الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
فإنَّه واللهِ حديثٌ مخيفٌ تنخلعُ منه قلوبُ الصَّالحينَ.. أن يَلِجَ هؤلاءِ النَّارَ قبلَ عُبَّادِ الأوثانِ والمُشركينَ.. ولكنَّها النِّيةَ يا عبادَ اللهِ التي قالَ عنها سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي، إِنَّهَا تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ".. إنَّها مدارُ العملِ وأساسُ القَبولِ، فليراجعُ كلٌّ منَّا نيتَه.. وهل أنتَ تريدُ بعملِك الصَّالحِ وجهَ اللهِ -تعالى- أو من أجلِ أن يقالَ: فلانٌ كذا وكذا، كما كانَ أولئكَ.. فلا أحدَ يعلمُ ما في قلبِك إلا أنتَ وربُّ العالمينَ.. وما ربُّكَ بظَّلامٍ للعبيدِ.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ، الفردِ الصمدِ،لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكنْ له كُفواً أحداً، أمرَ بإخلاصِ العبادةِ له فقالَ: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 4]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جعلَ قبولَ الطَّاعةِ متعلقاً بالإخلاصِ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، أمرَه اللهُ بالإخلاصِ له فقالَ: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) [الزمر: 2]، وعلى آلِه وأصحابِه المؤمنينَ المخلصينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
وإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِّ هديُ محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بِدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ.
عبادَ اللهِ..
قَارِئٌ لكتابِ اللهِ -تعالى- حَسَنُ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ.. إذا رَتَّلَ كلامَ الْمَنَّانِ.. خشعتِ القلوبُ وصَغَتِ الآذانُ.. وإذا تَلا الآياتِ الحِسانَ.. ازدادَ إيمانُ أهلِ الإيمانِ.. كما قالَ العزيزُ الرَّحمنُ: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال: 2].. كانَ النَّاسُ يُقدِّمونَه في صلاتِهم امتِثالاً لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ".. وكانوا يُكرمونَه إجلالاً وتعظيماً لذي الجلالِ الإكرامِ.. كما قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ".
وكانوا يَعرفونَ له قَدْرَه بما يحملُ في صدرِه من كتابِ اللهِ سُبحانَه.. قالَ نِافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ: لَقِيتُ عُمَرَ بِعُسْفَانَ -وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ- فَقَالَ: مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟، -يعني مكَّةَ-، فَقَالَ ابْنَ أَبْزَى قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى؟، قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ.. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ"..
ماتَ ولا زالتْ تلاواتُه العَطرةُ في الأشرطةِ والإذاعاتِ.. وشَهدَ له الجميعُ بالقراءةِ والتجويدِ وحُسنِ الأداءِ.. ولكن.. في الآخرةِ حدثَ ما لم يكنْ في الحُسبانِ.
رجلٌ قد أنعمَ اللهُ عليه بالمالِ الوفيرِ.. قد فتحَ بيتَه للمحتاجِ والمسكينِ والفقيرِ.. له في كلِّ أوجهِ الخيرِ سهمٌ.. فهو كريمٌ مُتَصدِّقٌ شهمٌ.. كم من كُربةٍ نفَّسَها.. وكم من عسيرةٍ يسَّرَها.. وكم كانَ في عونِ العِبادِ.. حتى قالَ بعضُهم هنيئاً له قولَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،.. وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ".. ماتَ ولا زالتْ الأوقافُ التي أوقفَها.. والصَّدقاتُ الجاريةُ التي أجراها.. وقد قالَ عليه الصَّلاةٌ والسَّلامُ: "إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثَةِ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".. ولكن.. في الآخرةِ حدثَ ما لم يكنْ في الحُسبانِ.
مجاهدٌ شُجاعٌ لا يَعرفُ الخوفَ.. لا تجده إلا في أوائلِ الصُّفوفِ.. له في المعاركِ مواقفُ وجَولاتٌ وصَولاتٌ.. وله في خَيالِ الأعداءِ ذِكرياتٌ مُخيفاتٌ.. وأيُّ عملٍ كالجهادِ في سبيلِ اللهِ -تعالى-.. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا أَنَالُ بِهِ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: "هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُصَلِّيَ فَلَا تَفْتُرُ وَتَصُومَ فَلَا تُفْطِرُ؟"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَضْعَفُ مِنْ أَنْ أَسْتَطِيعَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ طُوِّقْت ذَلِكَ مَا بَلَغْتَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"..
