الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
وإن في هذا الإشهاد -يا عباد الله- لَمَا يفتح الأذهانَ على مسئولية ضخمة، حمَّلَها الرسولُ الكريُم -صلى الله عليه وسلم- للأمة على تعاقُب العصور، فإن هذه الخطبة وما عرضت له من سُبُل الهداية، وما رسمته من خطط الإصلاح لا تعني عَصْرًا دونَ آخَر، بل تعني الأجيالَ كلَّها إلى أن يرث اللهُ الأرضَ وَمَنْ عليها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كرَّم بني آدم وفضَّلَهم على كثير ممن خلَق تفضيلًا، أحمده -سبحانه- وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، مَنَّ على الخَلْق بالهدى ودين الحق، وجعَل المتقينَ أسعدَ الناس طُرًّا، وأهداهم سبيلًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبدُ اللهِ ورسولُه، خيرُ مَنْ دعا إلى الله وعمل صالحا، وكان هديُه خيرَ الهدي وأحسنه، لن تجدَ له مثيلًا، ولن تجد له بديلًا، اللهم صلِّ وسَلِّمْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه، الذين أخلَصُوا دينَهم لله، فَرَضِيَ عنهم وأعقبهم ثناءً حسَنًا وذِكْرًا جميلا.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- وراقِبُوه وابتغوا إليه الوسيلةَ واخشوا مَقْتَه، واحذروا أسبابَ غضبه بالعمل بما يرضيه.
عبادَ اللهِ: لقد كان للحَجَّة التي حجَّها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- والتي سُميت بحجة الوداع، كان لها من الآثار الجليلة ما جعَلَها بمثابة جامعة سيَّارة، ومعهد رحَّال، ومدرسة متنقلة، يتعلم فيها مَنْ جَهِلَ، ويتنبه فيها مَنْ غَفَلَ، ويقوى فيها مَنْ ضَعُفَ، ويجدِّد العهدَ بما اندرس من معالِم الهداية، ويستبين بها ما خَفِيَ والتبس من مسالك الرشد وسُبُل السعادة، ولقد كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحَجَّة الشريفة مواقفُ إرشادٌ للأمة، يُبَصِّرها بما فيه خيرُها في العاجلة، وما يكون لها به حُسْن المآب في الآجلة، ورسَم لها خططَ السيرِ الراشد السديد الذي تأمَن به من العثار، وتسلَم به عن التردِّي في وَهْدة الحياة الصاخبة الفتَّانة بلهوها ولغوها وزينتها، فتمضي على الجادَّة وتثبُت على الصراط وتستقيم على الصراط، دون انحراف عن الحق، أو حَيْدة عن الهدى.
وإن من أظهر هذه المواقف النبوية -يا عباد الله- ذلك الموقف العظيم الذي كان له في خطبته العظيمة يوم عرفة وفي خطبته -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، فقد وضَع فيهما أصولَ الدين، وأرسى قواعدَ العدالة، وقرَّر حقوق الإنسان، وأبطَل النعراتِ والعصبياتِ التي تصوِّر حميةَ الجاهليةِ الفاسدةَ المفسدةَ، التي تَفُلُّ الروابطَ وتقطع الوشائجَ، وتفرِّق الكلمةَ، وتشقُّ الصفَّ، ويتَّسع بها الصدعُ، وأعلن صلوات الله وسلامه عليه إلغاءَ قضايا في الدماء والمعامَلات الاقتصادية كانت مثار شغب وباعثَ قلاقلَ في الجاهلية، وهدَم مذاهبَها في إنساء الأشهر الحرم، مناهضةً منها لشريعة الله، وأوصى بالنساء خيرًا، وحثَّ على إعطائهن حقوقهن رفعًا لِمَا كان في الجاهلية، رفعا لما كانت تصنعه الجاهلية من إهدار لهذه الحقوق، وجَحْد لها، وتجافٍ عنها، وبالجملة فهما خطبتان ترسمانِ منهجًا إسلاميًّا واضحَ المعالِمِ، بَيِّن القواعد، ظاهر الأصول.
