القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
وإذا استشعر العبد -أيها الإخوة- معنى أن خالقه هو الصمد, لاستراح في هذه الحياة من متاعبها ومشاغلها، ذلك أن العظيم هو من يسيّر أموره، ويأمره بكل ما هو صالح له، فليأوِ العبد الفقير إلى ربه القدير الخبير الغني صاحب الأمر والخلق والحكم -سبحانه-.
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فبالتقوى يُنال رضا الواحد الأحد، وبها تتحقق سعادة الأبد، وتحصل البركة في الأهل والمال والولد، فطوبى لمن جد واجتهد، في توحيد ربه وتقواه وعبد، ويا بشرى له بحسن العقبى إلى أبد الأبد.
أيها المسلمون: المتدبر في أحوال الناس يجد أمورًا عجيبة، فكثير من الناس لا يحفظ من القرآن إلا بعض قصار السور، يصلي بها، ويتعبد لربه -سبحانه وتعالى- بتلاوتها.
إلّا أن الكثير من هؤلاء يقرأ آيات هذه السور دون أن يتدبر معانيها، فتجد بعض المسلمين ممن يحفظون سورة الإخلاص ويصلون بها، إذا سألت أحدهم عن معنى الصمد لا يجيب، وإنما هي تلاوة باللسان دون تدبر للمعاني ولا فهم للكلمات، وإذا سألته عن معنى (من شر غاسق إذا وقب) ربما لا يجيب!.
ولا بد -إخواني- من أن يعرف العبد نفسه، فيصفها بالضعف والفقر والحاجة، وأن يعرف ربه -سبحانه وتعالى- المتصف بالقوة والفضل والغنى والعلوّ، ومهما عرفت عن نفسك أيها الضعيف، فإنما هو جزء من الحقيقة، ومهما عرفت عن ربك إنما هو جزء من الحقيقة، فهو -سبحانه- الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
فسبحان الله الأحد الصمد، تفرد بالكمال المطلق في كل شيء، وهو المستغني عن كل شيء، ومن سواه مفتقر إليه في كل شيء، وكل شيء يصمد إليه، ويلجأ إليه، ويعتمد عليه، وهو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وليس فوقه أحد في كماله، وهو الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم، وسائر أمورهم، وقيام الخلائق وبقاؤها عليه، لا يقضي فيها غيرُه، وهو المقصود في الرغائب، والمستغاث به عند المصائب، وهو الذي يُطعِم، ولا يُطعَم، ولم يلد، ولم يولد، سبحانه وتعالى.
عباد الله: وقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الصمد، قال الله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص:1-2]، وثمرة معرفته الصمد -سبحانه- ومعرفة حقائقه لا تُقَدَّر بكنوز الأرض.
قال الشنقيطي –رحمه الله-: "قال بعض العلماء: (الصَّمَدُ) السيد الذي يُلْجَأ إليه عند الشدائد والحوائج. وقال بعضهم: هو السيد الذي تكامل سؤدده وشرفه وعظمته، وعلمه وحكمته، وقال بعضهم: (الصَّمَدُ) هو الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، وعليه؛ فما بعده تفسيرٌ له. وقال بعضهم: هو الباقي بعد فناء خلقه, وقال بعضهم: (الصَّمَدُ) هو الذي لا جوف له، ولا يأكل الطعام".
وقال سيد قطب –رحمه الله-: "ومعنى الصمد اللغوي: السيد المقصود الذي لا يُقضى أمر إلا بإذنه. والله -سبحانه- هو السيد الذي لا سيد غيره، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد. وهو المقصود وحده بالحاجات، المجيب وحده لأصحاب الحاجات. وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه، ولا يقضي أحد معه، وهذه الصفة متحققة ابتداءً من كونه الفرد الأحد".
كما أثنى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على ربه، وهو أعرف الخلق به، فوصفه وسماه باسمه الصمد، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ! وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ! فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ" رواه البخاري.
وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه- أَنَّ المُشْرِكِينَ قَالُوا لرَسُولِ الله: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ. فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الله أحَدٌ * الله الصَّمَدُ)، فَالصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلاّ سَيَمُوتُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلاّ سَيُورَثُ، وإنَّ الله عز وجلّ لاَ يَمُوتُ ولاَ يُورَثُ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَدٌ)، قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلاَ عِدْلٌ ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ" رواه الترمذي، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإِذَا قالُوا ذَلِكَ فقُولُوا: الله أَحَدٌ، الله الصَّمَدُ، لَمْ يلِدِ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَم يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَدٌ، ثُمَّ لْيَتْفُلْ عن يَسَارِهِ ثَلاَثًا، وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ" رواه النسائي واللفظ له، وأبو داود، وصححه الألباني.
