التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | يحيى جبران جباري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
ها أنا اليوم جئتكم بقصة لأحد أولئك الصحابة الذين قل ذكرهم، وكادت تنسى عند جيل اليوم أسماؤهم وأفعالهم وما قدموه من تضحيات وفدائية لدين الإسلام خاصة، ولهذه الأمة عامة، رغم اختلاف ألوانهم، وصفاتهم وأنسابهم، وطبقاتهم الاجتماعية. هذا جليبيب -رضي الله عنه- من فقراء الصحابة، ذميم الخلقة، لكنه حسن الخلق، وكان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله جعل في قصص الأوائل عبرة، أحمده سبحانه وأزيد شكره، وأطلب عونه، وأساله هديه، وأرجو عفوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده، وأشهد أن محمدا رسوله وعبده، حمل الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، فصل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن التزم سنته ونهجه.
ثم أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي المقصرة بتقوى الله، والخوف منه والإخلاص في القول والعمل له قبل لقياه، وعدم التعلق بملذات وشهوات هذه الحياة، فالدنيا فانية، وطول العمر فيها كالدقيقة، وقليله كالثانية، فاتقوا ربكم، واقصدوا جنانه العالية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون: يقول ربكم مادحا رسوله وصحابة نبيكم: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلك مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الفتح: 29]، وقال سبحانه: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)[الأحزاب: 23-24].
وجاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالدٌ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدَكم لو أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مدَّ أحدِهم ولا نصيفهُ".
ومن ثناء النبي -صلَّى الله عليه وسلم- عليهم؛ ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "مر أبو بكر والعباس -رضي الله عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلَّى الله عليه وسلم- منا، فدخل على النبي -صلَّى الله عليه وسلم-، فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي -صلَّى الله عليه وسلم-، وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر ــولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" كما جاء في صحيح البخاري.
وقوله عليه الصلاة والسلام عمن شهد بدرا معه: "لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة" أو "فقد غفرت لكم".
وكم هي الأدلة الواردة من الكتاب والسنة في فضلهم وحقهم رضي الله عنهم أجمعين.
وها أنا اليوم جئتكم بقصة لأحد أولئك الصحابة الذين قل ذكرهم، وكادت تنسى عند جيل اليوم أسماؤهم وأفعالهم وما قدموه من تضحيات وفدائية لدين الإسلام خاصة، ولهذه الأمة عامة، رغم اختلاف ألوانهم، وصفاتهم وأنسابهم، وطبقاتهم الاجتماعية، في زمن كان الفيصل فيه حب الله -جل وعلا- وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ هذا جليبيب -رضي الله عنه- من فقراء الصحابة، ذميم الخلقة، لكنه حسن الخلق، وكان لا ينظر إليه، ولا يعتبر به، عند من يعرفه ومن لا يعرفه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكفى به، فقد كان يجلس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- جل وقته، فلا حسب ولا نسب، ولا مال ولا جمال، ويا لعلو ورفعة من جلس بين يدي الحبيب المصطفى، وفاز بقربه وحبه.
أيها الأحبة: في نظر كثير من الناس أن الفقير والضعيف وغير الجميل لا يملك من مقومات السعادة شيئا؛ إذ أنهم يظنون أن السعادة في المال أو الجمال، أو المنصب، أو الحسب والنسب، أما جليبيب فكان فقير الحال، لكنه غني بالإيمان، ورفع الله نسبه بالإسلام، وشرفه الله بالدخول في هذا الدين؛ فعن أبي برزة الأسلمي قال: "إن جليبيب كان امرءًا يدخل على النساء يمازحهن ويلاعبهن" قال أهل العلم: والمراد بالملاعبة هنا "الحديث معهن والدخول عليهن قبل الأمر بالحجاب"، فقلت لامرأتي: "لا تدخلن عليكن جليبيب؛ فإنه إن دخل عليكن لأفعلن وأفعلن"، وقد كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أَيم (يعني أرملة او مطلقة) لم يزوجها حتى يعلم، هل للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيها حاجة أم لا، ومرة كان جليبيب يجلس عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: "أأزوجك يا جليبيب؟" فاستغرب من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: من يزوجني يا رسول الله بحال المعسر وغير القادر، ومن يعرف قدره عند الناس، لكنه لم يكن يعرف قدره عند من هدى الله به الناس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل من الأنصار: "زوجني ابنتك" قال: نعم وكرامة يا رسول الله ونعمة عين، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لست أريدها لنفسي" قال: فلمن؟ قال صلى الله عليه وسلم : "لجليبيب" فقال: يا رسول الله أشاور أمها؟ فأتى أمها، فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب ابنتك، فقالت: نعم، ونعمة عين، فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه؛ إنما يخطبها لجليبيب، فقالت: أجليبيب أينه؟ أجليبيب أينه؟ (يعني بعدا على جليبيب) ألا لعمر الله لا نزوجه، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله فيخبره بما قالت أمها، قالت الجارية (يقصد البنت المخطوبة): من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها؛ قالت بحال المؤمنة الراضية بما قسم الله لها، وطاعة لله ولرسوله: أتردون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره؟ ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام أبوها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: شأنك بها فزوجها جليبيبا، ودعا لها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبينما الرجل في خضم فرحته بالزواج الذي كان يظن أنه لن يطاله، وبين يديه امرأة حلم بضمها إليه لتكون عفافه وسكنه، نادى مناد الجهاد في سبيل الله، ففز جليبيب يريد ما عند الله، قال: "فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة له، وجليبيب معه، فلما أفاء الله عليه" يعني نصره الله في المعركة، قال لأصحابه -رضي الله عنهم-: "هل تفقدون من أحد؟" قالوا: نفقد فلانا ونفقد فلانا، قال صلى الله عليه وسلم: "انظروا هل تفقدون من أحد؟"، قالوا: لا، قال صلى الله عليه وسلم: "لكنني أفقد جليبيبا، فاطلبوه في القتلى"، يعني ابحثوا عنه بين القتلى، فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله ها هو ذا قد قتلهم ثم قتلوه، فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام عليه، فقال: "قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه" مرتين، أو ثلاثا.
ثم وضعه رسول الله على ساعديه، وأمر بأن يحفر له، وماله سريرٌ إلا ساعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم وضعه في قبره رضي الله عنه، فما لبثت زوجته بعده، حتى تسابق على الزواج منها، كبار الصحابة -رضي الله عنهم- (رواه أحمد، وأصله في صحيح مسلم).
فانظر كيف أن هذا الصحابي باع دنياه واشترى آخرته، وقدم نفسه قربانا إلى الله؛ لأنه يعلم أن السعادة في طاعة الله.
وانظر إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هو مني وأنا منه" أي على هديي وسنتي وطريقتي، وهذا إيماءٌ من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن جليبيبا قتل شهيدًا، وهو -بإذن الله- من أهل الجنة؛ فهذه السعادة الحقيقية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[آل عمران: 31].
بارك الله لي ولكم فيما أقول وتسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولمن أسلموا ويسلمون إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كل الخلق له عبيد، أحمده سبحانه وأشكره كما يحب ويرضى ويريد، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحميد، وأن محمدا عبده ورسوله وصاحب الخلق الفريد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه ولهديه مريد.
وبعد: يا من سخر الله لكم النعم، ونفعكم بالحديد، اتقوا الله فمن اتقى الله حق تقاته فاز بجنته، ثم المزيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال: 29].
عباد الله: إن التذكير بالرعيل الأول من الصحابة والتابعين له ضرورة عظمى في هذا الزمان، وتربية النشء على قصصهم وما كانوا عليه، له أثر عظيم جليل، فنحن في زمان أصبح قدوة النشء فيه الممثلون واللاعبون، يحفظون أسماءهم، ويقلدون لباسهم وأشكالهم، بل ويعرفون حتى تفاصيل حياتهم، فانعكس ذلك سلبا علينا وعليهم، والله المستعان.
والسبب هو جهلهم بأولئك الأعلام، وخلو عقولهم مما كان عليه السلف الصالح من دين وخلق وبطولات وصفات عظام، فأين اليوم من يجمع بنيه ويقص عليهم قصصا عن محمد -صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين، وعن أبطال هذا الدين ومن يواليه؟
وكلنا يرى جيل اليوم وما يشتكيه من جهل بأولئك الأخيار وما يعانيه.
أصلح الله أحوالنا وأحوال ذرارينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بقي أن أذكرك بأن على حدودنا اليوم جنود يدافعون عن الدين والأرض والعرض، هم جليبيب هذا الزمان أحسبهم والله حسيبهم، فكم من الفضل لهم بعد الله علينا، فأعينوهم بدعائكم، واطلبوا من الله النصر لهم، وبشروهم بقول ربكم: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُم بِهِ وذلك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 111].
تقبل الله قتلاهم شهداء وحفظ المجاهدين الأحياء ونصرهم على البغاة الأشقياء.
ثم صلوا وسلموا على خير الأنبياء، وقد أمرتم بذلك في قول فاطر الأرض والسماء: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].