عباد الله: وقَف رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في حجته يومَ عرفة في بطن عرنة على ظهر ناقته، وتوجَّه بالخطاب إلى ذلك الحشد المبارك الذي حاز شرفَ الحج معه -صلوات الله وسلامه عليه-، حين هفَت القلوبُ، ورنَت العيونُ، وأصاخت الأسماعُ وتهيأت النفوسُ وتمهدت للتعلم والاهتداء والاقتداء، فاستهلَّ عليه الصلاة والسلام خطبتَه الشريفة بقولة مثيرة للأشجان، مهيِّجة للأحزان، لكنها مع ذلك تسترعي الانتباهَ وتستدعي التيقُّظَ والاهتمامَ، حيث قال فيما (رواه مسلم) في صحيحه: "أيها الناسُ، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا" ثم أخَذ صلى الله عليه وسلم في تخطيطه لصلاح أحوال العباد في العاجِل والآجِل، وبيان أسباب ذلك والحثِّ على الاستمساك به، مبتَدِئًا بالدماء والأموال فأحاطهما بسياج منيع، يحفظهما من الجرأة عليها؛ يعني على الدماء، بسفكها في غير حق، وإهدارها دون مُوجِب، إذ بصونها وحفظ حرمتها قوامُ أمرِ الأمةِ، ودعامة بناء المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناسُ، إن دماءكم وأموالكم، -وفي لفظ النسائي رحمه الله في سننه الكبرى- إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في خطبة يوم النحر قوله: "فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا" فأعادها مرارًا. (الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه).
وحرمة الدماء والأموال هي من الدعائم الخمس الضروريات التي لا بدَّ منها، ولا قيام لحياة الخَلْق إلَّا بها، ففي تقرير حرمة الدماء بيَّن ربُّنا -عز وجل- عِظَمَ جُرْمِ مَنِ اجترأ على الدم الحرام بغير حقٍّ، وتوعَّده بالوعيد الصارخ المرعب للقلب الحي اليَقِظ، فقال سبحانه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 93]، وقد أشار رسولُه -صلوات الله وسلامه عليه- بقوله: "عليكم حرامٌ إلى أن تَلْقَوْا ربَّكم" أشار إلى أن حصانة دم المسلم وحصانة ماله التي عبَّر عنها بالحرمة أشار بذلك إلى أنها حصانة أبدية، لا تَسقط إلا بمسوِّغ شرعيٍّ؛ كإقامة الحدِّ على القاتل، أو القصاص من الزاني المحصَن، أو أَخْذ الزكاة جبرًا من مانعها مع تغريمه، كما جاءت به الأحاديثُ الصحيحةُ الثابتةُ عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي تقرير حرمة الأموال التي جاءت بها هذه الخطبةُ الجامعةُ العظيمةُ، كَفَلَتِ الشريعةُ المباركةُ المطهرةُ للإنسان حريةَ التملُّك بالوسائل المشروعة، والسُّبُل المباحة، وكفلت له حريةَ التصرف في ماله، على الوجه المأذون فيه، وبيَّنت طُرُقَ التملُّك وشروطها التي تتحقَّق بها العدالةُ بين الناس في تعاملاتهم ومعاوضاتهم، وقرَّرَت مع حقِّه لهذا التصرُّف المشروع بماله واجب مراعاة حقِّ غيره، فلا يجوز الإضرارُ به بأيِّ لون وفي أي تعامُل، وألزَمَتْه إِنْ أَخَلَّ بذلك بالتعويض أو ردّ البدل عمَّا تعدَّى فيه، أو أتلَفَه أو أخَذَه بغير حق، وأساس ذلك وقاعدته -يا عباد الله- قوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُّوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)[النِّسَاءِ: 29]، وقوله عزَّ اسمُه: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)[الْبَقَرَةِ: 275].
وفي سبيل حفظ المال وحمايته من العوادي شرَع اللهُ قطعَ يد السارق وحرَّم الغشَ والخيانةَ وإتلافَ مال الآخرينَ، كما ألزَمَه بالضمان، كما شرَع الحَجْرَ على السفيه الذي لا يُحسن التصرفَ في ماله، وحرَّم الربا، فرفَع بذلك الضررَ بكل ضروبه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضررَ ولا ضرارَ" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه، بإسناد صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما).
وقد ختَم صلى الله عليه وسلم هذا الجزءَ من خطبته بقوله مُشْتَجِيشًا في النفوس عواملَ الرهبة من لقاء الله -تعالى- وبواعث الخشية من مناقَشة الحساب بين يديه فقال: "وإنَّكم سَتَلْقَوْنَ ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغتُ".
ثم انتقل بعد ذلك صلى الله عليه وسلم إلى الحضِّ على أداء الأمانات، ورعاية حقِّ المؤمنِ، وفاءً بالحقوق الفردية وحفاظًا على الذِّمَم، واستدامةً للثقة بين المسلمين، فقال: "فمن كانت عندَه أمانةٌ فليُؤَدِّها إلى مَنِ ائْتَمَنَه عليها"، وهذا مصداقُ قولِه -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النِّسَاءِ: 58]، وعقَّب صلى الله عليه وسلم هذا التعاملَ الفرديَّ بالنهي عن أخطر تعامُل اجتماعيّ تواضعت عليه الجاهليةُ وتعارَفَت عليه مجتمعاتُها؛ ألَا وهو أكلُ الربا فقال: "وإنَّ كلَّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوعٌ، وربا الجاهليةِ موضوعٌ"، وشرَع صلوات الله وسلامه عليه بإنفاذ ذلك وإمضائه وهو في موقفه فبَدَأ بوضع وإسقاط ربا أهلِ بيتِه؛ ليختطَّ بذلك القدوةَ، ولتكون فيه أسوة، فقال صلى الله عليه وسلم: "وإنَّ أولَ رِبًا أبدأُ به هو رِبَا العباسِ بن عبد المطلب، فهو موضوعٌ كلُّه"، وهو خروج من العهدة، وتجافٍ عن التبعة في هذا الكسب الذي توعَّد ربُّنا -عز وجل- آكِله والآخذ في ضروبه بأشدِّ الوعيدِ فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 278-279].
