العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
ولأهمية صلاة الليل في حياة المسلم، وأثرها في صلاح قلبه، واستقامة دينه، وثبات أمره؛ كانت فرضًا في أول الإسلام، وقام الصحابة -رضي الله عنهم- حتى ورمت أقدامهم من طول القنوت، ثم خفف الله تعالى عن المسلمين فرفع فرضها وأبقى فضلها، وفي هجرة النبي -صلى الله عليه وسلّم- للمدينة كان قيام الليل من أوائل ما حض النبي -صلى الله عليه وسلّم- عليه، ودعا الناس إليه، ورغبهم فيه...
أما بعد: فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واغتنموا ما بقي من أعماركم فيما ينفعكم، وأحسنوا ختام شهركم، واستعدوا لما أمامكم بالأعمال الصالحة؛ فإن الكيس الفطن من عمَّر آخرته في دنياه، وسابق في مغفرة ربه ورضاه، ألا وإن الأعمار مستودع الأعمال، وكلٌّ يجد غدًا ما استودعه فيها من خير وشر: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ) [آل عمران: 30].
أيها الناس: هذه الليالي المباركات من ليالي الرب -جل جلاله-؛ تتنزل فيها رحماته، وتَعْظُم هباته، ويعتق خلقًا كثيرًا من عباده من النار، وأحظى الناس بذلك من عمروا هذه الليالي بطول القنوت، والتدبر والخشوع، وكثرة الركوع والسجود، وألحُّوا على الله تعالى بالدعاء في أوقات تجليه سبحانه لعباده، ونزوله إلى سماء الدنيا؛ ليعطي السائلين، ويغفر للمستغفرين، ويجيب دعاء الداعين، بينما غيرهم في سبات ورقدة، أو لهو وغفلة.
إن هذه الليالي العظيمة هي ليالي الذكر والقرآن والدعاء والقيام، وصلاة الليل هي أفضل الصلاة بعد الفريضة كما جاء في الحديث، وثلث الليل الآخر هو أفضل أجزاء الليل: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:6]. وقد أمر الله تعالى بصلاة الليل ورغب فيها، وحضَّ العباد عليها في كثير من الآيات فقال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) [الإسراء:79]، وفي آية أخرى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) [الإنسان: 26].
وأثنى سبحانه على المتهجدين فقال في وصفهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) [السجدة: 16].
ولأهمية صلاة الليل في حياة المسلم، وأثرها في صلاح قلبه، واستقامة دينه، وثبات أمره؛ كانت فرضًا في أول الإسلام، وقام الصحابة -رضي الله عنهم- حتى ورمت أقدامهم من طول القنوت، ثم خفف الله تعالى عن المسلمين فرفع فرضها وأبقى فضلها.
وفي هجرة النبي -صلى الله عليه وسلّم- للمدينة كان قيام الليل من أوائل ما حض النبي -صلى الله عليه وسلّم- عليه، ودعا الناس إليه، ورغبهم فيه؛ كما في حديث عبد الله بن سَلامٍ -رضي الله عنه- قال: لَمَّا قَدِمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ الناس إليه، وَقِيلَ: قَدِمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- فَجِئْتُ في الناس لأَنْظُرَ إليه، فلما اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ ليس بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قال: "يا أيها الناس: أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ". رواه الترمذي وابن ماجه.
وأهل قيام الليل موعودون بغرف حسنة في أعالي الجنان؛ كما في حديث عَلِىٍّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: "إن في الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا من ظُهُورِهَا، وَظُهُورُهَا من بُطُونِهَا"، فقال أعرابي: يا رَسُولَ الله: لِمَنْ هي؟! قال: "لِمَنْ أَطَابَ الْكَلاَمَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَصَلَّى لله بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ". رواه الترمذي وصححه.
وجاء في حديث اختصام الملأ الأعلى: "وَالدَّرَجَاتُ بَذْلُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلاَمِ، وَالصَّلاَةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ". رواه أحمد.
وأهل قيام الليل هم أهل ذكر، وليسوا أهل غفلة، وقد قال الله تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلّم-: "من اسْتَيْقَظَ من اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جميعًا كُتِبَا من الذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ". رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلّم- بالرحمة لكل من قام من الليل فأيقظ أهل بيته للصلاة؛ كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: "رَحِمَ اللهٌ رَجُلاً قامَ من اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ في وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ الله امْرَأَةً قَامَتْ من اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ في وَجْهِهِ الْمَاءَ". رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
والمحافظة على قيام الليل من أعظم ما يُغبط عليه صاحبه؛ لأن أكثر الناس لا يطيقون الديمومة عليه، ويشغلون عنه بما هو دونه من النوم أو اللهو أو الدنيا؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلّم-: "لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ الله الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناء اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ". رواه مسلم.
