منعوهم منه، وحالوا بينهم وبينه، وبحجة أنهم لا يدركون مصالحهم! وتحت شعارهم الحرية تنتهك الحرية، وتقتل الحرية.
يريد المتحررون المفسدون أن يبقى الدين في المسجد لا يتعدى عتبته؛ ولا يخرج من بابه؛ كما كان دين النصارى في الكنيسة لا يتعداها؛ وأكثر ما يزعجهم أن يكون الدين موجوداً في الأسواق، متغلغلاً داخل البيوت، حاكماً على التعليم والتربية، والاقتصاد والسياسة، والإعلام والصحافة. إنه النفاق الذي أبدوه وأعلنوه.
وينخدع المشاهد المسكين بما يعرضونه في فضائياتهم من برنامج ديني، وهو أبعد ما يكون عن الدين، أو فيه (مزجٌ) لحَقٍّ بِباطل، مع ترسيخ لقاعدتهم القديمة: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!.
يعقب برنامجهم الديني غناء رقيع، أو فليم خليع، أو تقرير بدعة، أو حوار زندقة، تحت مسمى تلاقح الأفكار، وسماع الرأي الآخر، ولو كان ذلك سبّاً للذات الإلهية، أو قدحاً في الدين، أو تشكيكاً في الثوابت والمسلمات.
فيا للصائم المسكين! حقٌ أن يرثى لحاله! حينما أهبطوه من منازل الصيام العالية، وجردوه من معانيه السامية، إلى حضيض الشبهات، ومستنقع الشهوات، ومع ذلك يزعمون أنهم بفضائياتهم مصلحون يريدون الارتقاء بالعقل العربي، والفكر العربي، وهم يُسفون إسفافاً بليغاً، (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:12].
بلى والله! إن أكثرهم يشعرون؛ ولكنهم في طغيانهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) [الأعراف:102] ، فأين التقوى من قلوب هؤلاء؟ وأين التقوى من قلوب المتسمرين أمام الشاشة؟!.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:27-28].
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، تعالى فإنكم في شهر التقوى حيث تتأكد التقوى.
أيها الإخوة: قد يغيب عن ذهن المؤمن معنى الصيام، وحقيقة التقوى، فينجرف مع المنجرفين خلف الجهل والزور؛ ولكنه سرعان ما يُذكر فيتذكر، ويؤوب إلى الله تائباً منيباً؛ وهذا هو وصف المتقين، (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف:201]، يصيب الواحد منهم ذنباً في غفلة وإجلاب من الشيطان، ثم يتذكر عقاب الله وثوابه فيسارع بالتوبة والاستغفار.
ولا تزال الشياطين به تحاول إفساده، شياطين الجن والإنس، في مجالس الباطل واللهو، وعبر الشاشات والأثير (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) [الأعراف:202]، وهو في جهاد معها؛ فإن غلبته الشياطين انفرط من عقد المتقين، وتخلف عن ركب الصائمين؛ وإن تغلب عليها وعلى شهواته، فهو في طليعة المتقين، ولربما قاد ركب الصائمين، وكان من أوائل الداخلين مع باب الريان الذي أعد للصائمين في جنات النعيم.
أيها الإخوة: ما كان هذا إلا تذكيراً في أوائل هذا الشهر المعظم الذي ينشط فيه أهل الباطل، وتتنافس فيه الفضائيات على إفساد صيام الصائمين، وتقوى المتقين؛ ولعل حكمة الله البالغة قد اقتضت أن ينشط شياطين الإنس بغية تغطية الفراغ الذي خلفه إخوانهم من شياطين الجن لما صفدت في رمضان، وكل ذلك امتحان للعباد وابتلاء.
فهذا تذكير، والذكرى تنفع المؤمنين، ومن لا يقبل التذكير والوعظ فأرجو أن لا يكون داخلاً في قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة:206].
فاتقوا الله ربكم، واحفظوا صيامكم، وحَذارِ حَذارِ أن تجمعوا حسنات النهار فتنفقوها في الليل! ثم تكتسبوا أضعافها سيئات وأوزاراً، احفظوا صيامكم، واحفظوا بيوتكم وأهليكم وأولادكم، وقوهم (نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6]، فالأمر ليس بالهين، والحساب عسير، والموت أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من كان عظة وعبرة للناس، ثم صلُّوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...