السيد
كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - المنجيات |
كلما كان العبد أكثر اشتغالاً بالقرآن؛ قراءةً وحفظاً، تعلماً وتعليماً، تدبراً وعملاً، كان أكثر تأثراً به روحياً ونفسياً وإيمانياً وتربوياً وأخلاقياً، وطيب العيش والأنس والراحة لا تكون إلا مع القرآن وبالقرآن.. وكذلك الأمة التي تنشغل...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: الأنبياء السابِقون -عليهم السلام- أوتوا من المُعجزات ما آمَنَ عليه البشر في وقتِهم، ثمَّ انتهَت هذه المُعجزات بموتِهم، لكن معجزة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ستظلُّ مُعجزةً يُدرِكها اللاحقون بعد السابقين، ويراها المتأخرون كما رآها المتقدمون، تلك معجزةٌ تتناسب وطبيعة هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون آخر الأديان، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاه الله إليَّ"(رواه البخاري ومسلم).
أيها الإخوة: استطاع القرآن الكريم أن يَخترق قلوب أعدائه، ولا يزال يؤثر فيها حتى عاد كثير منهم إلى الهدى والإيمان، يقول جبير بن مطعم -رضي الله عنه-: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)[الطور: 35 - 377]، كاد قلبي أن يطير"(رواه البخاري).
واختارت قريش عتبة بن ربيعة ليساوم النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، فكلَّمه كثيرًا وهو مُنصِتٌ له، فلما فرَغ قال: "قد فرغت يا أبا الوليد؟"، قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، فقرأ عليه سورة فصّلت، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ، فأنت وذاك"، فرجع عتبة إلى أصحابه فقال بعضُهم لبعض: نَحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟، قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسِّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم، قالوا: سحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه.
وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة النصارى (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)[المائدة: 83]؛ فالنجاشي -رضي الله عنه- عِنْدما قرأ عَلَيْه جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- صدراً مِنْ سورة مريم بَكَى حتى أخضلَتْ لِحْيَته، وبكت أساقفتُه حتى أخضلَتْ لِحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثُمّ قال لهم النجاشي: "إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى -عليه السلام- لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَة"(سيرة ابن هشام).
والجان الذين استمعوا القرآن أثر فيهم، (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)[الجن: 1-2].
وللملائكة مع القرآن شأن؛ ففي الصحيح أنه بينما أسيد بن حضير -رضي الله عنه- يقرأ في الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكَت فسكتَتْ، فقرأ فجالت الفرس، فسكَت وسكتَتِ الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يَحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجترَّه رفع رأسه إلى السماء، حتى ما يراها، فلما أصبح حدَّث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "اقرأ يا بن حضير، اقرأ يا بن حضير"، قال: فأشفقتُ يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعتُ رأسي فانصرفتُ إليه، فرفعتُ رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجتُ حتى لا أراها، قال: "وتدري ما ذاك؟"، قال: لا، قال: "تلك الملائكة دنَت لصوتك، ولو قرأتَ لأصبحتْ ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم".
أيها الأحبة: إن الآثار الإيمانية والتربوية التي تعود على الفرد المسلم المشتغل بالقرآن كثيرة جدًّا، نذكر منها:
أنه وسيلة الثبات على الدين؛ فقد نص الله -تعالى- على الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً وهي التثبيت، فقال -تعالى- في معرض الرد على شُبه الكفار: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)[الفرقان:32].
فالقرآن يزرع الإيمان ويزكّي النفس بالصلة بالله؛ فالآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله، كما أن القرآن يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين، ويزود المسلم بالتصورات الصحيحة التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقواله.
ومن آثاره الإيمانية والتربوية: أنه باعث على التوبة والرجوع إلى الله، فرب آية يسمعها صاحب كبيرة؛ فينزجر ويرتدع ويعود إلى الله، حكى الذهبي قصة الفضيل وتوبته وتأثره بالقرآن، فقال: "كان الفُضيل بن عياض شاطرًا يقطع الطريق، وكان سبب توبتِه أنه عشق جارية، فبينما هو يَرتقي الجدْران إليها؛ إذ سمع تاليًا يتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...)[الحديد: 16]؛ فلما سَمعها، قال: بلى يا رب، قد آنَ، فرجَع، فآواه الليل إلى خَرِبة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحَل، وقال بعضُهم: حتى نُصبح؛ فإن فُضيلاً على الطريق يقطع علينا. قال: ففكَّرتُ، وقلتُ: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني، وما أرى الله ساقَني إليهم إلا لأرتدعَ، اللهمَّ إني قد تبْتُ إليك، وجعلتُ توبتي مُجاورة البيت الحرام"(سير أعلام النبلاء).
