الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | محمد نجيب بنان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
لكن الدعم لم يفلح، والشهداء بالعشرات يتساقطون، فما كان من القائد الشهم البطل إلا أن نزل بنفسه إلى ساحة القتال؛ ليرفع تلك الغمة عن الميمنة، وما أن وصل أرض المعركة، حتى صرخ بأعلى صوته: واإسلاماه! دوَّى الصوت عاليًا، ووصل إلى كل المعسكر، فارتفعتْ به روحُهم، واطمأنتْ به نفوسُهم، ثم أخذ خوذته وألقى بها على الأرض؛ إشارة لشوقه للشهادة، وأنه لا يخاف الموت..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أعزَّنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ومنَّ علينا بأن جعلنا مِن أمَّة خير الأنام، سيدنا محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام-.
أما بعد:فـ(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)[محمد: 7]؛ إن تنصروا الله على شهواتكم، ينصركم على أعدائكم، بهذا الاعتقاد سار البطل، وبهذه الروح سلَّح جندَه، ولإعلاء كلمة الله تحرَّك، تحرك بطلُنا المغوار؛ ليردَّ شرَّ وكيد التتار، عن المسلمين الأخيار، وهو يعلم أنه إن لم يفعل، فمصيره إلى النار، سار والأملُ بالنصر يحدوه، والشوقُ للقاء ربه يسيِّره.
انطلقَتِ القوات الإسلامية من أرض الكنانة، من معسكر الصالحية في القاهرة، بقيادة سيف الدين قطز، وهم بشوق لذلك اللقاء، لقد أقسموا أن يرى اللهُ منهم خيرًا، وها هم ماضون ليبرُّوا بقَسَمهم، اجتازوا سيناء باتجاه غزة، سالكين الطريق المحاذي للبحر، ودخلوا غزة، آهٍ على غزة! لك الله يا غزة؛ (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة: 214]؛ يا أهل غزة، إن نصر الله قريب، فأنتم قد صبرتم، وحاشا أن يتخلى الله عنكم، أما المتخاذلون، فالويل ثم الويل لهم.
وصل الجيش غزة، ولم يكن فيها إلا فرقة صغيرة من جيش التتار بقيادة بيدر، الذي ما أن سمع بجيش المسلمين، حتى أرسل يطلب العون والمدد من قائد الجيش كتبغا، الذي رد على الرسالة بأنه سيرسل المدد لهم، وكان من المقرر أن يذهب كتبغا بنفسه لمساندة بيدر؛ لكن أحداث شغب حصلت في دمشق حالتْ بينه وبين ذهابه.
وفي هذه الأثناء، كان قطز يواصل السير على الساحل الفلسطيني، ثم انعطف إلى الداخل، ومضى شمالاً؛ لتهديد مواصلات كتبغا إذا حدث وتقدَّم إلى فلسطين.
والتقى الجيشان في غزة، وكانت معركة خاطفة، سقط فيها التتار سراعًا، وكان هذا أول انكسار لهم، وأراد قطز أن يبدأ بهذا العدد القليل من الجيش؛ ليرفع من معنويات جيشه، وليثبط من معنويات جيش التتار، الذي هُزم على يد الخوارزميين في غير موقعة -كما أشرنا في الحلقة الأولى- كما هزمهم صاحب ميافارقين أيضًا؛ ولكنهم قد صاروا أسطورة.
ووصل القائد قطز في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان، إلى منطقة عين جالوت، فاختارها مكانًا للنزال، وساحة للوغى. وفي اليوم الخامس والعشرين وصل جيش التتار الجرار، يتقدمه كتبغا قائد الجيوش الأعظم، ولم يكن يعلم أن جيش المماليك أضحى قريبًا منه.
وكخطة حربية، أخفى قطز القسم الأكبر من جنده خلف التلال القريبة، ودفع بقطعة من الجيش - وهي المقدمة - بقيادة بيبرس، ووصل بيبرس وحصلت مناوشات بينهما، استطاع بيبرس من خلالها استدراجَ التتار إلى كمين، فما أن بدأ القتال بينهما، حتى أظهر بيبرس انكساره، وبدأ ينسحب، والتتار تتبعهم، وانطلت الفكرةُ عليهم، حتى وصلوا إلى الكمين، فوقعوا فيه، ثم بدأت المعركة شديدةً طاحنة.