وكما بدأ صلى الله عليه وسلم في وَضْع الربا وإسقاطه بأهل بيته بدأ كذلك في وضع دماء الجاهلية وثاراتها التي كانت مبعثَ عدم استقرار وشرارة اشتعال النار بينَهم، بدأ بوضعها في أهلِ بيتِه أيضا فقال: "وإنَّ كلَّ دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضعه دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضَعًا في بني سعد فقتلته هذيلٌ"، وتلك أنجحُ وسيلةٍ، وأمضى طريقةٍ للقدوة وأحكم سبيل لإنفاذ ما يرسُمُه المشرعُ لتشريعه أن يبدأ بتنفيذه في خاصَّةِ نفسِه وذَوِيه.
وانتقل صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك إلى حكاية واقع الأمة التي جمَع اللهُ به شملَها، ووحَّد بين قلوبها، وقضى على الفُرْقَة بينَها، وأن الشيطان لم يَعُدْ له مطمعٌ في أن يعبَد في أرضها، وحذَّر صلى الله عليه وسلم مع ذلك من أن تعود الأمة بعد لَمِّ الشعثِ واجتماعِ الكلمةِ إلى بلاء التناحُر وطاعة الشيطان فيما يوسوِس به من معصية، وما يزيِّن من خطيئة، والخطايا والمعاصي بريد الكفر، ومدرَجة الضلال، وهي أخطر ما تكون على دين المرء وإيمانه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "أيها الناسُ، إن الشيطان قد أَيِسَ أن يُعبَد بأرضكم هذه، ولكنَّه إن يُطَع فيما سوى ذلك فقد رضي به، ممَّا تحقِّرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم"، وعرَض بعد ذلك للنسيء وتحريمه، وهو تأخير تحريم شهر حرام إلى آخَر، وكان تعظيم الأشهر الحرم مما تمسَّكت به العربُ من بقايا مِلَّة إبراهيم -على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام-، لكنَّهم كانوا إذا وقعت لهم حربٌ في بعض هذه الأشهر كرهوا تأخيرَها عن الشهر الحرام، فكانوا يُنسِئُونَ؛ أي: يُؤَخِّرون تحريمَ ذلك الشهر إلى شهر آخَر، وهكذا يؤخِّرون التحريمَ من شهر إلى شهر بأهوائهم وفقَ ما تقتضيه ظروفهم حتى استدار التحريمُ على السَّنَة كلها، حتى كانوا يحجُّون في بعض السنين في شهر، ويحجُّون في السَّنَة القابلة في شهر آخَر، وحجَّ صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة، وأعلمهم أن التأخير للأشهر الحُرُم هو من ضلال الجاهلية، يزدادون به كُفْرًا على أصل كفرهم، وأن الأمر قد عاد إلى ما كان عليه، وما وضَع اللهُ عليه حسابَ الأشهر فقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الزمانَ قد استدار كهيتِه يومَ خلَق اللهُ السمواتِ والأرضَ، وإن عدةَ الشهورِ عندَ اللهِ اثنا عشَر شهرًا في كتاب الله، منها أربعة حُرُمٌ، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، أَلَا هل بلغتُ؟ اللهم فاشهد".
نفعني اللهُ وإياكم بهَدْي كتابِه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يهدي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم، أحمده -سبحانه-، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، البَرُّ الرؤوفُ الرحيمُ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، وخيرته مِنْ خَلْقِه، صاحبِ النهجِ الراشدِ والخُلُق العظيم، اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آله وصحبه أُولِي النُّهَى والتُّقَى والفضل العميم.
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ، لقد كان مما جاء في خطبته -صلوات الله وسلامه عليه- في حجة الوداع الوصية بالنساء، وبيان حقوقهن، وما يجب عليهن مما يحفظ به الوُدُّ، وتتم به الألفةُ، وُتستَدام به المحبةُ، ويتم به حُسْن العشرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناسُ، إنَّ لكم على نسائكم حقًّا، وإنَّ لهنَّ عليكم حقًّا، لكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فرشَكُم غيرَكم، ولا يُدخلن أحدًا تكرهونه بيوتَكم إلَّا بإذنكم، فإن فعلنَ فإن الله قد أَذِنَ لكم أن تعظوهن وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربًا غير مبرِّح، -أي: غير شديد وغير مؤلم- فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقُهُنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروف، واستوصُوا بالنساء خيرا، فإنهن عوانٌ عندكم، لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتُم فروجَهن بكلمة الله، فاتقوا اللهَ في النساء، واستوصُوا بهن خيرًا، ألَا هل بلغتُ، اللهم اشهد".
وبهذه الوصية الجامعة العظيمة بالنساء ضرَب رسولُ الهدى -صلوات الله وسلامه عليه- أروع الأمثال في التقدير الحق لا الزائف للمرأة، ودلَّ بذلك على أنها لم تَعُدْ في دين الإسلام كما كانت عليه في الجاهلية، وكأنها من سقط المتاع، لا كرامةَ لها ولا حرمةَ ولا رأيَ ولا مكانةَ، بل أصبحت في الإسلام شقيقة الرجل، لها من الحقوق مثلُ ما له من الحقوق، وعليها من الواجبات مثل ما عليه من الواجبات، وقد قال ربنا -سبحانه-: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 35].
وختَم صلى الله عليه وسلم خطبتَه الشريفةَ بالتوجيه إلى الاعتصام بدستور الإسلام الخالد الصالح الْمُصْلِح لأحوالِ البشرِ على مرِّ الأزمانِ فقال عليه الصلاة والسلام: "تركتُ فيكم ما إِنْ تمسكتُم به لن تَضِلُّوا أبدًا، كتاب الله وسُنَّة نبيه -صلى الله عليه وسلم-" وفي بعض الطُّرُق التي رُويت بها هذه الخطبةُ العظيمةُ الجامعةُ وخطبةُ يومِ النحر جاء قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أيها الناسُ، اسمعوا قولي، تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلم أخٌ للمسلم، فلا يحلُّ لامرئ من أخيه إليه ما أعطاه عن طِيب نفسٍ منه، ألا هل بلغتُ، اللهم اشهد، أيها الناسُ، إن ربكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، كلكم لآدم، وآدمُ من تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عجمي إلا بالتقوى، ألَا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد، وأنتم تُسأَلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنَّكَ قد بلغتَ، وأديتَ، ونصحتَ، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويقلِبُها على الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاثا".
وإن في هذا الإشهاد -يا عباد الله- لَمَا يفتح الأذهانَ على مسئولية ضخمة، حمَّلَها الرسولُ الكريُم -صلى الله عليه وسلم- للأمة على تعاقُب العصور، فإن هذه الخطبة وما عرضت له من سُبُل الهداية، وما رسمته من خطط الإصلاح لا تعني عَصْرًا دونَ آخَر، بل تعني الأجيالَ كلَّها إلى أن يرث اللهُ الأرضَ وَمَنْ عليها، وإن في إشهاد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ربَّه على أُمَّته بالبلاغ الإعذار البيِّن ممن نكَب عن السبيل، وحادَ عن الجادَّة، ولم يرفع بهذا التبليغ رأسًا، ولم يرجُ لله وقارًا بتقدير عظمةِ إشهادِه -سبحانه-، بل وفيه الوعيدُ ضمنًا لمن عصاه واتَّبَع هواه، وكان أمره فُرُطًا.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعملوا على أن يكون لقاؤكم في حَجِّكم هذا على نفس ما التقى عليه سلفُكم الصالحُ في الحَجَّة العظمى؛ حجة الوداع بالأخذ بكل ما ورَد في هذه الخطبة الشريفة من سُبُل الإصلاح، وخِطَط السَّيْر الموصِلة إلى أكرم غاية، وأجمل خاتمة، وأشرف نهاية.
وصلُّوا وسلِّمُوا على خير خَلْق الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال الله -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعينَ، وعن أزواجِه أمهاتِ الْمُؤمنينَ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوكَ وكرمكَ وإحسانكَ يا خير من تجاوز وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداءَ الدين، وسائِرَ الطُّغاةِ والمُفسِدين، وألِّفْ بين قلوب المسلمين، ووحِّدْ صُفُوفَهم، وأصلِحْ قادَتَهم، واجمَع كلمَتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ، وسُنَّةَ نبيِّكَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعبادَكَ المؤمنينَ المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعَل ولايتَنا فيمَن خافَك واتَّقاك، واتَّبعَ رِضاك يا رب العالمين.
اللهم أيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وهيئ له البطانة الصالحة ووفقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفقه وولي عهده إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد يا من إليه المرجع يوم المعاد.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحَم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، واختِم بالباقِيات الصالِحات أعمالَنا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.