البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أسماء الله |
إن مما يدعِّم المعاني السابقة في قلوبنا أن نوقن أن خزائن الأقوات والأرزاق عند الله -تعالى- مملوءة لا تنفد وخالدة لا تفنى، قال -جلا وعلا-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر:21]، ومهما أنفق -سبحانه وتعالى- فإن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: كلما غلت أسعار السلع أو زادت المؤنة على المرء أو خوَّفوه بضيق رزق تذكَّر أن الله بجوده وكرمه قد تكفل للبشرية كلها بل لجميع دواب الأرض برزقها وقوتها، فقال -عز من قائل-: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا) [هود:6]؛ بل ولقد سمى -عز وجل- نفسه الرزاق والمقيت، فاطمأنت النفس أنها أبدًا لن تعدم ما به تقتات ما ربها هو المقيت، فسبحانه من كريم جواد!.
عباد الله: إن الله -تعالى- هو المقيت، ومعنى المقيت: خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان وهي الأطعمة، وإلى القلوب وهي المعرفة، فالمقيت -سبحانه- هو القائم على جميع المخلوقات بالتدبير والتصريف، الوهاب الرزاق، يصرَّف الأقوات بين جميع المخلوقات كيف يشاء، فهو -سبحانه- من أعطى كل إنسان وطير وحيوان قُوته على مر الأوقات، وهو الذي جعل في كل بلدة من المنافع والمكاسب والثمار ما لم يجعله في الأخرى؛ ليتبادل الناس حاجاتهم ومنافعهم، قال -تعالى-: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت:10].
وقد امتن المقيت -سبحانه- على عباده بأنواع رزقه الواصلة إليهم، فقال -عز من قائل-: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس:24-32]؛ فكما تكفل المقيت -عز وجل- بكامل الرزق للإنسان والحيوان، فقد تكفل المقيت -سبحانه بقوت القلوب من المعرفة والإيمان والسعادة والأمان.
وبهذا المعنى فالمقيت يكون بمعنى الرزاق، إلا أنه أخص منه؛ إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت.
أما المعنى الثاني لاسم الله المقيت فهو: المستولي على الشيء القادر عليه، وعلى هذا يكون معنى قول الله -عز وجل-: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) [النساء:85]؛ أي: مقتدرًا ومجازيًا، وهو من "أقات على الشيء" أي: قدر عليه، قال الزبير بن عبد المطلب:
وذي ضغن كففت الشر عنه | وكنت على إساءته مقيتًا |
أما المعنى الثالث لاسم الله المقيت فهو: الحافظ الحفيظ الذي أحاط بالعباد علمًا بأحوالهم وأفعالهم ونياتهم، القائم على جميع المخلوقات بالتدبير والتصريف، وهو المغيث لعباده في الشدائد إذا دعَوه، ومجيبهم ومخلّصهم، وعلاقة الحفيظ بالمقيت: أن المقيت مشتق من القوت، والقوت معناه: مقدار ما يحفظ الإنسان.
عباد الله: إن مما يدعِّم المعاني السابقة في قلوبنا أن نوقن أن خزائن الأقوات والأرزاق عند الله -تعالى- مملوءة لا تنفد وخالدة لا تفنى، قال -جلا وعلا-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر:21]، ومهما أنفق -سبحانه وتعالى- فإن ذلك لا ينقص شيئًا من تلك الخزائن الباقية، فعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "يد الله ملآى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات، والأرض؛ فإنه لم يغض ما في يده" (متفق عليه)، والسح هو الصب الدائم من الأرزاق والأقوات، ولم يغض أي لم ينقص.
ولو أعطى الله -عز وجل- لجميع المخلوقات أقصى أمنياتهم وأمانيهم وأحلامهم لم تنقص خزائنه، فعن أبي ذر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روى عن الله -تبارك وتعالى- أنه قال: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" (مسلم)
أيها المسلمون: ولا ينافي الإيمان بأن الله -تعالى- هو المقيت لجميع الخلائق أن يدخر الإنسان بعض قوته للأيام المقبلة، بل إن فيه فائدة، وهي ألا يظل الإنسان مشغولًا طوال وقته بتحصيل الرزق، فالادخار لا ينافي التوكل على الله، ولا يعارض القدر الذي كتبه الله، فالأخذ بالأسباب أمر مشروع ومتعبَد به، واحتياط الشخص لمستقبله أمر مرغَّب فيه، فقد روى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم" (متفق عليه).
بل وأكثر من ذلك، فلو عمل الإنسان وكد ليدخر لأولاده ما يكفيهم ويغنيهم بعد موته، فإنه عمل لا غبار عليه، ويؤجر عليه ما حسنت نيته، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك" (متفق عليه).
