الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | فهد بن عبدالله الصالح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
ولما خالف المسلمون في هذه العصور أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتركوا العمل لدينه والاعتزاز بشريعته، ولما ضيعت كثير من شعائر الدين، وانشغل المسلمون بشؤونهم الخاصة وشهواتهم وملذاتهم، غاب النصر عنهم، وكانت الهزائم المتتالية عليهم، وتسلط عليهم كلٌّ عدوٍ لهم من كافر ومنافق، وصاروا أفقر الناس وأخوف الناس وأذل الناس ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله له الملك وله الحمد وله الثناء الحسن.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه من خلقه، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربى وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها الناس- وجاهدوا في الله حق جهاده، واعرفوا ما أبلاه الصالحون من عباد الله من بلاء حسن في نصرة الدين، وإعلاء كلمة الله، وصد عاديات الكفر والضلال، وعلى قمة أولئك الصالحين، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الميامين -رضي الله عنهم أجمعين-.
وغزوة أُحد واحدةٌ من تلكم الأعمال العظيمة في دين الإسلام، لقد كانت في مثل هذا الشهر من العام الثالث للهجرة، وكان سببها أن المشركين لما انهزموا في معركة بدر أرادوا أن يثأروا لأنفسهم ولأصنامهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فخرجوا في ثلاثة آلاف مقاتل ومعهم مائتا فرس حتى وصلوا المدينة وخرج إليهم المسلمون لصدهم، وانتصروا عليهم أول الأمر، ولما خالف الرماة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتركوا موقعهم انقض عليهم المشركون، فكانت الهزيمة، واستشهد من المسلمين سبعون منهم -رضي الله عنهم-، كما خسر المشركون في أول المعركة ثلاثة وعشرين قتيلاً، ولقد تحدثت سورة آل عمران كثيرًا عن المعركة وملابساتها حتى تكون تشريعًا للأمة ودرسًا عظيمًا لها، والأيام دولٌ بين الناس.
أيها المسلون: لقد تكفَّل الله تعالى بنصرة عباده المؤمنون في أي زمان كانوا وفي أي مكان وجدوا؛ قال تعالى: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، وقال أيضًا: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].
ولقد انتصر المسلمون في أول الإسلام في جميع المعارك إلا غزوة أحد لما خالفوا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما كان النصر حليف المؤمنين في فتراتٍ كثيرة من التاريخ الإسلامي ما استقاموا على شرع الله.
ولما خالف المسلمون في هذه العصور أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتركوا العمل لدينه والاعتزاز بشريعته، ولما ضيعت كثير من شعائر الدين، وانشغل المسلمون بشؤونهم الخاصة وشهواتهم وملذاتهم، غاب النصر عنهم، وكانت الهزائم المتتالية عليهم، وتسلط عليهم كلٌّ عدوٍ لهم من كافر ومنافق، وصاروا أفقر الناس وأخوف الناس وأذل الناس، ولقد أراد الله لهم أن يكونوا خير أمةٍ أخرجت للناس، ورزقهم الكثرة البشرية، والموقع الجغرافي المتميز، والثروات المختلفة، مع منهج رباني حكيم يهدى للتي هي أقوم.
إن ما يصيب المسلمين اليوم -أيها الإخوة- هو السبب نفسه الذي أدى إلى هزيمتهم يوم أحد؛ إنه يتمثل في قول الله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].
إن الحق -أيها المسلمون- له أعداء منذ أن خلق الله البشرية، والهزيمة لا يصح أن تنسب إلى الأعداء في الأصل، وإنما يجب أن تلحق بالخلل في تمسك المسلمين بإسلامهم، كما قال تعالى آنفًا: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، وكما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
أيها الأحبة: لقد كان النصر حليف المسلمين في أول معركة أحد (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) [آل عمران: 152]، ولكن لما عصوا الرسول وانشغلوا بالغنائم سلبهم الله النصر: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) [آل عمران: 152]، إنه ليس بين الله تعالى وبين أحد من خلقه نسبٌ ولا صلة إلا الإيمان والعمل الصالح.
وقد تنزل المصائب بالمؤمنين الموحدين لسببين: إما بسبب المعاصي التي يفعلها الفساق دون إنكار من الصالحين، وإما بسبب قدرٍ من الله تعالى؛ ليبتلى عباده وليختبرهم وليميز الخبيث من الطيب، وحتى يتعرف كلٌ مؤمن صادق على جوانب الضعف والخلل فيسرع في معالجته.
أيها المسلمون: من رحمة الله ولطفه بعباده المؤمنين أنه كما قال عن نفسه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25]، وفي سياق الآيات عن الحديث عن غزوة أحد نجد أن ربنا -تبارك وتعالى- قد فتح أبواب التوبة ويسر للمسلمين إذا وقع منهم أخطاءٌ أن يرجعوا إلى ربهم؛ قال تعالى -قبل أن يذكِّر المسلمين بهزائمهم وأخطائهم-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]، بل إن الله تعالى من رحمته ولطفه سلَّى عباده عن الهزيمة بذكر سنةٍ من سننه إذ قال: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137]، وقال أيضًا: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
وكما أن باب التوبة -أيها الإخوة- مفتوحٌ إلى قيام الساعة؛ فالله تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، فإن باب النصر مفتوح أيضًا لكنه مشروط بالتوبة والإنابة، ولا يظنُ ظانٌّ أن هذه الحرب الشرسة على المسلمين اليوم ستستمر حتى يقضي الإسلام نحبه، وحتى يترك المسلمون دينهم ويصبحوا دهريين وماديين وعبيدًا لغير خالقهم، كلا ثم كلا، فلا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إن الله تعالى يقول: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود: 49]، وسوف يعود إن شاء الله تعالى للإسلام عزته ومكانته، ويعود للمسلمين عزتهم وقوتهم وحقوقهم وكرامتهم: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ) [الروم: 4، 5].