ولم تمضِ سوى ساعات حتى بدا تقدم المسلمين، لكن الحرب كرٌّ وفرٌّ، استعاد التتار مواقعهم، وأعادوا ترتيب أوراقهم، وبدأتْ ميمنتهم تضغط -وبشدة- على ميسرة المسلمين، ولو أنهم واصلوا تقدمهم فاخترقوا الميمنة، لاستطاعوا الالتفاف حول المسلمين والقضاء عليهم؛ لكن قطز الواقف على مكان مرتفع يراقب سير المعركة، ويصدر أوامره في كل صغيرة وكبيرة، رأى تقدُّم ميسرة التتار، وانكسار ميمنة المسلمين، فألقى بالقوات الاحتياطية لدعم الميمنة؛ لكن الدعم لم يفلح، والشهداء بالعشرات يتساقطون، فما كان من القائد الشهم البطل إلا أن نزل بنفسه إلى ساحة القتال؛ ليرفع تلك الغمة عن الميمنة، وما أن وصل أرض المعركة، حتى صرخ بأعلى صوته: واإسلاماه!
دوَّى الصوت عاليًا، ووصل إلى كل المعسكر، فارتفعتْ به روحُهم، واطمأنتْ به نفوسُهم، ثم أخذ خوذته وألقى بها على الأرض؛ إشارة لشوقه للشهادة، وأنه لا يخاف الموت، وبدأ يضرب يمينًا وشمالاً، والرؤوس تتطاير أمامه، وحمامات الدم غاصت بها الخيول إلى الركب، وفي هذه الأثناء لمح تتريٌّ الأميرَ قطز، فاستغلَّ نزوله إلى الساحة؛ لكي يقتله، وهو يعلم أن قتل القائد يعني هزيمة جنده (هذا في عرفهم فقط)، فما كان من التتري إلا أن صوَّب سهمه باتجاه قطز ورمى؛ ولكن لحكمة شاءها الله، فإن قطز لم يُصَبْ بأذًى، وإنما أصاب السهم عنق فرسه، فوقع من ساعته، وصار قطز يقاتل راجلاً دون فرس.
رآه أحد الأمراء، جاء إليه وأعطاه فرسه؛ لكنه لم يَقبَله، وقال له: ما كنت لأحرم المسلمين من نفعك، وأُتي له بفرس من الخيول الاحتياطية فرَكِبَه، وتابع قِتاله، فما هي إلا ساعة من نهار، حتى بدا واضحًا التقدمُ الإسلامي، والتراجعُ التتري، وما لبثوا أن وقع ابن قائدهم كتبغا في الأسر، وجيء به إلى قطز، فأمر بقطع رأسه، ووُجد أبوه في القتلى، ففرَّ الجيش وانهزم.
لما انتهت المعركة كلَّموه، فقالوا له: لِمَ لَمْ تأخذِ الفرس؟ لقد كدتَ تُهلك نفسَك والجيشَ! فقال - بكل إيمان -: أما أنا، فأروح إلى الجنة، وأما هذا الدِّين، فإن له ربًّا يدافع عنه ويحميه، ولقد استشهد فلان وفلان، وعمر وعثمان، فقيَّض الله لهذا الدِّين مَن يقوم بأمره، وما ضاع الدين.
ومرَّ العسكر قرب بيسان، فرجع التتر وعاودوا القتال وبشراسة أكبر؛ انتقامًا لقائدهم الذي قُتل، وزلزل المسلمون زلزالاً شديدًا، وأبلوا بلاءً حسنًا، وما هي إلا غمضة عين وانتباهتها إلا والتتار يتراكضون أمام المسلمين تراكض النعاج أمام راعيها، والمسلمون يَقتلون ويأسرون ويجمعون الغنائم، ورأى قطز ذلك المشهد، ففاضتْ عَبرتُه، وسالتْ على الخد دمعتُه، ونزل على الأرض يقبِّلها ويمرغ بها وجهه، وصلى لله ركعتي شكر ومضى.
وكتب السلطان قطز إلى أهالي دمشق يبشِّرهم بالنصر وبفتح الله، وهو أول كتاب ورد منه إلى أهالي دمشق، فاستقبلوا الكتاب فرحين مستبشرين بقرب نصر الله.