وعن مِحْجَن بْن الأَدْرَعِ -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، فَقَال: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ " رواه النسائي وصححه الألباني.
وحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ رَجُلاً يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ" رواه أبو داود وصححه الألباني.
قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "الصمد الكامل في صفاته، الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته. فقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن الصمد هو الكامل في علمه، الكامل في حلمه، الكامل في عزته، الكامل في قدرته، إلى آخر ما ذُكر في الأثر. وهذا يعني أنه مستغنٍ عن جميع المخلوقات لأنه كامل، وورد أيضًا في تفسيرها أن الصمد هو الذي تَصْمُد إليه الخلائق في حوائجها، ويعني أن جميع المخلوقات مفتقرة إليه، وعلى هذا فيكون المعنى الجامع للصمد هو: الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته.
أيها المسلمون: والصمد لغة هو السيد المطاع الذي لا يُقضَى دونه أمرٌ, الباقي الذي لا يزول.
والصَّمَدُ -سبحانه- هو الغني بذاته والكل مفتقر إليه، المقصود في جميع الحوائج تتجه إليه القلوب بالرغبة والرهبة، وما من حي ولا ميت من العالم العلوي والسفلي إلا وهم مفتقرون إليه غاية الافتقار، يسألونه حوائجهم، ويشكونه فاقتهم، ويرغبون إليه في مهماتهم؛ لأنه الكامل في أوصافه، والصمد السيد الذي كمل سؤدده، العليم الذي كمل في علمه، الرحيم الذي كمل في رحمته الذي وسعت رحمته كل شيء، الحليم الذي كمل في حلمه، الحكيم الذي كمل في حكمته، الجواد الذي كمل جوده، وهكذا سائر أوصافه.
فمن لوازم صمديّة الله -سبحانه- أنه الغني بذاته، الذي لا يحتاج لأحد، وكل الكائنات فقيرة إليه بذاتها، تقصده جميع المخلوقات بالذل والحاجة والافتقار، فيلبّي سؤلهم، ويفزع إليه البشر كلهم، فيعينهم في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ لأنه -سبحانه- لا إله إلا هو، ولا يقدر على ذلك إلا هو، سبحانه اللطيف بعباده الرحيم بهم، قال -سبحانه-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر:2]، وقال -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تبارك وتعالى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" رواه البخاري.
فلو قام الخلق كلّهم في هذا الوقت في عرض حاجاتهم لقضاها -سبحانه-؛ لأنه صمد غني كريم، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ -تبارك وتعالى- أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ" رواه مسلم.
والصَّمَد -سبحانه- هو الذي لم يلد ولم يولد، ولا جوف له, فلا يأكل ولا يشرب، ولا حاجة به إليهما, قال ابن مسعود: الصمد هو الذي ليست له أحشاء. قال سعيد بن المسيب: هو الذي لا حشو له؛ وقال الشعبي: الذي لا يأكل ولا يشرب؛ وعن محمد بن كعب القرظى وعكرمة: هو الذي لا يخرج منه شيء؛ وعن مجاهد: هو المُصْمَتُ الذي لا جوف له؛ وقال الربيع هو: "الذي لا تعتريه الآفات"؛ وعن مقاتل بن حيان قال هو: "الذي لا عيب فيه".
وهذه الأقوال مؤداها إلى حقيقة واحدة، ألا وهي أن المخلوق أجوف: يعنى له أحشاء يدخل فيها أشياء، مثل الطعام والشراب؛ ويخرج منها أشياء، مثل الولد، فالمخلوق ضعيف ناقص يتفرق، ويتجزأ، ويتمزق، بخلاف الصَّمَد -عز وجل- الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك؛ فذاته لا تتفرق ولا تتجرأ، ولا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)؛ وكذلك صفاته لا تضعف ولا تنقص ولا تتفرق، وإنما له -سبحانه- الكمال المطلق.
فأخلصوا لله العمل، ولا تشركوا به أحدًا، اللهم أعزنا ولا تذلنا يا كريم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: يا عباد الله: اتقوا الله ربكم، واقدروه حق قدره، واعبدوه واشكروا له، واعلموا أن معرفة الله الصمد ومحبته وطاعته والقرب منه شيء لا يُقدّر بكنوز الأرض، وأن التمرد على شرعه، وعصيان أمره، سبيل الخيبة في الدنيا، والخسارة في الآخرة، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة.