ولا يخفى أن إباحة هذا الادخار مشروطة بأداء جميع الحقوق الواجبة، في المال من الزكاة والإنفاق على من تجب النفقة عليه نفقتهم كالزوجة والأولاد والأبوين، ومشروطة بعدم الاحتكار المحرم أو التضييق على النفس والأهل حال الحياة، ومشروطة كذلك بألا يكون على حساب التوكل على الله، وألا يكون الادخار اعتمادًا على النفس دون الله، فإن حدث شيء من ذلك صار الادخار محرمًا.
وهناك أمر آخر ينبغي ألا يغفل، وهو أن يقدَّم الإنسان لنفسه من الصدقات الجارية والقربات والصلات ما ينفعه عند مولاه -سبحانه وتعالى-، وإلا حمل شر ماله ثم تركه لورثته يتمتعون به، تلك هي نصيحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟" قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: "فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر" (البخاري).
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المؤمنون: فإذا آمن العبد بأنَّ ربَّه -عز وجل- هو المقيت الرزاق الحفيظ، فسيثمر ذلك في قلبه العديد من الثمار اليانعة، ومنها:
أولًا: الحرص على أكل الحلال الطيب: فإنما يبعث على أخذ الحرام الخوف على الرزق والقوت، لكن إذا تيقن العبد أن الله -سبحانه- هو المُقيت الذي يطعمه ويقيته، وثق أنه لن يعدم قوتًا وربه هو المقيت، فيتعفف عن الحرام، ولا يأكل إلا الحلال.
وقد جاءت جملة كثيرة من التأكيدات على ضمان الرزق والقوت في القرآن والسنة، حتى لقد روى أبو الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله" (ابن حبان)، بل لو فررت أنت من رزقك لأدركك؛ فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت" (الطبراني).
ثانيًا: التعلق بذكر الله -تعالى-: فكما يسعى العبد لاكتساب قوت بطنه وجسده، فإنه كذلك يسعى لاكتساب قوت قلبه وروحه، وأعظم قوت للقلب وأنفعه هو ذكر الله -تعالى-؛ فحياة القلب التي يموت بذكر الحي الذي لا يموت، عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت" (متفق عليه).
ثالثًا: عزة النفس والاستغناء عمن سوى الله -تعالى-: فمن آمن أن الله -عز وجل- هو المقيت لا يتوجه إلا إليه بالخضوع والخشوع، وتجده عزيز النفس لا يطلب الحوائج إلا من الله وحده، ويأبى أن يتضعضع أمام أحد من الخلق؛ لأنه يوقن أن أحدًا غير الله لا يملك قوته، وعدم سؤال الخلق شيئًا هو ما بايع عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقوامًا من الصحابة، فعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "ألا تبايعون رسول الله؟" مرارًا، فقالوا: فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئًا"؛ فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إياه. (مسلم).
وقد علَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عباس -رضي الله عنهما- وعلَّم الأمة من بعده قائلًا: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" (الترمذي).
رابعًا: التوسط بين التبذير والتقتير: فرزق العبد وقوته إنما هو من المقيت -عز وجل-، وقد أمر -سبحانه وتعالى- قائلًا: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُل الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورا) [الإسراء:29]؛ وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف، أو مخيلة" (ابن ماجه).
خامسًا: إحسان العبادة وإتقان الأعمال: فإذا اطمأن العبد أن قوته ورزقه مضمون، ألقى عن نفسه هَمَّ الانشغال به، وصار كل همِّه هو الاهتمام بما خلق من أجله من أداء العبادات على خير ما يحب الله، وكذلك أتقن أعماله الدنيوية إتقانًا؛ كمثل موظف أرسلته دولة ما في مهمة، وأمَّنت له كافة احتياجاته، فإن أداءه وقيامه بالمهمة سيكون أرقى وأتقن مما لو أرسلته بدون ذلك؛ فسيشغله عن مهمته تخوفُه على قوته.
سادسًا: الجود والكرم والإيثار: فدائمًا وأبدًا يخوِّف الشيطانُ الإنسان من الفقر إذا ما جاء لينفق، لكن الله -عز وجل- يعِد المنفق بالإخلاف؛ قال -تعالى-: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:268]؛ فإذا تم إيمان العبد بأن الله هو المقيت، كذَّب الشيطان وصدَّق الرحمن، ففاضت كفه بالإنفاق.
فيا رب إن الرزق رزقك، والكون كونك، والخزائن خزائنك، فلا تحرمنا رزقك، وتفضل علينا من فضلك، فلا غنى بنا عنك طرفة عين...
وصل اللهم على محمد...