وبعد أيام قلائل، توجَّه السلطان إلى دمشق؛ ليتابع ما جاء من أجله، وهو تطهير بلاد الشام من أذى التتار، ووصل دمشق صبيحة يوم عيد الفطر، وهو أحلى عيد مرَّ على أهالي دمشق، استقبلوا فيه المحرِّرَ بالورود والزغاريد، كان يوم سرور، سبقتْه سبعةُ أشهر من القهر والظلم، ذاقها الدمشقيون على يد التتار.
وأرسل قطز بيبرس لمتابعة وملاحقة فلول التتار، فاتَّجه شمالاً حتى وصل حلب، وهي المعقل الشمالي للتتار.
هولاكو في هذه الأثناء، وبعد بلوغه خبر انكسار جيشه، أرسل تعزيزاته وتهديداته لاسترداد حلب؛ لكنه لم يستطع ذلك، وجلُّ ما استطاع هذا الجيش الغاشم فِعلَه هي مجازر قاموا بها قبل انسحابهم من حلب.
وليس من المبالغة أن نقول: إن معركة عين جالوت كانت حاسمة على كل المستويات. هناك في عين جالوت، وعلى أرض فلسطين الحبيبة، سطَّر إخوانكم ملاحم التضحية والفداء، فرفعوا اسم الإسلام عاليًا، كان ذلك بعد مضي أقل من قرن على معركة حطين.
فلسطين أرض البطولات قديمًا وحديثًا، فلسطين بمخلِصيها لم تركع يومًا، ولن تركع اليوم ولو تخاذل الجميع عنها؛ فهي تعلم أن الله معها، وكفى بمعية الله شرفًا ونصرًا.
وإن الله الذي نصر أولئك الأبطال قادر أن يمنَّ بالنصر على أولئك الشجعان، الذين يسطرون كل يوم للدنيا وللتاريخ وللعالم سطورًا في الشجاعة، لم يعهدها التاريخ من غيرهم، لم ولن يركعوا لغير الله، ومن صان جبهته عن السجود لغير الله، أعزَّه الله.
أنهى القائد أموره وإصلاحاته في دمشق، وعاد أدراجه قافلاً إلى القاهرة، ليلقى منيته هناك؛ (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)[الرعد:38]، وآن أوان كتاب ذلك البطل، الذي طالما شمَّ رائحة الجنة وهو في المعركة، وطلبها، لكنه لم ينلها، وحانت ساعة الصفر، فقُتل ذلك البطل بخديعة ومكيدة دبِّرت له؛ ليطوي برحيله صفحةً من صفحات الزمان المشرقة، وحاله تنشد وتقول: "غدًا ألقى الأحبة؛ محمدًا وحزبه".
قتل غدرًا، فخسر روحه؛ لكنه ربح الدنيا والآخرة، وكانت وفاته في منتصف ذي القعدة، فكانت مدة جلوسه سنة إلا قليلاً.
إخوتي في الله: ما ذكرته هو غيض من فيض من سيرة أولئك الشجعان.
إخوتي: ارجعوا إلى التاريخ فاقرؤوه؛ لتستفيدوا منه، التاريخ يكرر نفسه، إنها سنن الله في أرضه، سنن ثابتة لا تتغير.
اقرؤوا وسترون العجب، هل تعلمون أنه -ولأول مرة في تاريخ الحروب- يدخل المنتصر في دين المهزوم؟ نعم هذا ما حصل، فبعد معركة عين جالوت، دخل عدد كبير من التتار في دين الإسلام، وكان أول ملوك التتار دخولاً في الإسلام هو بركة خان، وكان معاصرًا لبيبرس، وكان ملكًا على بلاد الروس وبعض أواسط آسيا، وانتشر الإسلام بين قادته وجنده، ودخل أحد أبناء هولاكو في الإسلام، وذلك عندما خالطوا المسلمين، فرأوا منهم كل خير.
معركة عين جالوت مضت وانتهت، لكن فوائدها ودروسها لم تنتهِ.
اللهم أكرمنا بعين جالوت أخرى في القريب العاجل.
لاَهُمَّ قَدْ أَصْبَحَتْ أَهْوَاؤُنَا شِيَعًا | فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرَاعٍ أَنْتَ تَرْضَاهُ |
رَاعٍ يُعِيدُ إِلَى الإِسْلاَمِ سِيرَتَهُ | يَرْعَى بَنِيهِ وَعَيْنُ اللَّهِ تَرْعَاهُ |
أقول هذا، وأستغفر الله.