الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أسماء الله |
فكم هو عظيمٌ ذلك الستر! وكم هو جميل ذلك اللباس الذي يُلبِسه ربنا -عز وجل- لعباده! ويأبى بعض الخَلْق إلا أن يكشفَ ذلك الستر، وينزع ذلك الرداء، فيسقط منه الحياء. يَا من لهُ سترٌ عليّ جميلُ *** هل لي إليكَ إذا اعتذرتُ قبولُ أيّدتني ورحمتني وسترتني *** كرَماً فأنتَ لمن رجاك كفيلُ
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن العبد بطبيعته يقع في الذنب تلو الذنب، ويقارف المعصية تلو المعصية، وربه الرحيم يستره ولا يفضحه، ويمهله ولا يعاجله؛ وذلك أنه -سبحانه- هو الستير على عباده.
وهو الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ | عندَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بالعِصْيَانِ |
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ | فَهْوَ السَّتِيرُ وصَاحِبُ الغُفْرَانِ |
عباد الله: إن لله -سبحانه- أسماءً هي من أحسن الأسماء، وصفاتًا هي من أكمل الصفات، قال -أعز القائلين-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)[الأعراف: 180]، ومن أسمائه الحسنى: الستير، وهو صيغة مبالغة من الستر، ومعناه: أنه يحبُّ السّتر والصّون لعباده ولا يفضحهم، كما أنه يحب من عباده الستر على أنفسهم والابتعاد عما يشينهم، وقيل: معناه المنع والابتعاد، ويتجلى هذا المعنى في حديث عائشة -رضي الله عنها-؛ حيث قالت: "جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها، فقسمتها بين ابنتيها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فحدثته فقال: من يلي من هذه البنات شيئًا فأحسن إليهن كن له سترًا من النار" (متفق عليه).
وقد ورد ذِكْرُ هذا الاسم في السنة النبوية في أكثر من موطن، ففي حديث يعلى بن أمية -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- رأى رجلًا يغتسلُ بالبرازِ، فصعدَ المنبرَ، فحمدَ اللهَ، وأثنى عليهِ، ثمَّ قالَ: "إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- حييٌّ ستيرٌ، يحبُ الحياءَ والسترَ، فإذا اغتسلَ أحدُكمْ فليستترْ" (صححه الألباني).
أيها الناس: إن المتأمل في اسم الله الستير يجد عظيم ستر الله على عباده؛ فمن صور ستر الله لهم:
أن يرفع العقوبة عن العاصين، بل ويقيض لهم من الأسباب ما ينالون به ستره، ويفتح لهم باب التوبة والندم، قال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25]، وقال عز شأنه: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 104].
ومن ستره -جل وعلا- أنه لا يفضح العبد عند أول ذنب، ولكنه يمهله ويستره؛ لعله يتوب إليه ويستغفره، فقد روى ابن وهب بسنده عن أنس قال: "أُتِي عمر بن الخطاب بسارق، فقال: والله ما سرقتُ قط، فقال له عمر: كذبتَ ورب عمرَ، ما أخذ الله عبدًا عند أول ذنب، فقطَع يده".
ومن ستره -سبحانه- أنه يكره من عبده إذا اقترف ذنبًا أن يذيعه وينشره، فكما أن الله ستره وقت مقارفته له فلا يهتك ستر الله عليه بالإعلان والمجاهرة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ، فيقولَ: يا فلانُ، عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ" (متفق عليه).
فكم هو عظيمٌ ذلك الستر! وكم هو جميل ذلك اللباس الذي يُلبِسه ربنا -عز وجل- لعباده! ويأبى بعض الخَلْق إلا أن يكشفَ ذلك الستر، وينزع ذلك الرداء، فيسقط منه الحياء.
يَا من لهُ سترٌ عليّ جميلُ | هل لي إليكَ إذا اعتذرتُ قبولُ |
أيّدتني ورحمتني وسترتني | كرَماً فأنتَ لمن رجاك كفيلُ |
وَعصيتُ ثمّ رأيتُ عفوكَ واسعاً | وعليّ ستركَ دائماً مسبولُ |
فلكَ المحامدُ والممادح في الثناء | يا مَن هو المقصود والمسؤولُ |
أيها المؤمنون: إنه لا غنى لعبد عن ستر الله أبدًا، فمن نعم الله علينا أن ستر القبائح عن أعين الناس، فماذا لو كشف الله الستر عن ذنوبنا؟ ماذا لو أصبحنا وذنوبنا مكتوبة على جباهنا يراها الخلق؟ أما والله لولا ستر الله علينا لما جالَسَنا أحدٌ، ولو كانت لذنوبنا رائحة لما رافقنا أحد، فاللهم لك الحمد.
وستر الله -تعالى- له أسباب للفوز به، والحصول عليه، ومنها:
الإخلاص واجتناب الرياء، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ" (متفق عليه).
ومنها: ترك المجاهرة بالذنوب والتوبة منها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ، فيقولَ: يا فلانُ، عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ" (متفق عليه).
ومن الأسباب: ستر المسلمين، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلوات ربي وسلامه عليه- قال: "لا يستر عبد عبداً في الدنيا؛ إلا ستره الله يوم القيامة" (مسلم)، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ" (متفق عليه). وقال ميمون: من أساء سرًّا فليتب سرًّا، ومن أساء علانية فليتب علانية؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُوْنَ وَلاَ يَغْفِرُوْنَ، وَالله يَغْفِرُ وَلاَ يُعَيِّرُ.
