النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - أركان الإيمان |
وإذا كان الملائكة والجنّ لا يعلمون الغيب، فالإنس أولى منهم بذلك، وإذا نظرنا في القرآن الكريم نجده لا ينفي علم الغيب عن عامة الإنس فحسب، بل ينفيه تعالى عن خير خلقه، وهم رسله -صلوات الله وسلامه عليهم-...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوب إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها المسلمون: إنَّ من المسائل العقدية التي بيَّنها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه أتمَّ بيان، وأوضحها أتمَّ إيضاح، مسألة تفرده -سبحانه- بعلم الغيب وحده، قال تعالى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)[النمل:65]، وقال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)[الأنعام:59].
أيها المؤمنون: لقد نفى الله -عز وجلَّ- عن كلِّ أحدٍ -مهما علا قدرُه- معرفته بالغيب إلا بما أطلعه الله عليه، فهؤلاء الملائكة الذين لا يعصون الله شيئاً، ويفعلون ما يؤمرون، نفى الله عنهم علم الغيب، قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[البقرة:31-32].
وبين الله -سبحانه وتعالى- أن الجنَّ لا يعلمون الغيب، فقال تعالى في قصّة موت سليمان -عليه الصلاة والسلام-: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)[سبأ:14].
لقد كانت الجن تعمل بين يدي سليمان -عليه الصلاة والسلام- ويظنُّون أنه حيٌّ وقد مات، وهم ينظرون إليه، ولا يشعرون بأنه قد مات منذ زمان بعيد، وهم يكدحون ويتعبون خائفين منه، ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وفاة سليمان -عليه السلام- ولما أقاموا في العذاب المهين، وقال -سبحانه- على لسان الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)[الجن:10].
عباد الله: وإذا كان الملائكة والجنُّ لا يعلمون الغيب، فالإنس أولى منهم بذلك، وإذا نظرنا في القرآن الكريم نجده لا ينفي علم الغيب عن عامة الإنس فحسب، بل ينفيه تعالى عن خير خلقه وهم رسله -صلوات الله وسلامه عليهم-، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة:109].
وأمر الله أوَّلَ الرُّسل نوحاً -عليه السلام- أن ينفي عن نفسه علم الغيب، عندما ظنَّ فيه قومه أنه قد يعلم الغيب، قال تعالى: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)[الأنعام:50].
وعيسى -عليه السلام- يقول حين يسأله ربُّه عن عبادة قومه له: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة:116].
وهذا آخر الرُّسل محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)[الأعراف:188]، وقال أيضاً: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)[الأحقاف:9]؛ فهذا هو حال الرسل أولهم وآخرهم ينفون عن أنفسهم معرفتهم بعلم الغيب، واستئثار الله به وحده.
أيها الناس: ومع هذا الوضوح الذي جاءت به الآيات القرآنية في نفي علم الغيب عن المخلوقين حتى ولو كانوا ملائكة مطهرين أو رسلاً مقربين، إلا أنه يوجد من يدعى علم الغيب، وكلُّ من ادَّعى علم الغيب فهو كافر؛ لأنه مكذِّب بنصوص القرآن والسنة، فادّعاء علم الغيب ينافي التوحيد بالكلية.
ويتخذ ادِّعاء علم الغيب صوراً وطرقاً مختلفة، منها ما هو قديم، ومنها ما هو جديد مستحدث في هذا الزمان؛ فمنهم الذين يدعون علم الغيب عن طريق الكهانة، والعرافة، والشعوذة، أو عن طريق الكشف بزعمهم.
ومن الطُّرق لمعرفة الغيب والمستقبل -كما يزعمون- استخدام حروف "أبجد هوز" حيث يؤلفون بين الأحرف فيخرجون بخرافات لا تحصى في هذا الباب، وقوم يدعون علم الغيب بما يسمى الخطّ على الرمل، وآخرون بقراءة الفنجان، وقراءة الكفّ، وكلُّ هؤلاء متلبِّسون بأحوال كفرية ونزعات شيطانية، فكيف إذا أضيف إلى ذلك دعاء الجنّ وعبادتهم، أو التلبس ببعض الأحوال الكفرية الأخرى، وقلَّ أن يخلوَ أحدٌ منهم من شيء من ذلك.
ومن طرق ادعاء علم الغيب: التنجيم، باعتقاد أنَّ للنجوم تأثيراً وتصرفاً، وأنَّه يمكن التعرف بحركاتها وأبراجها وسيرها في السماء على ما يحصل في الأرض من الحوادث، ومن السعود والنحوس، والأفراح والأحزان، وهذا هو شركُ قوم إبراهيم -عليه السلام-؛ فإنهم كانوا يعبدون النجوم ويعتقدون تأثيرها عليهم، وأنه يمكن معرفة ما سيحصل للإنسان بتعلم منازل الفلك وأبراج النجوم، وهذا شركُ خواصّ المشركين؛ كما قال ابن القيم -رحمه الله-.