وعطّروا أسماعكم –إخواني- بما ثبت في الصحيح من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشَّر الرجل الذي كان يقرأ سورة الإخلاص في كل صلاة -ويقول: "إني لأحبها لأنها صفة الرحمن" بأن الله يحبه، فبيَّن أن الله يحب من يحب ذكر صفاته -سبحانه وتعالى-.
وهذا الصحابي لم ينل هذه المرتبة إلا بفهمه للسورة، أي بفهمه أساسًا لهذين الاسمين العظيمين من أسماء الله: الأحد، الصَّمَد. وقد ورد اسم الله الصمد في سورة الإخلاص.
ومن فضل هذه السورة أنها تعدل ثلث القرآن، ولم يكن لها هذا القدر الكبير إلا لما احتوت عليه من صفات رب العالمين، سبحانه وتعالى.
فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ" متفق عليه. فلما أحب صفة الرحمن أحبه الله، والجزاء من جنس العمل.
واعلموا -إخواني- أن اسم الله الصمد يدل على صفات الكمال والجلال والعظمة، ومن ثمَّ فالدعاء باسم الله الصمد يتضمن الدعاء بالأسماء الحسنى كلها، وهذا يستلزم استجماع قوى القلب العلمية والعملية، والتوسل بها بصدق وثقة ويقين، إلى الصَّمَد المَقْصُود لذاته -سبحانه وتعالى-.
وانظر معي -أخي الكريم- إلى هذا الحديث العذب الجميل، عن مِحْجَن بْن الْأَدْرَعِ -رضي الله عنه- قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ: فَقَالَ: "قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قد غُفِر له". رواه أبو داود وصححه الألباني؛ إذ توسل إلى الله بأنه الأحد الصمد ليغفر له؛ فغفر الله له.
وينبغي على الداعي أن يكون قصده كله وتوجهه كله بجميع الحوائج إلى الله الصمد، والإقبال عليه دون ما سواه، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها شرعًا، واليقين بأن الأسباب -مهما توفرت وسهلت- مملوكة لله وحده، فهو ربها ومدبّرها -سبحانه- ومليكها وخالقها ومقدّرها، وهو مُقيتُها، ولو حبس قُوتَه عنها لهلكت وأصبحت عدمًا، فليحذر المؤمن أن تستغرقه الأسباب، أو يعتمد عليها فينسى الصَّمَد، فلا هو الذي يجد بغيتَه، ولا هو الذي يسلَم من الشرك.
واعلموا -أيها المسلمون- أن الصَّمَد عز وجل يحب الإلحاح في الدعاء، ويغضب على من لا يسأله، وفي الحديث، عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ"، قَالَ: فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَىِ" رواه الترمذي وصححه الألباني.
ويجب على العبد الموفق أن يحرص على الثناء على الله -تعالى- بما هو أهله من صفات الكمال، والإكثار من الثناء على الله باسمه الصَّمَد -سبحانه-. وتلاوة سورة الإخلاص بالفهم الذي بيَّنَّاه هو ثناء على الله باسمه الصَّمَد -سبحانه وتعالى-.
وليحرص كل مسلم -إخواني- على أن يكون صادقًا في اعتماده على الله الصمد، واثقًا به، حَسَن التوكل عليه، فيعتمد على الله في كل شيء؛ لأنه خالق الأسباب ومسبباتها، ثم له بعد ذلك أن يأخذ بالأسباب المشروعة والمباحة، كوسيلة من الوسائل للتقريب والتسهيل، لا لأنها تنفع بذاتها أو بمفردها، وعليه أن يرضى بما قسمه الله؛ لعلمه أن تقسيم المقادير بيد الصمد -سبحانه-، فالمبتدأ منه والمنتهى إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله الواحد الأحد الفرد الصمد.
أيها المسلمون: ينبغي للعبد الموفق أن تظهر عليه آثار الإيمان بهذا الاسم الشريف، ويتحلى بها، ويعيشها واقعًا عمليًّا في حياته وتعاملاته.
ومن هذه الآثار، أن يكون صادقًا، وأن يأخذ الدين بقوة، وأن يتخلق بالأخلاق الحسنة بمقتضى صفات الكمال التي جاء الأمر بها في الشريعة، وأن ينتهي عن أضدادها، فإن الله شكور يحب الشاكرين، رحيمٌ يحب الرحماء، وهكذا بقية صفاته -سبحانه وتعالى-.