وفيما أصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الجراح يوم أحد، وفيما أصاب الصحابة الأبرار الفئة المؤمنة التي رضي الله عنها ورضيت عنه في ذلك عزاء وتسلية لكل الدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله، فيما يتعرضون له في سبيل الله من أذىً وفتنة، ولقد قال الله في محكم التنزيل بسم الله الرحمن الرحيم: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1-3].
وشياطين الإنس من فلول الكفر والشرك والنفاق وقرامطة العصر لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمة، حسبهم أن يتمكنوا من رقاب المسلمين فيظهروا على حقيقتهم من خلوهم من معاني الإنسانية، وتجردهم من دوافع الفطرة المستقيمة، وامتلاء قلوبهم حقدًا وغيظًا على المؤمنين بالله وبدينه، فلقد مثل المشركون ببعضِ قتلى المسلمين وبخاصة حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، فقامت إحدى المشركات وبقرت بطنه وأخرجت كبده ولاكتها، فلم تقدر عليها فألقتها.
ولما وقف الرسول الرحيم بأمته الذي يعزٌ عليه ما يتعرضون له، لما وقف على جثمانه تأثر تأثرًا شديدًا، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لن أصاب بمثلك أبدًا"، ثم سأل: "هل أكلت شيئًا؟!"، -أي المرأة المشركة- قالوا: لا، قال: "ما كان الله ليدخل شيئًا من حمزة في النار".
وإن ما جرى للمؤمنين الأوائل في سبيل الله على يد المشركين والكفار فهو يجري لأتباعهم، فلقد ذاق المسلمون على أيدي اليهود والنصارى والهندوس والبوذيين والمرتدين صنوفًا من العذاب والتنكيل وقت سقوط الدولة العباسية، وأثناء محاكم التفتيش في الأندلس، وفي فلسطين وفي كشمير وطاجاكستان، وعلى أيدي الشيوعيين في أوربا الشرقية وفي البوسنة وكوسوفا والشيشان، وعلى أهل السنة في العراق، وغيرها كثير.
وصدق الله العظيم إذ يقول عند الحديث عن غزوة أحد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 118-120].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: يعلمنا درس غزوة أحد أن دعوة الإسلام هي دعوة الله وحده دون سواه، ليس لأحد من الناس فيها نصيب؛ فالجهاد والبذل والنصرة هو من أجل الله، ولئن مات الأنبياء والقادة الربانيون فإن الله حيٌّ لا يموت.
والذين ارتضوا لأنفسهم حمل أعباء الدعوة والجهاد، ينبغي أن يتعلقوا بصاحب الدعوة، وهو الله تعالى.
وأما الذين يقتلون في معارك الإيمان وهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، فهؤلاء قد اصطفاهم الله تعالى واتخذهم شهداء، إنهم: (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران: 169، 170]، إن هذه الشهادة فضل من الله تعالى ومنَّة.
وليعلمْ كلٌّ مخلوق أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها، فمشاركته في المعارك، وشجاعته وتضحيته لا تقرب من أَجَلِه، كما أن قعوده وتخلفه لا يباعد من أَجَلِه: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران: 145].
وبعد:
أيها المسلمون: فأحدٌ نصر لا هزيمة، معركة فياضةٌ بالعبر والعظات، أحداثها صفحات ناصعة، يتوارثها الأجيال بعد الأجيال، وأنزل الله فيها ستين آية في كتابه المبين تتلى إلى يوم القيامة، كان لها أثر عميق في نفس النبي –صلى الله عليه وسلم-، ظل يذكره إلى قبيل وفاته.
إن هذا الدين وصل إلينا بعد كفاح مرير من الصحابة والأسلاف، ذاقوا فيه مرارة المصائب والمحن، تقطعت منهم الأشلاء والأجساد، وترملت النساء، قدَّموا أرواحهم فداءً لهذا الدين، حتى وصل إلينا كاملاً متمّمًا، فاقدروا لهم قدرهم، واشكروا لهم سعيهم، وترضوا عنهم، فقد أحبهم ربهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وبالمعاصي تدور الدوائر، ففاضت أرواح في تلك الغزوة بسبب خطيئة، وخرج آدم من الجنة بمعصية، و"دخلت امرأة النار في هرة"، وكل المصائب التي تقع في الأمة أو تصيب المجتمعات وحتى الأفراد إنما هو بسبب المعاصي والآثام.
ألا فاتقوا الله -أيها المسلون- واحذروا المعاصي صغيرها وكبيرها، وانصروا دين الله بالغالي والنفيس، ثم صلوا وسلموا على نبيكم.