هذا المجاهد قُتلَ في إحدى المعاركِ الكبيرةِ.. وهو مُقبلٌ بعدَ جِراحٍ خطيرةٍ.. ماتَ ولا زالتْ ذِكراهُ خالدةٌ.. فالأجيالُ يتذاكرونَ سيرتَه العطرةَ المجيدةَ.. واسمه في الكُتبِ وعلى الشوارعِ والمدارسِ الجديدةِ.. ولكن.. في الآخرةِ حدثَ ما لم يكنْ في الحُسبانِ.
وقد تقولونَ: ما الذي سيحدثُ في الآخرةِ؟.. وهل يتمنى الإنسانُ أن يأتيَ يومَ القيامةِ.. إلا بما أتى به أحدُ هؤلاءِ الأخيارِ الكِرامِ.. فمن مثلُ قارئ لكتابِ اللهِ الكريمِ.. أو مُتصدِّقٍ في أوجهِ الخيرِ كريمٍ.. أو مُجاهدٍ في سبيلِ اللهِ شهيدٍ.. فأقولُ.. اسمعوا معي لهذا الحديثِ.. واصغوا إليه بقلوبِكم قبلَ آذانِكم:
جاءَ في الحديثِ أَنَّ شُفَيًّا الْأَصْبَحِيَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟، فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: "أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ، لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ".
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً –أيْ: شَهِقَ ثُمَّ أُغمِيَ علِيهِ- فَمَكَثَ قَلِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى، ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ، فَقَالَ : لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ، وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى، ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ، فَقَالَ: أَفْعَلُ لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وَأَنَا مَعَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ:
"حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، أَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟، قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟، فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ -تعالى- لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عَلَى رُكْبَتِي ، فَقَالَ : "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قَالَ الْوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا، فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ، وَقُلْنَا: قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ، ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15- 16].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ.. وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ.. أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي إليه وحدَه تُرفعُ الأيدي بالحاجاتِ، والذي يجبُ أن تُخلصَ له الطاعاتُ والعباداتُ.. أحمدُه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، يملأُ الأرضَ والسمواتِ.. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه المرسلَ بالآياتِ الواضحاتِ، والدلائلِ القاطعاتِ، الآمرَ أمتَه بإصلاحِ النيَّاتِ.. صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه الهُداةِ، وأصحابِه الثِّقاتِ، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى ما بعدَ المماتِ..
أما بعد: فإنَّه واللهِ حديثٌ مخيفٌ تنخلعُ منه قلوبُ الصَّالحينَ.. أن يَلِجَ هؤلاءِ النَّارَ قبلَ عُبَّادِ الأوثانِ والمُشركينَ.. ولكنَّها النِّيةَ يا عبادَ اللهِ التي قالَ عنها سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي، إِنَّهَا تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ".. إنَّها مدارُ العملِ وأساسُ القَبولِ، فليراجعُ كلٌّ منَّا نيتَه.. وهل أنتَ تريدُ بعملِك الصَّالحِ وجهَ اللهِ -تعالى- أو من أجلِ أن يقالَ: فلانٌ كذا وكذا، كما كانَ أولئكَ.. فلا أحدَ يعلمُ ما في قلبِك إلا أنتَ وربُّ العالمينَ.. وما ربُّكَ بظَّلامٍ للعبيدِ.
يا أهلَ الإيمانِ..
من كانَ من أهلِ الصِّدقِ فلا ينبغي له أن يخافَ ولا يحزنَ.. فإن من يصدقُ مع اللهِ -تعالى- فإنَّه لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً.. عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ -رَضيَ اللهُ عَنهُ-، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟، قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَقَالَ: مَا هَذَا؟، قَالَ: "قَسَمْتُهُ لَكَ"، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: "إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ".
فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "أَهُوَ هُوَ؟"، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ"، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: "اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ".
اللهم ارزقنا الإخلاصَ في القولِ والعملِ، واجعل كلَّ أعمالِنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.. اللهمَّ إنا نسألُك خشيتَك في الغيبِ والشَّهادةِ، وكلمةَ الحقِّ في الغضبِ والرِّضا، والقصدَ في الفقرِ والغِنى.. اللهمَّ إنا نسألُك عيشَ السُّعداءِ وموتَ الشُّهداءِ والحشرَ مع الأتقياءِ ومرافقةَ الأنبياءِ ونعوذُ بك ربي من جَهدِ البلاءِ ودركِ الشَّقاءِ وسُوءِ القَضاءِ وشَماتةِ الأعداءِ.