يروي لنا أهل السير أن جَرِير بن عبدالله البَجَلي كان عند الفاروق عمر في خلافته، ومعه جماعة من الناس، وهم ينتظرون الصلاة، فخرج من أحد القوم ريحٌ، وخاف عمر أن يحمل الخجلُ صاحبَ الريح على الدخول في الصلاة، فقال: عزمت على صاحب الريح أن يتوضَّأ، فبادر جرير وقال: مُرْنا جميعًا أن نتوضأ، فسُرِّي عمر، وقال لجرير: رحمك الله، نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام.
فالناس صنفانِ: منهم مَن يستر العيب كجرير، ومنهم مَن يبحث عن الفضائح، فيكشف أستار الناس وعوراتهم.
يروى أن مَلِكًا فيه عرج وعور، أراد أن تُرسَم صورة له تُخفِي عيوبه، فأرسل إلى الفنَّانين والرسَّامين فأبَوا ذلك، فكيف يرسُمون لوحةً له دون إظهار عيبه الظاهر؟ فقام أحد الرسَّامين وقال: أنا أرسمها لك، فرسمه وبيده بندقية الصيد، وقد أغمض عينه العوراء، وثنَى قدمه العرجاء، وكأنه مستندٌ لاصطياد هدفه.. هكذا ينبغي أن يكون المسلمُ مع إخوانه، يستر عيوبهم، ويتغافل عن زلاتهم، ولا يفضح بمعصية ولا يعيٍّر بذنب، فمن فعل ذلك رجا ستر الله له يوم القيامة.
قال ابن القيم –رحمه الله-: "للعبد سترانِ: ستر بينه وبين ربه، وآخر بينه وبين الخَلْق، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله ستره بين الخَلْق."
ومن أسباب نيل ستر الله: أن يستتر العبد في لباسه ولا يتعرى أمام الخلق، قال –عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- حييٌّ ستيرٌ، يحبُ الحياءَ والسترَ، فإذا اغتسلَ أحدُكمْ فليستترْ" (صححه الألباني).
ومن الأسباب أيضًا: الصدقة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل" (مسلم).
كذلك من أسباب نيل ستر الله: كظم الغيظ والغضب، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن كف غضبه ستر الله عورته" (الألباني).
ومن الأسباب أيضًا: تربية البنات والإحسان إليهن، قال –عليه الصلاة والسلام-: "من يلي من هذه البنات شيئًا فأحسن إليهن كن له سترًا من النار" (متفق عليه).
ومنها: ستر الميت عند تغسيله، قال –عليه الصلاة والسلام-: "من غسل ميتًا فستره ستره الله من الذنوب، ومن كفنه كساه الله من السندس"(رواه الطبراني).
ومن الأسباب: دعاء الكريم الوهاب، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: " ... اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي" (أبو داود).
فلندع الله أن يمن علينا بستره، وأن يسبل علينا رداء عفوه، وألا يفضحنا بين خلقه.
اللهم استرنا يا ستير، واغفر لنا يا غفار، وارحمنا يا رحيم، وتب علينا يا تواب، واجعلنا من عبادك المتقين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله: فإن اسم الله الستير يتضمن معان سامية، وآثارًا إيمانية عالية، فمن تلك الآثار:
الحياء من الله -عز وجل- الذي يرى عبده وهو يعصيه فيستره ويدعوه للتوبة، فحري بالعبد أن يستحي من ربه حق الحياء، فهو الذي يراه في جميع أحواله، ويحصي عليه جميع أعماله، قال -تعالى-: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق: 14].
وكذلك من الآثار: محبة الله سبحانه الحليم على عباده، فهو الذي يسترهم، ولا يستعجل عقوبتهم مع قدرته عليهم، وغناه عنهم.
ومن الآثار أيضًا: التخلق بصفة الستر على النفس وعلى الخلق؛ لأن الله ستير يحب الستر، فقد نادى رسولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- من على المنبر بصَوتٍ رفيعٍ، فقالَ: "يا مَعشرَ مَن أسلمَ بلِسانِهِ ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قَلبِهِ، لاَ تؤذوا المسلِمينَ ولاَ تعيِّروهم، ولاَ تتَّبعوا عَوراتِهِم، فإنَّهُ مَن يتبّعُ عورةَ أخيهِ المسلمِ تَتبَّعَ اللَّهُ عورتَهُ، ومَن يتبّعِ اللَّهُ عورتَهُ يفضَحْهُ ولَو في جَوفِ رَحلِهِ" (أبو داود).
إخوة الإيمان: ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس أن ينادي الله باسم ليس من أسمائه، أو يصفه بصفة ليست له، فمن ذلك ما شاع على ألسنة الناس من تسمية الله –تعالى- باسم الساتر أو الستار، وهما ليسا من أسماء الله -تعالى-، ولم يرد ذكرهما في الكتاب ولا في السنة، فلنحذر من تسمية الله بهما، فالله لا يُسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به نبيه -عليه الصلاة والسلام-.
أيها المسلمون: مع كثرة ما نَعْصِي الله تعالى لقد أصبح بنا من نعم الله ما لا نُحْصيه, فما ندري أيها نشكر: أجميلُ ما ظهر، أم قبيح ما سَتر!.
فاشكروا الله على ستره عليكم، وابذلوا أسباب دوام ستره عليكم تسعدوا في الدنيا، وتفوزوا في الآخرة.
اللهم استُرْنا ولا تفضحنا، وعافِنا لا تبتلِنا، ونجِّنا لا تهلكنا، واغفر لنا لا تؤاخذنا.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه..