البحث

عبارات مقترحة:

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

الواحد

كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...

الجواد

كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...

عبر من السيرة النبوية

العربية

المؤلف صالح بن محمد آل طالب
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. واقع المُسلمين السيئ .
  2. تكفَّل الله بحفظِ دينه .
  3. لا تزالُ طائفةٌ منصورةٌ لا يضُرُّها من خذلَها .
  4. أهمية الاستفادة من السيرة النبوية .
  5. تأملات في غزوة حمراء الأسد .
  6. أهم العِبر والدروس في هذه الغزوة .
  7. ضرورة التمسُّك بهذا الدين والدفاع عنه ضدَّ المُعتَدين. .

اقتباس

إننا نرى تكالُب الشرقِ والغربِ على المُسلمين، ونرى في الوقت نفسِه انبِراء العدوِّ المُتخفِّي، والذي لم يُضيِّع فُرصةً على مرِّ تاريخِه الطويل، من طعنِ الأمة في ظهرِها مُظاهرةً لأعدائِها، وخلخلةً لصُفوفِها من داخلِها، مُستغلاًّ حوادِثَ التاريخ ومظالِم لم تكُن تَعنِيه، ولم تتَّصِل أسبابُها بسببِه. يتَّهموننا بالإرهاب ونحن من اكتوَى بنارِه! إنه التناقُض والظلمُ الصُّراح، الذي يستنهِضُ الأمةَ للدفاع عن نفسِها، مُعتمِدَةً على الله الواحدِ الأحد، ...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.

وأُوصِيكُم - أيها الناس - ونفسي بما وصَّى الله به الأُمم الغابِرة، كما وصَّى الأمةَ الحاضِرة: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].

من اتَّقى الله نجا .. ومن تنبَّه سلِم .. ومن غفَلَ ندِم، وسوف يُبعَثُ الناس، وتُنصبُ الموازين، فأعِدُّوا لذلك اليوم عُدَّته، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].

أيها المسلمون:

منذ أن أذِنَ الله تعالى لهذا الدين العظيم بأن تُشرِق شمسُه من هذه الديار، وكتبَ أن يبلُغ ما بلغَ الليلُ والنهار، فقد تكفَّل - سبحانه - بحفظِه، وقضَى أنه لا تزالُ طائفةٌ من الأمة منصورة، لا يضُرُّها من خذلَها ولا من خالَفَها، وهم من كانوا على مثلِ ما كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه.

وأجرَى الله –تعالى- سُنَّة الابتِلاء على أتباعِ الدين العظيم، بدءًا من الرسول الكريم وصحبِه المُبجَّلين، وأتباعِهم إلى يوم الدين، ليميزَ الله المؤمنين ويعلَم الصادِقين.

وكلَّما مضَت عقودٌ بعد زمن النبُوَّة ظهرَ أعداءٌ ومُنافِقون، إما من خارِج الأمة أو من داخلِها، بالقوة والقتال، أو بالفِكر والضلال، لكنَّ الله تعالى يُقيِّضُ من العلماء والحُكَّام من يدفعُ عن دينِه، ويُبصِّرُ الناسَ بالحقِّ، ويرُدُّهم إلى الوِرد الصافِي، ويُمسِّكُهم بالقرآن والسنَّة، (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170].

وفي هذا القرن الأخير والذي قبلَه أصابَ الأمةَ ما أصابَها في دينها وقوَّتها، ومن رحمةِ الله أن حفِظَ جزيرةَ العرب، ومهبَط الوحي، ومُهاجَر الرسول، فنشأَت فيه دولةٌ سنِيَّةٌ فتيَّة، وسط صِراعاتٍ عالميَّةٍ وحروبٍ كونيَّة، ونجَّاها الله من فتنِ الحروب، وصِراعات الفِكر والأحزاب.

واختطَّت لنفسِها منهجًا وسطًا مُعتدلاً في الدين والدنيا، فجعلَت دستورَها كتابَ الله وسُنَّةَ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وتجافَت عن البدع والخُرافات، وأظهرَت للناس صفاءَ الدين.

ولم يمنَعها تمسُّكُها بدينِها أن تُشارِك العالَمَ عالَمَه، في السياسة والاقتِصاد، والعلوم والصناعات، والأفكار والحوارات، فمكَّن الله لها، وفجَّرَت كنوزَ الأرض وأغناها، فكانت سنَدَ المظلُوم، ومقصِد العمل والتجارة وطلب الرِّزق. ووصلَت خيراتُها لكل مُحتاجٍ من الدُّول والأفراد، ولا يُنكِرُ ذلك إلا حاسِد.

وما كان لهذه البلاد أن تحظَى بهذه المكانة إلا بتوفيقِ الله لها بأن أخلصَت التوحيد، وطبَّقَت الشرعَ المجيد، وتوسَّطَت في دينِ الله بعدلٍ وحقٍّ، والتزَمَت قِيَمَ الإسلام الصحيح ومبادِئَه، حتى حظِيَت باحتِرام المُسلمين وشهادتِهم لها بالرِّيادة، مع الخير الكثير في عُموم المُسلمين في كلِّ البلاد، وتآزُرهم معها.

وعندما تقعُ الحوادِث فإن المملكة لها مبادِئُها وقِيَمُها الثابتة على الحقِّ والعدلِ، يُعاضِدُها في ذلك أشقَّاؤُها وحلفاءُ الصِّدقِ، وفي الأمة خيرٌ كثير.

أيها المسلمون:

لم تزَل سُنَّةُ الله –تعالى- تقضِي صِراعَ الحقِّ والباطِل، واختلافَ البشَر وتعارُكَهم، والابتِلاءَ بالشرِّ والخيرِ فتنة، إلا أن الله تعالى لم يُسلِم أولياءَه؛ بل علَّمَهم وأرشدَهم، وجعلَ بين أيديهم كتابًا يستَهدون بهديِه، ويقتبِسُون من نُوره، يجبُ أن يكون مفزَعَهم، وسُنَّةُ رسولِ الله قُدوتَهم، أين ما كانت بلاءاتُهم، وكيفما كانت مواجِعُهم.

أمة الإسلام في كل مكان:

إليكم قبَسٌ من كتابِ الله، وموقفٌ مرَّ على رسولِه وصحبِه، فيه ثباتٌ للمُؤمنين، وعزاءٌ للمكلُومين، وأزرٌ للصامِدين. ففي سُورة آل عِمران عرضَت الآياتُ كفاحَ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه مع قومِهم من المُشركين، وانتِصار المُؤمنين في بدر، وانكِسارَهم في أُحُد، والابتِلاءات والمِحَن، وأحوالَ المُؤمنين والشهداء، ومواقِف المُنافِقين والأعداء، في مسيرةٍ طويلةٍ تحكِيها الآيات، وتعرِضُها مقرونةً بالعِبَر والعِظات، تُعلِّلُ للأحداث، وترسُمُ السُّنَن، وتدعُو للنظر في الأسباب والعواقِب، وتحُثُّ على اليقين والثبات في المبادئ والمواقِف.

ففي المبادئ: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران: 20]، وفي المواقِف: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، وفي تعزيَة المُؤمنين المُصابِين: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 140، 141]، فإن الباطلَ لا مُستقبلَ له.

لا بُدَّ من جِراحٍ وابتِلاءات تكشِفُ العدوَّ من الصديق، وتُفرِزُ طُلاَّبَ المنافِع والمصالِح، وتستبقِي أهلَ الإخلاص والصدقِ الذين ينصُرون نبيَّهم في البأساء والضرَّاء، ويلُوذُون بربِّهم مهما تقلَّبَت الليالي.

أيها المسلمون:

وقد ذكرَ الله في هذه السورةِ ما حصلَ للمُسلمين بعد هزيمتِهم في أُحُد، فقال مُمتدِحًا أولياءَه: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ..)، الآيات [آل عمران: 172].

وهي واقعةٌ سُمِّيت بغزوة (حمراء الأسد)، وفيها درسٌ من دُروس السياسة والعزَّة والفِداء، ذلك أن المُسلمين أصابَهم القرحُ في أُحُد، وحلَّت بهم هزيمة، وقُتِل سبعُون من الصحابة، وتولَّى المُشرِكون وأقامُوا بالرَّوحاء، فخشِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من طمعِهم في الضَّعف الذي طرأَ على المُسلمين، فيكِرَّ المُشرِكون على المدينة وما فيها من ذَرارِي وأموال.

قال الراوي: لما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الصُّبحَ بعد أُحُد، ومعه وجوهُ الأوس والخزرَج، وكانوا باتُوا في المسجِد، فلما انصرَفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الصُّبح أمرَ بِلالاً أن يُنادِي: «إنَّ رسولَ الله يأمرُكم بطلبِ عدوِّكم، ولا يخرُج معنا إلا من شهِدَ القتالَ بالأمس».

عادٍ راجِعًا إلى دارِه يأمرُ قومَه بالمسير، قال والجراحُ في الناس فاشِية، عامَّةُ بني عبد الأشهل جريح، بل كلُّها، فجاء سعدُ بن مُعاذٍ فقال: إن رسولَ الله يأمرُكم أن تطلبُوا عدوَّكم.

قال: يقول أُسَيدُ بن حُضَير - وفيه سبعُ جِراحات وهو يُريدُ أن يُداوِيَها، سمعًا وطاعةً لله ولرسولِه -، فأخذَ سلاحَه ولم يُعرِّج على دواءِ جُرحِه، ولحِقَ برسولِ الله.

وجاء سعدُ بن عُبادة إلى قومِه بني ساعِدة، فأمرَهم بالمَسير، فتلبَّسُوا ولحِقُوا.

وجاء أبو قتادة إلى أهل خربَا وهم يُداوُون الجِراح، فقال: هذا مُنادِي رسولِ الله يأمرُكم بطلبِ عدوِّكم، فوثَبُوا إلى سِلاحهم، وما عرَّجُوا على جِراحاتهم.

فخرجَ من بني سلِمَة أربعون جريحًا، بالطُّفيل بن النُّعمان ثلاثة عشر جُرحًا، وبخِراش بن الصُّمَّة عشرُ جِراحات، وبكعبِ بن مالكٍ بضعَة عشر جُرحًا، وبقُطبَة بن عامرٍ تسعُ جِراحات، حتى وافَوا النبيَّ ببِئر أبي عِنَبة برأس الثنِيَّة، عليهم السلاح، قد صفُّوا لرسولِ الله.

فلما نظرَ رسولُ الله إليهم والجراحُ فيهم فاشِية قال: «اللهم ارحَم بنِي سلِمَة».

قال الواقديُّ: "وحدَّثني عُتبةُ بن جُبَير عن رِجالٍ من قومِه قالوا: إن عبدَ الله بن سهل ورافِع بن سَهل بن عبد الأشهَل رجَعَا من أُحُد وبهما جِراحٌ كثيرة، وعبدُ الله أثقلُهما من الجِراح، فلما أصبَحوا وجاءَهم سعدُ بن مُعاذٍ يُخبِرُهم أن رسولَ الله يأمرُهم بطلبِ عدوِّهم قال أحدُهما لصاحبِه: والله إن تركَنا غزوةً مع رسولِ الله لغَبْن، واللهِ ما عندنا دابَّةٌ نركبُها وما ندرِي كيف نصنَعُ؟

فقال عبدُ الله: انطلِق بنا، قال رافِعٌ: لا واللهِ ما بي مشيٌ، قال أخوهُ: انطلِق بنا نتجارُّ ونقصِد، فخرجَا يزحَفان، فضعُفَ رافِع، فكان عبدُ الله يحمِلُه على ظهره عقبةً، ويمشِي الآخرُ عقبةً، حتى أتَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عند العشاء، وعلى حرسِه تلك الليلة عبَّادُ بن بِشر.

فأُتِي بهما إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما حبَسَكما، فأخبرَاه بعلَّتهما، فدعَا لهما بخيرٍ وقال: «إن طالَت لكم مُدَّة كانت لكم مراكِبُ من خيلٍ وبِغالٍ وإبِل ..» الحديث".

وخرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مجرُوح، في وجهِه أثرُ الحلقتَين، ومشجُوجٌ في جَبهته في أُصول الشَّعر، ورباعيَّتُه قد شُظِيَت، وشفَتُه قد كُلِمَت من باطنِها، وهو مُتوهِّنٌ منكِبَه الأيمن بضربَة ابن قَمِيئة، ورُكبتَاه مجحُوشَتان.

فدخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسجِد فركعَ ركعتَين، والناسُ قد حشَدُوا، ونزلَ أهلُ العوالِي، حيث جاءَهم الصريخُ، ثم ركعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتَين، فدعا بفرسِه على بابِ المسجِد، وتلقَّاه طلحةُ وقد سمِع المُنادِي، فخرجَ ينظرُ متى يسيرُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.

فإذا رسولُ الله عليه الدِّرعُ والمِغفَر، وما يُرى منه إلا عيناه، فقال: «يا طلحةُ! سِلاحُك!»، فقلتُ: قريبًا. قال طلحةُ: فأخرجُ أعدُوا فألبَسُ دِرعي وآخُذُ سيفِي، وأطرَحُ درقَتي في صدري، وإن بي لتِسعُ جِراحات، ولأنا أهمُّ بجِراحِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مني بجِراحي.

ثم أقبلَ رسولُ الله على طلحَة، فقال: «ترى القومَ الآن؟»، قال: هم بالسيَّالة، قال رسولُ الله: «ذلك الذي ظننتُ، أما إنهم يا طلحةُ لن ينالُوا منَّا مثلَ أمسٍ حتى يفتَح الله مكةَ علينا».

ومضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابِه حتى عسكَروا بحمراء الأسد، قال جابر: "وكان عامَّةُ زادِنا التَّمر".

وحملَ سعدُ بن عُبادة ثلاثين جملاً، حتى وافَت الحمراء، وساقَ جُزُرًا، فنحَرُوا في يومٍ اثنين، وفي يومٍ ثلاثًا، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرُهم في النهار بجمعِ الحطَب، فإذا أمسَوا أمرَنا أن نُوقِدَ النِّيران، فيُوقِدُ كلُّ رجلٍ نارًا.

فلقد كنا تلك الليالي نُوقِدُ خمسمائة نار حتى تُرى من المكانِ البعيد، وذهبَ ذِكرُ مُعسكَرنا ونيرانِنا في كل وجهٍ، حتى كان مما كبَتَ الله عدوَّنا، وهو قولُ الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173، 174].

هذه قصةُ (حمراء الأسد) وهذا خبرُهم. فقد تحاملَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، وسارُوا يحمِلون معهم آلامَهم وجِراحَهم، ويضمُّون بين الضُّلوعَ مواجِعَهم ومُصابَهم، ليُبيِّنُوا لعدوِّهم أنهم لم تزَل بهم شوكة، وأن الحِمَى به حِماتُه، ولم ينهزِموا مع جِراحاتهم، وأن الحِمَى إذا لم يُرَ به أسودٌ وطِأَته الثعالِب. فنصرَ الله المُؤمنين، وردَّ كيدَ المُعتَدين.

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 139- 142].

بارَك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله العليِّ القدير، (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر: 3]، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ، يُحيِي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت، بيدِه الخيرُ وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهَدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذيرُ، والسراجُ المُنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأزواجِه وأصحابِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإننا نرى تكالُب الشرقِ والغربِ على المُسلمين، ونرى في الوقت نفسِه انبِراء العدوِّ المُتخفِّي، والذي لم يُضيِّع فُرصةً على مرِّ تاريخِه الطويل، من طعنِ الأمة في ظهرِها مُظاهرةً لأعدائِها، وخلخلةً لصُفوفِها من داخلِها، مُستغلاًّ حوادِثَ التاريخ ومظالِم لم تكُن تَعنِيه، ولم تتَّصِل أسبابُها بسببِه.

يتَّهموننا بالإرهاب ونحن من اكتوَى بنارِه! إنه التناقُض والظلمُ الصُّراح، الذي يستنهِضُ الأمةَ للدفاع عن نفسِها، مُعتمِدَةً على الله الواحدِ الأحد، وإن كلما نسمعُه ونراه من تغيُّرٍ في السياسات، وتبدُّلٍ في التحالُفات لن يُضيرَنا ما دُمنا مُعتصِمين بمن لا يُبدِّلُ إلا إن بدَّلنا، ومن لا يخذُلُنا إن نحن به التَجأنا، فهو ضمانٌ لنا في الدنيا والآخرة، ولم يخذُل من قصدَه مهما كان الحال.

إن القُربَ من الله في كل وقتٍ، وفي هذه الأحوال بالذات هو الواجبُ المُتحتِّم، يجبُ أن يُساقَ الناسُ إلى الله، وتتَّصِل حبالُهم به، أما حرفُهم عنه فهو الغنيمةُ البارِدةُ للأعداء.

وإن بلادَنا - بحمدِ الله - نُخبًا وعامَّة، على قدرٍ من الوعيِ بما يحدُثُ ويُحاكُ، وقد اعتَدنا على هذه الأحداث التي تُظهِرُ المعدِنَ الحقيقيَّ للعرب في هذه البلاد ومُسلمِيها، فيظهر فيهم عُمقُ التديُّن وصِدقُ التوكُّل، كما تُجلِّي الأُخُوَّةُ الاتِّحادَ، وتدفعُ القيادةَ من الحلمِ إلى الحَزم، في اتِّكاءٍ على الأصل الذي قامَت عليه، وتمسُّكًا بالأساس وهو التوحيدُ والوحدة، والاعتِمادُ على رِجالها وإعداد العُدَّة.

إننا نظرُ إلى أمَّتنا وهي ترمُقُ المُستقبَلَ بأملٍ، وتنشَطَ كي تتقدَّم وتُزاحِم وتسبِق، ولن تستسلِم وإن حاصَرَتها العقبات، ولن تُوقفَها المتاعِب، ولن تيأَسَ وهي الأمةُ المرحُومةُ المنصُورةُ، وبين أعيُننا وعدُ الله، ولسنا أوَّلَ أمةٍ فُرِضَ عليها أن تُكافِح لتحيَا كما تُريد.

والمُسلِمون منذ بدؤُوا تاريخَهم لم تخلُ لهم الحياةُ من مُعيق، ولا خلا لهم الطريقُ، إنها سُنَّةُ الله، وكلُّ استِرخاءٍ أو تغافُلٍ يستغلُّه شياطينُ الإنسِ والجنِّ للنَّيل من الحقِّ وأهلِه.

وواللهِ لن يُخزِيَنا الله، ولن يخذُلَنا ونحن نترسَّمُ أهدافَنا التي رسمَها القرآن: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].

إن عملَ الخير والدعوةَ إلى الخير سِماتُ هذه الأمة الظاهِرة، وملَكَاتُها الباطنة، ووظيفتُها الدائِمة، وشُهرتُها التي تملأُ الآفاق. وما يُنتظرُ من أمةٍ تحمِلُ رسالةَ الله وتتبنَّى دعوةَ الحقِّ إلا أن تكون حارِسةً للشَّرَف، مُترفِّعةً عن الدَّنايا، مُتواصِيةً بالمرحَمة، منظورًا إليها على أنها سنَدُ الضَّعيف، وجارُ المظلُوم.

وبلادُنا - بحمدِ الله - جديرةٌ بذلك سَمحَةٌ به، والتوحيدُ أحبُّ إلى الله من الشِّرك، والإيمانُ أحبُّ من الكفر، والعدلُ أحبُّ إليه من الظُّلم، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105].

والدولةُ - بحمد الله - قويةٌ بربِّها، ثم بمبادِئها الثابتة وإيمانها الرَّاسِخ، قويَّةٌ برِجالاتها وطاقاتِها وإمكاناتِها، ولن تسمَح بما يُزعزِعُ أمنَها، ويُشتِّتُ أمَّتَها، وهي حاضِنةُ الإسلام، وقِبلةُ المُسلمين، وحارِسةُ الحرمين الشريفين، وحدودُها تمتدُّ في قلوبِ مليارٍ من المُسلمين، ومهابتُها واحترامُها يتجاوزُ البحارَ والقِفارَ.

حفِظَ الله بلادَنا وبلادَ المُسلمين.

اللهم إنا نبرأُ من حولِنا وقوَّتنا إلى حولِك وقوَّتك، على الله توكَّلنا، ربَّنا لا تجعَلنا فتنةً للقومِ الظالمين، ونجِّنا برحمتِك من القومِ الكافِرين.

ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: محمدِ بن عبد الله.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدة والمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المؤمنين.

اللهم انصُر المُجاهدين في سبيلِك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم أنقِذ المسجد الأقصَى والمُؤمنين فيه وحولَه من عُدوان المُعتدين وظُلم المُحتلِّين، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يُعجِزونك.

اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، وفي سُوريا، وفي كل مكان، فإنه قد عظُم عليهم الخَطب، واشتدَّ الكرب، ولا ناصِر إلا أنت سُبحانك، فاللهم عجِّل بالنصر والفرَج، اللهم الطُف بهم، اللهم الطُف بهم، اللهم الطُف بهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم احفَظ بلادَنا وبلادَ المُسلمين من كل سُوءٍ ومكروه، اللهم من أرادَنا وأرادَ الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحره، اللهم من أرادَ بلادَنا وولاتنا وعلماءَنا وعامَّتنا ووحدَتنا بسوءٍ فأشغِله بنفسه، واجعَل دائرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، ووفِّقه ونائبَيه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.

اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المؤمنين.

اللهم انشُر الأمن والرخاء في بلادنا وبلاد المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].

اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا.

اللهم اغفر للمُسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم، اللهم ارحَمهم كما ربَّونا صِغارًا، اللهم من كان منهم حيًّا فمتِّعه بالصحة والعافيةِ على طاعتِك، ومن كان منهم ميتًا فتغمَّده برحمتِك، ونوِّر له في قبرِه ووسِّع له فيه، واجعَله روضةً من رِياض الجنة، واجمَعنا به في  دارِ كرامتِك.

ربنا اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذريَّاتهم، وأزواجنا وذريَّاتنا، إنك سميع الدعاء.

نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم ونتوبُ إليه.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضار، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والباد.

اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.

ربَّنا تقبَل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

سبحان ربِّك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.