ومن أدب المؤمن مع هذا الاسم المعظم ألا يتوجه بحوائجه إلى غير الله، سواء كان ملكًا مقربًا، أو نبيًّا مرسلاً، أو عبدًا صالحًا، فكل هؤلاء محتاجون لله؛ لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًّا ولا نفعًا، إلا ما وهبهم الله -جل جلاله-, وعليه كذلك أن يُنزِل حاجاته الماديّة بباب الصمد -سبحانه-، ويقطع رجاءه بالناس وبما في أيديهم من متع الدنيا, وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : "مَنْ نَزَلَ بِهِ حَاجَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، كَانَ قَمِنًا [حريًّا] مِنْ أَنْ لَا تَسْهُلَ حَاجَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، آتَاهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ، أَوْ بِمَوْتٍ آجِلٍ" رواه أحمد.
وإذا استشعر العبد -أيها الإخوة- معنى أن خالقه هو الصمد, لاستراح في هذه الحياة من متاعبها ومشاغلها، ذلك أن العظيم هو من يسيّر أموره، ويأمره بكل ما هو صالح له، فليأوِ العبد الفقير إلى ربه القدير الخبير الغني صاحب الأمر والخلق والحكم -سبحانه-.
وإياك -أيها المسلم- أن تكون غير نافع للناس، بل ينبغي لك أن تكون مقصودًا من الناس لقضاء حوائجهم، وأن تجعل نفسك سببًا ينتفع العالمون من ورائك، ولا تتضجر، واجعل لك من اسم الله الصمد نصيبًا، وكن فخورًا بذلك، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ" رواه الطبراني وصححه الألباني.
واعلموا -أيها الفضلاء- أن الله -عز وجل- إذا أحبّ عبدًا جعل حوائج الناس إليه، ومكّنه من بعض أسبابِ نفعِ العباد؛ لذا، لا تضجر إذا أقبل الناس عليك، أو تنزعج إذا طُرق بابك كثيرًا، أو تتبرم إذا قصدك الناس، فإذا أحبّ الله عبدًا جعل حوائج الناس إليه، علامة محبة من الله الصمد -سبحانه وتعالى-.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ قَالَ: أَنَا خَلَقْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَطُوبَى لِمَنْ قَدَرْتُ عَلَى يَدِهِ الْخَيْرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَرْتُ عَلَى يَدِهِ الشَّرَّ" رواه الطبراني وضعفه الألباني. وأنت إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر: فيما استعملك؟.
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ, فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ, وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لَلشَّرِّ مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ" رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
إخوة الإسلام: هذا الإله الواحد الأحد الفرد الصمد العظيم؛ ألا يُخطب ودّه؟ ألا تُرجى جنّته؟ ألا يُطمع في محبته؟ ألا تُخشى ناره؟ هذا الإله العظيم؛ هل يُعْصَى؟! لا تنظر – يا عبد الله- إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من اجترأت عليه!.
فواعجبًا! كيف يغفل العباد عمن لا يغفل عن برهم والإحسان إليهم، كما قال -سبحانه-: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام:14].
وواعجبًا من إعراضهم عن ربهم! كيف يتعلقون بعبادة ما سواه، ويستغيثون بما لا يسمع لهم قولاً، ولا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يستطيع لهم نصرًا، قال -سبحانه-: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) [الزمر:64].
وواحسرتاه! كيف تفعل الشياطين ببني آدم، اجتالتهم عن دينهم، وزيّنت لهم سوء أعمالهم، فصدتهم عن السبيل، قال -تبارك وتعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5].
وختامًا -أيها المسلمون- آهٍ لو فقه الناس معاني أسماء الله الحسنى، وتعبدوا لربهم بها، ودعوه بها! إذن لتغيرت أحوال كثير من المسلمين، فلو فقه الناس معنى اسـم الله الصمد -مثلاً- لما رأينا في العالم الإسلامي كله من يطوف حول القبور، ولو فقه الناس معنى اسم الله الصمد لما ذهب الناس إلى قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم يطلبون منهم العون، ولو فقهوا معنى الصمد على الحقيقة لكان إنزال الحاجات والطلب والدعاء والتضرع كله لله الواحد الصمد، ولكن؛ قل من يفقه معاني أسماء الله الحسنى!.
اللهم فقهنا في ديننا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، وجِلاء همنا وحزننا، ولا تجعل النار مصيرنا...