ومن آثاره: أنه يغرس في النفس خشية الله، وهذا أثر إيماني مهم؛ لأنه يبعث على استقامة العبد في شتى أموره، وفي كل تصرفاته، قال -سبحانه-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)[الزمر:23].
ومن آثاره: تقويم السلوك وتهذيب الأخلاق، قال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ)[آل عمران: 164]، قال السعدي: "ويزكيكم أي يطهر أخلاقكم ونفوسكم بتربيتها على الأخلاق الجميلة وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتهم من الشرك إلى التوحيد، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق...، وغير ذلك من أنواع التزكية"، ولما سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خُلُقه القرآن"(أحمد).
ومن آثار القرآن على الفرد: أنه شفاء للأبدان والصدور، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57]، قال الإمام ابن كثير: "يُذْهِبُ ما في القلب مِنْ أَمْرَاضٍ مِنْ شَكٍّ وَنِفَاقٍ وَشِرْكٍ وَزَيْغٍ وَمَيْلٍ، فَالْقُرْآنُ يَشْفِي مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ".
ففي القرآن الشفاء الحسي والمعنوي، وشفاء الأبدان والأرواح، قال الإمام ابن القيم: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة...، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه؛ لمن رزقه الله فهمًا في كتابه".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وبعد:
أيها المؤمنون: إن القرآن الكريم له أثر عظيم على المجتمع المسلم المشتغل به، وكثير من الخطابات القرآنية جاءت تخاطب الأمة جميعها: "يا أيها الذين آمنوا"، وما من شك في أن كل خطاب من هذه الخطابات معني به كل فرد على وجه الخصوص، ومعني به الأمة جميعها على وجه العموم.
وكما أن المشتغل بالقرآن يسيطر القرآن على مشاعره، ويحدث التغيير في قلبه وجوارحه، فكذلك الأمة التي تنشغل بالقرآن لا بد أن القرآن سيسيطر على اتجاهاتها، ويحدث التغيير فيها بأسرها، وكما أن القرآن يعرف العبد بربه ويربطه به -سبحانه-، ويكون باعثًا له على خشية الله والفزع إلى ذكره، فكذلك في الأمة يربطها بربها، ويكون باعثًا لها على الفزع إلى طريق الله في كل أمورها ومعاملاتها.
وفي القرآن شرف الأمة وعزها، يقول الله -تعالى-: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[الأنبياء10]، قال الطبري: "عني بالذكر في هذا الموضع الشرف، ومعنى الكلام لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه شرفكم...، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه"، وقال البغوي: "وهو شرف لمن آمن به".
والقرآن الكريم يحمل المجتمع المسلم على الحكم بشريعة الله في طريقة أداء عباداته، وفي معاملاته وأخلاقه وسلوكياته، وقضائه.
ولننظر إلى التأثير القرآني في مجتمع الصحابة والرعيل الأول لهذه الأمة، فقد كانوا أكثر الناس اشتغالاً بالقرآن الكريم وأعظمهم اتباعاً له، كيف فتح الله لهم البلاد، فأصبحوا بالقرآن الكريم سادةً وقادة يدين لهم الكثير من أهل الأرض بالطاعة والولاء، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى ليرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين"(رواه مسلم).
عباد الله: ولما كان للقرآن ذلك الأثر العظيم على النفوس خشي المشركون على أبنائهم أن يتأثَّروا به حين يَسمعونه من المسلمين، فحين خرج أبو بكر يريد الهجرة إلى الحبشة، لقيَه ابن الدغنَّة، قال له: فإن مثلك يا أبا بكر لا يُخرَج ولا يَخرُج؛ فأنا لك جارٌ، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجَع وارتحل معه ابن الدغنَّة، فطاف ابن الدغنة عشيَّةً في أشراف قريش، فقال لهم: إنَّ أبا بكر لا يُخرَج مثله ولا يَخرُج، فقالوا: مُرْ أبا بكر فليَعبُد ربه في داره، فليُصلِّ فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يَستعلن به؛ فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
عباد الله: كلما كان العبد أكثر اشتغالاً بالقرآن؛ قراءةً وحفظاً، تعلماً وتعليماً، تدبراً وعملاً، كان أكثر تأثراً به روحياً ونفسياً وإيمانياً وتربوياً وأخلاقياً، وطيب العيش والأنس والراحة لا تكون إلا مع القرآن وبالقرآن.
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
المصدر: أثر القرآن الكريم؛ للشيخ د. سليمان بن حمد العودة