وقد انتشرت صناعة التنجيم في العصر الحديث انتشاراً كبيراً، وأصبح التنجيم في أغلب صوره وسيلة من وسائل ابتزاز أموال الآخرين، وله وسائل ساعدت في نشره، من ذلك: الصحف والمجلات وغيرها من وسائل الإعلام، وهذه من أوسع طرق نشر التنجيم، ويكون التنجيم عادةً في هذه المجلات والصحف تحت عنوان "الأبراج" أو "أبراج الحظ"، ويستخدمون في كتابتها طرق التمويه والكذب والخداع، ويكتفون بالكلام المجمل، فيعلقون قلب القارئ بكلام عام مجمل، فيظنُّ صوابَه الجاهل.
وتجد الجهلة من المسلمين مولَّعين بقراءة هذه الأبراج، فيقول: أنا برجي كذا، وولدت في برج كذا، فما هو حظي، وماذا سيحصل لي؟ فيقرأ هذه الأعمدة في الصحف والمجلات، وهذا حرامٌ لا يجوز، فلا تجوز كتابتها ولا نشرها، ولا قراءتها؛ لأنها من أبواب الشرك، حتى لو قال: أقرأها وأنا أعلم أنَّ ما فيها باطل، وإنما أتسلى، فيقال له: لا يَتسلَّى مؤمنٌ يؤمنُ بأنَّ الله وحده هو الذي يعلم الغيب، بمثل هذا الشرك والكفر وادِّعاء ما لله من صفة علم الغيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين نبينا محمد، وآله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
يا أمة محمد: أصبحت الفضائيات من وسائل نشر التنجيم والكهانة، وإدخال الكهان والمنجمين إلى بيوت المسلمين؛ فهناك قنوات أفسحت المجال للسحرة والكهنة والمنجمين، من خلال إعلانات لأدعياء العلاج الروحاني، بل الشيطاني الكفري؛ ذاك يجلب الحبيب، وتلك تعيد المطلقة، يدَّعون علم الغيب، ويُخبرون المتَّصل بهم بأمور غيبية!
فمتصلة تسأل عن مرضها؟ وأخرى هل ستتزوج أم لا؟ وثالثة كم سيأتيها من الأولاد؟ ورابعة تستفسر عمن عمل لها سحراً؟! وخامسة تشكو مشاكلها الزوجية؟ وهكذا أغلب المتصلين على هذه القنوات والبرامج من النساء الجاهلات، وقد فسح لهنَّ الأزواج والآباء المجال للجلوس ومتابعة هؤلاء الكفرة المشركين من السحرة والدجالين، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون: لقد حذركم حبيبكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اقتبس شعبة من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد"(رواه أبو داود).
قال ابن تيمية: "فقد صرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ علم النجوم من السِّحر وقد قال تعالى: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)[طه:69]؛ وهكذا الواقع فإنَّ الاستقراء يدل على أن أهل النجوم، لا يفلحون لا في الدنيا ولا في الآخرة".
وأما حكم الساحر فقد بيَّنه الله تعالى في قوله: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ )[البقرة:102]؛ فكيف يليق بك -أيها المسلم- بعد هذا أن تترك بيتك مفتوحاً أمام هؤلاء الكفرة من السحرة والدجالين، يخربون عقائد من ولَّاك الله أمرهم من الزوجات والبنات والأولاد ويتلاعبون بدينهم؟!
ألم يقُل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"؟، هذا إذا أتى إلى المنجم أو الكاهن أو العراف الذين يدعون معرفة الغيب فسألهم فقط ولم يصدقهم، وبعض المسلمين اليوم يأتون بهؤلاء الكهنة إلى بيوتهم عن طريق هذه القنوات الفضائية، فمن سألهم عن حظه أو مستقبله أو غير ذلك من أمور الغيب فصدقهم كان كافراً بالله تعالى، مكذباً لصريح القرآن الذي فيه أن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد".
فالمسألة خطيرة جداً على عقيدة المسلم، ولا يجوز لمؤمن أن يترك هذا القنوات في بيته أبداً، إن كان مؤمناً حقاً، ويخشى أن يدخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"؛ لأنّ مشاهدتها تشبه الحضور عند هؤلاء السحرة والكهان، مع ما في ذلك من خطر التأثر بها، وربما تصديق دجاجلتها فيقع في الكفر من حيث لا يشعر.
ولا يشك عاقل في أنَّ هذه القنوات التي تبث السِّحرَ والكهانة تفرغ قلوب مشاهديها والمتصلين بها من محبة الله تعالى والتعلق به، إلى التعلق بشياطين الإنس في سحرهم وتنجيمهم، وربطهم بشياطين الجن؛ فيرجون نفعهم، ويخافون ضرهم، نعوذ بالله تعالى من الإثم والضلال.
فحري بكلِّ مسلم أن يَحذَر ويُحذِّر من هذا البلاء الماحق الذي غزا المسلمين في عقر دورهم، يستهدف دينهم، ويدمر توحيدهم، ويفسد قلوبهم، ويستنزف أموالهم.
فالحذر الحذر فإن الأمر خطير، وعلى المؤمن أن يحفظ عقيدته وإيمانه، وماذا عنده أغنى من الإيمان والتوحيد؟ فليحافظ المؤمن عليه وليعُضّ عليه بالنواجذ.
ألا صلوا وسلِّموا على الحبيب المصطفى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).