وقيام الليل سبب لترك المعاصي، والإقبال على الله تعالى؛ كما جاء في القرآن: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]، وقيام الليل هو أفضل صلاة التطوع، وجاء في المسند من حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: جاء رَجُلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلّم- فقال: إن فُلاَناً يصلي بِاللَّيْلِ، فإذا أَصْبَحَ سَرَقَ! قال: "إنه سَيَنْهَاهُ ما تقول". رواه أحمد وصححه ابن حبان.
ومن جاهد نفسه على قيام الليل مع شدة الداعي إلى النوم والراحة، ومغالبة السهر والتعب؛ فله ما سأل جزاءً من الله تعالى على جهاده لنفسه، وقيامه لربه -سبحانه وتعالى-؛ كما في حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلّم- يقول: "رَجُلاَنِ من أمتي يَقُومُ أَحَدُهُمَا مِنَ اللَّيْلِ فَيُعَالِجُ نَفْسَهُ إلى الطَّهُورِ وَعَلَيْهِ عُقَدٌ فَيَتَوَضَّأُ، فإذا وضأ يَدَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وإذا وضأ وَجْهَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وإذا مَسَحَ رَأْسَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وإذا وضأ رِجْلَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فيقول الرَّبُّ -عز وجل- لِلَّذِينَ وَرَاءَ الْحِجَابِ: انْظُرُوا إلى عَبْدِي هذا يُعَالِجُ نَفْسَهُ، ما سألني عبدي هذا فَهُوَ له". رواه أحمد وصححه ابن حبان.
ولما في قيام الليل من الفضائل والمنافع فإن النبي -صلى الله عليه وسلّم- كان يدعو أهله وآل بيته له، كما دعا إليه عليًّا وفاطمة -رضي الله عنهما-.
وأوصت عائشة -رضي الله عنها- عبد الله بن أبي قيس بقيام الليل، ورغبته فيه، فقالت -رضي الله عنها-: "لاَ تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ؛ فإن رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلّم- كان لاَ يَدَعُهُ، وكان إذا مَرِضَ أو كَسِلَ صلى قَاعِدًا". رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة.
فكيف إذا أُضِيف إلى هذه الفضائل العظيمة لقيام الليل شرفُ الزمان والمكان، وفضيلةُ اجتماع المسلمين في المساجد على التهجد في هذه الليالي الفاضلة؟! وقد جاء عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلّم- قال: "من قام رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ". متفق عليه.
وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "من قام لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ". رواه الشيخان.
فهنيئًا لمن وفَّقه الله تعالى لإحياء هذه الليالي الفاضلة بالصلاة والقرآن والدعاء، وهو مخلص لله تعالى في عمله؛ فإنه على خير عظيم، ويا خسارة من ضيعها في اللهو والغفلة، وواجب عليه أن يبادر إلى التوبة، ويغتنم ما بقي من هذا الشهر الكريم، فعسى أن يعوض ما فاته منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزُّمر: 9].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أيها الناس: من اعتاد على قيام رمضان فإنه قادر -بإذن الله تعالى- على أن يحافظ بعد رمضان على قدر من القيام في أول الليل أو آخره وذلك أفضل، ولا يهجر قيام الليل إلى رمضان القابل، وقد جاء في حديث عبد الله بن عَمْرِوٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: "من قام بِعَشْرِ آيَاتٍ لم يُكْتَبْ من الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قام بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ من الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قام بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ من الْمُقَنْطِرِينَ". رواه أبو داود.
واعلموا -عباد الله- أن الله تعالى قد شرع لنا زكاة الفطر؛ ترقع ما تخرق من صيامنا، وتنفع المساكين من إخواننا، كما روى ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: "فَرَضَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ من اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، من أَدَّاهَا قبل الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ من الصَّدَقَاتِ". رواه أبو داود.
وهي صاع من طعام، تؤدى قبل صلاة العيد، ويجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين؛ كما فعل الصحابة -رضي الله عنهم-، روى ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَال: "فَرَضَ رَسُولُ الله زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بها أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلى الصَّلاةِ". رَوَاهُ الشَّيْخَان.
وَفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَاري قَالَ نَافِعٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-: "فَكَانَ ابْنُ عَمَرَ يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، حَتَى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِيَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما– يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَها، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَين".
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومن المسلمين، وأن يخلف رمضان علينا بخير، وأن يجعلنا من عباده الصالحين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...